شم النسيم ..يوم " الخير و النماء" و يوم " الحصاد و الرخاء "
د. ناصر شافعي
يوم شم النسيم من الأيام البهيجة السعيدة في حياة الشعب المصري.. احتفل به المصريون القدماء منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ومازال المصريون يحتفلون بهذا اليوم الجميل حتى الآن .. رمزاً للخير و النماء ، وشكراً لله على نعمة الحصاد و الرخاء ..
فيخرج المصريون يحتفلون بهذا اليوم إلى الحدائق و المتنزهات و على ضفاف النيل .. يتمتعون بالنسيم العليل لأول أيام الربيع .. و لقد كتب المؤرخ اليوناني القديم " هيرودوت " الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد ، عن هذا اليوم و مظاهره ، مما يؤكد هذا التاريخ وأهميته في حياة المصريين .
لقد كان المصريون القدماء يحتفلون به يوم 27 من شهر برموده من كل سنة ، فهو بالنسبة لهم " عيد الأعياد " .و استمر هذا العيد على مر العصور و الأجيال .. و لم تحرمه الأديان .. حتى عندما دخلت الأديان السماوية إلى أرض مصر .. بل أكدت الاحتفال بهذا اليوم .. فهذا اليوم هو " يوم الحصاد " .. و هو أيضا " يوم الزينة " ذلك اليوم الذي قابل فيه موسى عليه السلام سحرة فرعون ، و أكلت عصاه عصيهم ، فألقى السحرة ساجدين .
.. وفي الأساطير القديمة الأولى يقال أن فيه مات " ست " إله الشر وأنتصر عليه إله الخير ..
وعندما دخلت المسيحية إلى مصر ، استمر الاحتفال بهذا العيد ، ولكن الذي تغير فقط هو موعد العيد .. فقد حدث أن جاء شم النسيم أثناء الصوم المقدس للمسيحيين ، مما جعل الاحتفال به غير ممكن .. لذلك تأجل موعده في هذا العام لليوم التالي لعيد القيامة .. أي بعد الانتهاء من الصوم .. و حتى لا يتكرر مجيئه في فترة الصوم المقدس ، اتفق على تثبيت موعده لليوم التالي لعيد القيامة ( يوم الاثنين ) ،واستمر هذا الموعد حتى الآن ..
وموعده هذا العام يوم (الاثنين 5 ابريل 2010 - 27 برمهات 1726 ).
وجاء الاسلام إلى مصر ، ولم يتغير الاحتفال بهذا اليوم .. بل أصبح المسلمون يحتفلون به أيضاً .
ولقد اختلفت الأسباب حول تسمية هذا اليوم .. فسمى : " يوم الحصاد " .. " يوم الزينة " .. "يوم العذارى" .. يوم " الاله سوكاروس" .. " يوم رابطة البصل " !!!
ويرجع أساس تسمية " شم النسيم " إلى أن المصريين قسموا السنة إلى فصول بحيث تكون بدايتها في اليوم الذي يتساوى فيه الليل و النهار وقت وجود الشمس على برج الحمل . . و تصادف مجئ هذا اليوم مع بداية فصل الحصاد و الاحتفال بحصاد القمح و الشعير و بعض أنواع الخضراوات و الفاكهة الأخرى . وكان فصل الحصاد – وهو أحد فصول السنة المصرية القديمة – يسمى باللغة الهيروغليفية " شمو " .. ثم حرفت التسمية بعد ذلك بمرور الأيام فأصبحت " شم " و أضيف إليها " النسيم " ، نظراً للإرتباط الشديد بين هذا اليوم و جمال الطبيعة و النسيم العليل .
وأصل تسمية شم النسيم ب " يوم سوكاروس " ترجع إلى قصة قديمة .. حيث كانوا يعتقدون بأن الاله " سوكاروس " كان يرسل ليلة العيد ، امرأة خفية تسمى " الشمامة " للمرور على الناس و شم رائحتهم !! .. فإذا شمت رائحة غير مقبولة لأحدهم فإنها تلعنه فوراً .. ويبقى معرضاً للمحن و الأخطار طوال العام . لذا كانت الأمهات قديماً في مصر و حتى الآن ، يحرصن على ضرورة استحمام أبنائهن ليلة العيد خوفاً من مجئ هذه الشمامة ، مندوبة الاله " سوكاروس " .. و بمرور الأيام نسينا هذه القصة ، وكلن مازلنا نحرص على الاستحمام ليلة العيد ..
وسمى أيضا هذا اليوم ب " يوم الزينة " ففيه كان ملك أو فرعون مصر يخرج في موكبه الفاخر المهيب ، لكي يحضر أول أيام الحصاد .. و يحتفل بما أنعم الله على مصر من خيرات القمح و الشغير و الخضراوات و الفاكهة ..وكان أفراد الشعب يخرجون في أكمل أوجه زينتهم .. و يتبادلون الهدايا ..خاصة المحاصيل الزراعية و البصل ، في هذا اليوم السعيد .
