كاتب نور أدبي متألق بالنور فضي الأشعة ( عضوية فضية )
التجريب وتوظيف التاريخ والموروث فى رواية الجنوب
التجريب وتوظيف التاريخ والموروث فى رواية الجنوب
عبدالحافظ بخيت متولى
من اللافت للنظر أن المحاولات التجريبة الكبرى فى مسيرة الرواية العربية هى التى شكلت تياراتها الفاعلة فى تخليق مستويات جديدة للسرد فى مسيرة الرواية ولذلك يظل التجريب بشكل عام كامن فى دينامية الخلق الروائى, ومؤسس لقفزاتها النوعية, وليس بوسعنا فى هذه الورقة البحثية المحدودة أن نقف على خارطة تحولات التيار التجريبى فى مسيرة الرواية بشكل عام, لكن يظل التجريب يمثل كشوفا جمالية ذات خصائص نوعية, ويتعين علينا أن نكتفى بعرض إشارات وجيزة لأبرز ملامح هذا التجريب محاولين المقاربة بين هذا التجريب ووعى كتاب الجنوب الروائيين به ,ونعنى هنا بالجنوب جنوب مصر أو صعيد مصر
واستعراض مقارابات التجريب بشكل عام تدفعنا إلى إيجاز تصنيف معطيات التجريب فى ثلاثة محاور هى:
1-يعنى التجريب ابتكار عوالم جديدة لا تعرفها الحياة العادية, ولم تتداولها السرديات السابقة مع تخليق منطقها وبلورة جماليتها الخاصة والقدرة على اكتشاف قوانيين تشفيرها وفك رموزها لدى القارى العادى بطريقة واضحة ولدى الناقد المتخصص بشكل منهجى منظم
2-توظيف تقنيات فنية محدثة لم يسبق استخدامها فى هذا النوع الأدبى وربما تكون قد جربت فى أنواع أخرى تتصل بطريقة تقديم العالم المتخيل وتحديد منظوره أو تركيز بؤرته مثل تقنية تيار الوعى أو تعدد الأصوات أو المونتاج السينمائى أو غير ذلك من التقنيات السردية المتجددة ,مع ملاحظة وجود بعضها فى ثقافات أخرى لايسلب منها الطابع الطليعى التجريبى عندنا لما يترتب على جهد التبيئة والتكيف مع مقتضيات الذوق العربى وضرورو مراعاة حساية المتلقى الجمالية عند التوظيف
3- اكتشاف مستويات لغوية فى التعبير تتجاوز نطاق المألوف فى الإبداع السائد ويجرى ذلك عبر شبكة من التعالقات النصية التى تتراسل مع توظيف لغة التراث السردى أو الشعرى أو اللهجات الدارجة أو أنواع الخطاب الأخرى لتحقيق درجات مختلفة من شعرية السرد"2"
ومع أن هذه المحاور ليست متباعدة فيما بينها, أذ غالبا ما يؤدى التجريب فى أحدها إلى تحريك منظومتها وبوسعنا أيضا أن نعتمد فى هذه الورقة على فكرة انتشار العنصر المهيمن فى الظاهرة الروائية عند كتاب الجنوب ,على اعتبار أن مركز الثقل فى عمليات التجريب ينطلق من هيمنة أحد هذه المحاور ويشمل كذلك المحاور الأخرى ولكن ربما بدرجات أقل هيمنة
وهنا سوف نقتصر فى هذه الورقة على ثلاث روايات فقط هى
-"أرض الخرابة" للروائى عبد الجواد خفاجى
- "رهبة المباركين" للروائى عبد الراضى ابو دوح
-"حقيبة الرسول" للروائى محمد صالح البحر
لكننا هنا نقف متسائلين: ما دوافع التجريب عند كتاب الجنوب فى الرواية؟ وهل هذا التجريب يضعهم فى مصاف التجارب الروائية المدهشة على خريطة الإبداع العربى؟ أم أنهم يمسكون بداية الخيط ويحاولون السعى إلى نهايته حتى يصبحوا جزء من المشهد الروائى العربى؟
لعل دوافعهم للتجريب فى تصورى تمكن فى
الدوافع الخارجية:
لا بد –حين نتحدث عن ظاهرة توظيف تراث البيئة المحلية في الرواية العربية- من أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير الرواية الأمريكية اللاتينية التي اهتمت بالمكان، فصورت بيئات كانت مجهولة، وغاصت في أعماق التاريخ، حتى وصلت إلى الأساطير والحضارات القديمة، كحضارة "المايا" التي تحدث عنها الروائي ميكيل آنخل أستورياس في روايته "أناس من ذرة"، ولا ينبغي لنا –ونحن نتحدث عن الرواية الأمريكية اللاتينية – أن ننسى الروائي الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي تبدو رواياته، ولا سيما "مئة عام من العزلة" شديدة الارتباط بالبيئة المحلية، بسبب عودتها إلى حكايات الأجداد واساطير الأسلاف، والإفادة منها في تشييد عوالمها.
