آلان روب غرييه.. في ليبيا!
الآن، أذكر جيداً ذلك الحوار الطويل الجاد مع الروائي الفرنسي الكبير آلان روب غرييه الذي التقيته محاوراً مدة تسع ساعات وعلى مدار ثلاثة أيام متوالية، وقفت وإياه، وعبر الأسئلة والأجوبة، على أهم محطات حياته، وتأثير أسرته في تكوينه النفسي والاجتماعي والفكري، وتحصيله العلمي، والبدايات التي قادته إلى عالم الأدب والكتابة، والأسباب الكامنة وراء تفرد كتابته الروائية عن غيرها من الكتابات الروائية الفرنسية السابقة عليها، وعلاقته بأبناء جيله من الكتاب والأدباء، وقراءاته الأدبية والفلسفية، والتيار الأدبي الذي اختطه لنفسه، ورأيه بجائزة نوبل، ونظرته إلى القضايا الإنسانية الكبرى التي تتعلق بها مصائر الشعوب والأمم، ومدى اطلاعه على الأدب العربي قديمه وحديثه.
الآن، أتذكر ذلك الحوار، وأنا أعيش مع الكثيرين الكثيرين ثورة البلد الشقيق ليبيا، وانتفاضة أهله البواسل وهم بكامل وعيهم التاريخي الماجد، وبكامل لياقتهم الثقافية التي كانت في يوم من الأيام ندّاً للثقافتين اليونانية والرومانية.. وبكامل فورة أرواحهم المحتشدة بقولة عمر المختار: الشهادة أو النصر..
الآن،
أتذكر ذلك الحوار.. لأنني أجريته مع آلان روب غرييه في ليبيا، وقد انتحيت وإياه وزوجته جانباً بعيداً عن الضجيج الذي أحدثه الحضور الكبير للأدباء والكتاب والشعراء العرب والأجانب الذين جاؤوا إلى الملتقى الأدبي الذي ضمّنا بين جناحيه..
بصراحة.. فوجئت بوجود آلان روب غرييه بين أعضاء الوفود القادمة إلى ملتقى الثقافات العالمية، فهو رجل شيخ عمره آنذاك ( 2004) يقترب من الخامسة والثمانين، فذهبت إليه، وقد أذهلتني شخصيته، فهو رجل قصير جداً، وضامر جداً، له لحية بيضاء كثيفة جداً، وذراعان قصيرتان، وكفان تشبهان كفي طفل، وبقعتان أرجوانيتان تعلوان خديه، شفتاه رقيقتان، وأذناه ورديتان، وقدماه صغيرتان جداً، بدا طفلاً في قامته، ووردية وجهه، ..ولكن في إهاب شيخ كساه شيب ناصع البياض.. رأيته يجول بين حشد من الأدباء هو وزوجته التي تشبهه كثيراً.. في الطول، والضمور، ودقة التفاصيل.. وما إن استقر به المقام فوق كرسي طويل.. حتى جئت إليه مسلّماً ومفاتحاً إياه برغبتي في حواره..
نظر إليَّ مدهوشاً، وقال: تحاورني! قلت: نعم! فدوّر أصابع كفه اليمنى الصغيرة الناحلة.. متسائلاً، ثم قال: لي أربعة أيام هنا، لم يقترب مني أحد، لم يخالطني أحد، ولم يسألني أحد إن كنت بحاجة إلى دواء أو شيء ما، لم أُسأل عن مشاركة لي أو حديث، لم يقترب مني صحافي أو إعلامي، لم تسألني جهة تلفزيونية عن حوار أو ندوة..
لي أربعة أيام والخجل العميم يلفني أمام زوجتي التي كانت تصارحني ونحن داخل الطائرة، وفي الطريق إلى الفندق، بأنها ستفتقدني طوال الأيام السبعة، أيام الملتقى، وأنها تخاف على صحتي من التوعك والانحراف.. لأنني سأكون بعيداً عنها ومشغولاً بأسئلة أهل الرأي والإعلام والفكر والأدب.. وأن الندوات والحوارات، والمداخلات، والأسئلة، واللقاءات التلفزيونية والإذاعية.. ستأخذني منها.. لكن، ويا للأسف لم يحدث أي شيء من هذا، فقد بدوت نكرة.. شأني شأن أي عامل بوفيه أو خادم في هذا الفندق الوسيع.. وصمتَ للحظات، ثم نظر إليَّ، فرأى أساي وحزني، وقال.. لكنك تأتي أخيراً لتمحو شيئاً من حزني.. حين تطلب مني حواراً. وسألني آلان روب غرييه: من أي البلاد الليبية أنت؟ لا شك في أنك من العاصمة طرابلس! قلت، وقد عرفت قصده، ورغت بعيني عنه كي لا يرى دموعي: أنا من فلسطين، جئت إلى هنا من الشام العزيزة.. حيث أعيش. لحظتئذٍ، عصب آلان روب غرييه رأسه بيديه الصغيرتين.. وعصره، ثم انحدر بهما إلى وجهه فغطاه.. وحين رفعهما.. كانتا مثل عينيه بليلتين بالدمع. قال وقد راحت ذراع زوجته الملاصقة له تحيط بكتفيه، شدّاً ومعاضدة.. قال: من فلسطين؟ قلت: من فلسطين. قال: بسبب فلسطين حرمت من جائزة نوبل. قلت: كيف؟ قال: لأنني لا أطيق الدول الدينية. إسرائيل دولة دينية مغلقة ومتطرفة وعدوانية وعنصرية. قلت: لا بدّ وأنك انتقدتها. قال: كثيراً، وسأظل أنتقدها، وغير مؤمن بوجودها لأنها قامت على الظلم، وعلى حساب الشعب الفلسطيني. لحظتئذٍ وددت أن أعانقه وأن أحييه وأكبر فيه شجاعته.. لكنه حال دون ذلك عندما قال: لي أصدقاء فلسطينيون كثر عرفتهم في فرنسا؛ اثنان منهما اغتيلا على يد الموساد الإسرائيلي.. وصمتَ، وصمتُّ احتراماً لدموعه التي راح يستلها على أطراف أصابعه.. ثم، وبعد لحظات حسبتها طويلة، رفع رأسه، وقال وقد افترشت وجهه ابتسامة ناحلة: ظننتك ليبياً، أعني من الإعلام الليبي.. قلت له: لا.. وأوضحت له، ونحن في خلوتنا وزوجته تستمع باندهاش كبير، بأنه لن يأتي أحد من الإعلاميين الليبيين لكي يتحدث إليك، لن يطلب أحد منهم محاورتك، بل لن يطلب أحد منهم مجالستك أو التصوير معك، وأنت لن تشارك في ندوة أو حوار أو محاضرة، ولن تقدم شهادة أدبية عن أدبك، ولا عن تيارك الأدبي المتفرد، ولا عن مفهوم الروائية الشيئية التي ابتدعتها منذ نصف قرن ونيف. لن تُسأل عن علاقتك بـصموئيل بيكيت ولا عن أستاذيتك له.. قال: وهل أدباء ليبيا يجهلونني. قلت: لا! قال: إذاً.. لماذا وضعوني في مربع اللامبالاة.. وعدم الاهتمام؟.. قلت: لخوفهم من أن يُسألوا عن سبب الاقتراب منك. كل شيء هنا، وحسب رأيهم وقناعاتهم، مراقب جداً، لقد أفقدتهم سياسة الدولة حسَّ المبادرة، وحسَّ القبول للآخر والترحيب به.. إنهم يخافون الأسئلة التي سيواجهون بها إن خالطوك، وسوف يتهمون بالولاء للثقافات الأجنبية. الخوف، يا سيد غرييه، أسكتهم، وغياب الحرية دمرهم، وغيابات السجون وحالات الاعتقال للأدباء أصحاب الرأي والتعبير.. كلها جعلتهم من أهل الانطواء والانزواء والعزلة.. الكثير من أدباء ليبيا، أيها الروائي الكبير، تركوا بلادهم وأهلهم وأطفالهم خوفاً من السجون أو الموت البطيء البارد، الكثير من أساتذة الجامعات هاجروا.. تركوا خيرات البترول للسياسيين وهاجروا طلباً للحرية، الكثير من السياسيين اغتيلوا وسجنوا، الكثير من طلبة الجامعة شنقوا في طرابلس، وفي بنغازي.. الكثير من النساء صاحبات الرأي والسؤال عن ذويهن اغتصبن ثم ذوبت أجسادهن بالأسيد.. هنا في ليبيا لا توجد حياة ثقافية، هنا لا مجلات ولا صحف، ولا مواقع للكتابة الإلكترونية، لا ندوات ولا مؤتمرات وبالتالي لا توجد حياة إعلامية أو ثقافية أو فكرية تعيش عالماً من الحرية أو القدرة على أبسط أشكال التعبير.. كل شيء هنا تابع للسياسة، وكل شيء هنا تابع لرأي السياسي.. ولكن في ليبيا أدباء كبار بنوا أنفسهم خارج الأطر المحددة والمبوبة من قبل السياسي.. في ليبيا، وبيننا هنا، وفي هذا الملتقى.. أدباء كبار منهم: علي فهمي خشيم، وإبراهيم الكوني، وخليفة التليسي، وأحمد إبراهيم الفقيه، وزياد علي.. وفي الخارج يوجد مفكر كبير اسمه الصادق النيهوم، كما يوجد رسام كاريكاتير كبير جداً هو محمد الزواوي... قال: ما دمت تعرف ليبيا على هذه الحال.. لماذا أتيت إلى هنا؟ قلت: كي أرى أصدقائي. إنهم سجناء المكان.. ومن حقهم عليَّ أن أزورهم. كي أُخرج كتبهم إلى خارج ليبيا..
قال: يبدو أنني خنت نفسي عندما جئت إلى هنا! قلت: لولا محبتنا لكتاب ليبيا وأدبائها وفرصة اللقاء بهم.. لما جاء أحد إلى هنا!
ولم أقل شيئاً بعد هذا، لأنني رأيت الأسى يكسو وجه آلان روب غرييه.. ووجه زوجته.. وسمعته يقول لي، وهو ينهض:
نلتقي في الخامسة مساءً. هنا، هنا بالضبط، وأشار إلى مكان جلوسه.
الآن،
أتذكر حواري مع الروائي الكبير آلان روب غرييه..
وقلبي محتشد بقولة واحدة.. أيها الروائي الكبير.. هاهي ذي ليبيا تنهض، وتتحرر، وتستقل،.. أرجو أن تكون بخير.. لترى على الهواء المباشر.. حرية أهل ليبيا، حرية أدبائها وكتّابها وشعرائها.. وحرية طلبتها.. ونسائها.. وحرية أرضها الخيرة التي مشى دروبها رجل عظيم.. اسمه عمر المختار.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|