وسمى أيضا " عيد البصل " .. لان المصريون كانوا يحتفلون بنبات البصل في هذا اليوم .. يأكلونه ويضعونه على باب كل منزل ، لاعتقادهم القديم بأن البصل يقضي على الأرواح الشريرة و يمنع الحسد !! .. وله تأثيره الفعال في الفحولة و القدرة على الانجاب و دوام الخير و النماء .
ولقد كان المصري القديم يستعد لهذا اليوم استعداداً كبيراً ، ويسرف كما هو الحال الآن ، في تنظيم وتنسيق الأطعمة .. فكانت الموائد تضم مختلف الألوان من الأطعمة و الشراب و الحلوى ..
ومن أهم المأكولات التي تقدم في هذه المناسبة : البيض الملون و الخس و الملانة ( نبات الحمص الأخضر ) و و البصل والسمك خاصة المملح منه ( الفسيخ ) ..
لماذا يأكل المصريون هذه المأكولات بالذات في يوم شم النسيم ؟
- اعتاد المصري القديم أن يأكل في شم النسيم الملانة و الخس لأنهما من الخضراوات التي تنضج في فصل الربيع و تزدهر . ولأن الخس يحتوي على مادة تجلب الخصوبة و القوة ، حتى أنهم كانوا يقدموه قرباناً للإله " مين " إله التناسل لديهم في هذا الوقت .
- أكل الفسيخ في شم النسيم يعتبر من أهم مظاهر الاحتفال بهذا اليوم .. و الفسيخ ماهو إلا السمك بعد تمليحه و الاحتفاظ به شهور عديدة . و المصريون من أهم الشعوب في العالم الذين برعوا في طرق الاحتفاظ بالغلال و الأطعمة و الأغذية ، بطرق الحفظ و التخزين المختلفة . ويرى المؤرخ اليوناني " استربون" أن السبب في انتشار عادة أكل الفسيخ في يوم شم النسيم ترجع للمصريين القدماء الذين كانوا يقدسون السمك و يعبدون نوعاً اسمه " اوكيزتكوس" ، ويستبشرون خيراً اذا ظهر في بحر يوسف .. و كان يتم تمليحه في مدينة " كانوش " ( أبو قير حالياً ) . ويتضح أن هذه المعلومة بعيدة تماماً عن الصحة . أما ما لاحظه هيرودوت ( المؤرخ اليوناني القديم ) فهو أقرب إلى الصواب وهو أن المصريين القدماء كانوا يأكلون الأسماك المملحة أو المجففة في الشمس في فترة الشتاء ، وهم في ثقة لخلو السمك من الميكروبات التي قد تعلق به نتيجة التمليح .. فقد كانت الأسماك تدفن في شبه قبور على هيئة أبراش بين طبقات من الملح .. لا يتم فتح هذه المخازن إلا بعد عيد القيامة و في يوم شم النسيم .
وكان المسيحيون يمتنعون عن أكل السمك أثناء الصيام المقدس ، الذ ي يسبق العيد مباشرة .. ولما كان شم النسيم هو اليوم التالي لعيد القيامة ( أي بعد انتهاء الصوم ) ، لذلك نجدهم يقبلون على أكل الفسيخ و الأسماك الأخرى .
- البيض : اعتبر المصريون القدماء البيض رمز الحياة ، و تناوله في هذا اليوم ( شم النسيم ) يعني الفأل الطيب للسنة الجديدة .. كما اعتبر الفلاسفة القدامى أن البيضة هى أصل الخلق .. و يقولون أن العالم كان على شكل بيضة كبيرة الحجم ، ثم انقسمت إلى قسمين .. فأصبح نصفها العلوي السماء .. و نصفها السفلي الأرض . زكثيراً من الغلماء قد اختلفوا في سبب تسمية البيضة بهذا الاسم !! .. فالبعض قال بسبب لونها الأبيض .. و البعض الآخر قال لأن شكلها بيضاوي ..ومنذ العصور القديمة ، قدس الانسان البيضة .. وهذا ما نراه واضحاً في الديانات القديمة عند اليونانيين و الرومانيين .
ومن العادات القديمة المندثرة ، أن يكون المزاح بين البشر بالتراشق بالبيض في الشوارع يوم شم النسيم .. و قداستمرت هذه العادة في مصر ، حتى اشتكى الكثيرون من سخافة هذا المزاح .. مما جعل السلطان بيبرس في العصر المملوكي يصدر فرماناً بمنع هذه العادة .. التي يرجع أساسها إلى الاسطورة القائلة بأن الطيور لم تجد هدية تقدمها لسليمان الملك في عيد الربيع أغلى من بيضها . !!
ومع مرور الأيام أصبح من مظاهر الاحتفال بيوم شم النسيم ، تلوين البيض بالألوان الجذابة المختلفة .. إحتفالاً بالربيع و نضارته .. ولإدخال السعادة و السرور على الأهل و الأبناء و الأصدقاء في يوم الربيع و النسيم العليل والجو الجميل .
تحياتي .
د. ناصر شافعي