جنة الشوك
جنة الشوك
كتاب جنة الشوك لعميد الدب العربى الدكتور طه حسين من اهم الكتب التى تناول فيها الكاتب فن " الإبجراما" وعرف به وبتاريخة عند اليونان والرومان والعرب وأصول هذا الفن وكيف يكون قصيرا يعتمد على لغة وسطى لا هى مبتذلة ولا مغرقة فى الفصحى وكيف أنها تبدو كحد النصل ساخرة فكهة مؤلمة وخازة وهذا الفن كان شعرا بدا عند اليونان ماخوذا مما كان يكتب على أحجار قبور الموتى ثم امتد بعذ ذلك الى الغزل وتصوير العواطف والهجاء وكل فنون الشعر لكن طه حسن فى كتابه جنة الشوك يقدم نماذج نثرية لهذا الفن ويعد هو صاحب السبق العربى فى العصر الحديث للتأصيل لهذا اللون من الاإبداع نثرا
وسوف نقدم نماذجه هنا تباعا لما تحمل من فلسفة انسانية راقية وروح فكهة جميلة
دعاء
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: علمنى كلمات أتجه بهن إلى الله فى أعقاب الصلوات الخمس فإنى أجد نفسى فى حاجة إلى الدعاء فى هذه الأيام الشداد
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : سل الله يعصمك من ضغر التفس الذى تضخم له الأجسام ومن ضيق العقل الذى تتسع له البطون ومن قصر الأمل الذى تمتد له أسباب الغرور
وكنت حاضر هذا الحديث بين الأستاذ لبشيخ والطالب الفتى فقلت فى نفسى: ماأجدر السباب أن يتخذوا من هذا الدعاء لأنفسهم بنامجا وشعارا
فيض
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: فسر لى قول القائل " فاض الإناء"
قال الشيخ لتلميذه الفتى: هذا مجاز يابنى فى كل أمر تجاوز حده حتى أصبح لايطاق ألم تسمع قول الشاعر:
شكوتُ وما الشكوى لمثلى عادة ** ولكن تفيض النفس عند امتلائها
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ : فإنى أعرف أوعية لا تمتلئ وآنية لا تفيض
قال الشيخ مبتسما: وما ذاك؟
قال الطالب الفتى : حزائن الأغنياء التى مهما يُصَب فيها من المال فهى ناقصة وجهنم التى يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول : هل من مزي؟ وعقول العلماء التى لاتبلغ حظا من المعرفة إلا طمعت فى أكثر منه
قال الأستاذ الشيخ صاحكا: لقد أصبحت حكيما منذ اليوم ولكن تعلَّم أن إناء واحدا قد يفيض فيصبح مضربا للأمثال ومصدرا للعبر وبعيد الأثر فى حياة الأجيال ألا تذكر سيل العرم؟!
حرية
قال أحد أمراء الموصل وكان أريبا لأحد ندمائه وكان أديبا : " مار ما يُمتحَن به الأديب؟
قال النديم وهو يبتسم: " فقدان الذوق الذى يجعل أدبه فاترا خيرا من البارد" وأطرق النديم لحظة ثم قال للأمير : وما شر ما يمتحن به صاحب السطان؟
قال الأمير وقد ظهر وجهه العبوس :" ثناء الذين لا يحسنون الثناء يقولون فينا فلا يصدقهم أحد ويقولون فينا فلا نصدقهم نحن لأنهم يقولون فينا وهم لا يصدقون أنفسهم قال أحد الجلساء: " فما يمنعكما أن تحظرا على الأديب الذى لا ذوق له أن يحدث أدبا وعلى المادح الذى لا فن له أن يحدث مدحا"
قال الأمير وعلى ثغره ابتسامة خير منها العبوس: فإن الحرية تأمرنا أن نخلى بين الناس وما يقولون من الجد والهراء
حرية
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألم ترَ إلى فلان ولد حرا وشب حرا وشاخ حرا فما دنا من الهرم آثر الرق فيما بقى من الأيام على الحرية التى صحبها فى أكثر العمر؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى : أضعفته السن فلم يستطع ان يحتمل الشيخوخة والحرية معا وأنت تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالا
ضمائر
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ألا تحدثنى عن هذه الضمائر التى تفعل ما تشاء ثم تستر وراء أفعالها وجوبا مرة وجوازا مرة أخرى فهى دانية نائية وبادية خافية وهى ملحوظة غير ملفوظة ومعقولة غير مقولة وهى على ذلك تكلف الأستاذة والتلاميذ هما ثقيلا وعناء طويلا؟
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما أنت وهذه الضمائر البريئة النقية ؟ إنما هى بنات الوهم قد فرضها العلماء رياضة لعقول الطلاب على التحليل والإعراب وهى لا تؤذى أحدا من قريب أو بعيد فإذا عملت عملها وذلك يسير فدعها وشأنها وتحدث عن ضمائر أخرى أشد فى حياة الناس خطرا وأبعد فى اعمالهم اثرا تستخفى فى اعماق النفوس عابسة تشيع الابتسام المريب ومظلمة تنشر الضوء المخيف
قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: لقد عدت إلى ما دأبت عليه من الالغاز فوضح لى بعض ما تقول
قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ما تقول فى ضمائر الأطباء حين يعودون المرضى وفى ضمائر المرءوسين حين يتلقون أمر الرؤساء وفى ضمائر الطلاب حين يسمعون دروس الأساتذة وفى ضمائر بعض الأصدقاء حين يبسمون للأصدقاء؟
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|