ويحلو لبعض النقاد الحديث عن تأثير الرواية الأمريكية اللاتينية، ولا سيما روايات ماركيز في الرواية العربية، وتوجيهها وجهة البيئة المحلية، والعودة إلى التراث الموغل في القدم، ولكننا لا نريد أن نغلو كثيراً في تقدير حجم تأثير الرواية الأمريكية اللاتينية في الرواية العربية، كما لا نريد أيضاً أن يدفعنا التشابه بين الروايتين إلى درجة اعتبار الرواية العربية صدى للرواية الأمريكية اللاتينية، كما فعل بعض النقاد الذي درس أثر غابرييل غارسيا ماركيز في الرواية العربية من خلال مقارنة بين رواية "مئة عام من العزلة" ورواية "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ، ورواية "
فهل قرأ الروائيون السالف ذكرهم رواية "مئة عام من العزلة"، أو غيرها من الروايات المترجمة؟ ربما كان ذلك أو على الأقل سمعوا عن شهرتها ومفهوما، ولكن مجرد القراءة لا يعني التأثير، فنجيب محفوظ –على سبيل المثال- قرأ روايات ماركيز، ولكنه قرأ أيضاً حكايات ألف ليلة وليلة، وإذا كان ماركيز أثر فى هؤلاء الروائيين، فتأثيره لا يتعدى التحريض على تناول المحلي والغوص في الأساطير والحكايات القديمة، وإذا سلمنا جدلاً أن الروايات التي صدرت بعد ترجمة الرواية الأمريكية اللاتينية إلى اللغة العربية، تأثرت بشكل من الأشكال، في توجهها إلى البيئة المحلية، بروايات ماركيز أو غيره، فإن التناول الفنى لابد انه مختلف أن البيئات فى الصعيد تختلف عن غيرها من البيئات الأخرى
الدوافع الذاتية: ثمة دوافع كثيرة وراء توظيف البيئة المحلية في الرواية العربية، منها:
1-يمكن أن يكون الإخلاص سبباً عاماً يدفع الروائي إلى تناول بيئته المحلية.
2-رغبة كاتب السيرة الذاتية في إطلاع الآخرين على البيئة التي ربي فيها.
3-الحنين والشوق إلى البيئة المحلية في حالة كون الروائي مبعداً عنها أو بعيداً.
4-البيئة المحلية خامة حكائية.
5-رغبة الكاتب في فضح بيئته الغارقة في التخلف
6-يبقى الدافع الأهم إلى توظيف البيئة المحلية هو طرح الهوية الخاصة في سبيل قطع الصلة بالرواية العربية، والتأسيس لرواية ذات صبغة عربية شكلاً ومحتوى
*الواقع الكونى والافتراضى والبيئة المحلية فى أرض الخرابة
حين رسم ألان روب جرييه عام 1956 ما أسماه الطريق إلى رواية المستقبل اعتبرأن الرواية لا يجوز ان تكون وسيلة تفسير للعالم ,لأن العالم ليس لفظا من دون معنى ولا معنى محالا, إنه بكل بساطة موجود ,ولذلك يدفعنا هذا القول إلى التساؤل: هل يمكن للروائى أن يصور العالم الذى هو فيه من غير أن يعيد بناءه بما يوافق المعنى الذى يعطيه له؟ لقد بقيت هذه المسالة لمدة طويلة مسكوتا عنها وخاضعة لنوع من التواطؤ الضمنى بين الكاتب والقارئ, هذا التواطؤ قائم على نوع من الاتفاق الضمنى هو اتفاق القص, وهاهى الرواية اليوم تتمرد على هذا الاتفاق وعلى هذا الصمت وتعلن نفسها على الملأ, وهذا التمرد خلخل القوالب الروائية التقليدية وفضح الاصطلاح الذى تقوم عليه بكشف الوهم الذى تضع فيه القارئ, وفك القصة بتعرية فعل الكتابة والتنكر لقواعد السرد التقليدية ,وهذا التصور الجديد للكتابة الروائية أدى إلى ظهور محاولات روائية يدرجها النقاد تحت مسمى الرواية التجريبية التى تخرج على السائد والمألوف فى تأصيل الشكل الروائى التقليدى, والتى ترفض التدرج الزمنى والتحليل النفسى والشخصية الروائية المطابقة للشخوص, وربط الحكاية بالواقع والتدرج المنطقى من السبب إلى النتيجة فى ترتيب الأحادث, وهى تقوم على مجموعة من الخيارات الواعية التى تقل طمانينية القارئ المعتاد على الحبكة التقليدية والشخصايت المرسومة بحدود الشخصية فى الواقع, ولذلك فالبعض يعتبر أن التجريب مغامرة دائمة, تبحث فيها الكتابة الروائية عن عوالم جديدة وأشكال جديدة
وقد ارتبط التجريب الفنى عند كتاب الرواية فى الجنوب بافق التحولات المعرفية وكان أكثر استشرافا للمستقبل, وأقدر على تمثيل وعى الانسان ببيئته وبحركة التطور سلبا أو إيجابا فى واقعه الذى يعيشه, ودافعا هذا الواقع للاسهام الخلاق فى كونه المرتبط به والعالم المحيط حوله , وقد قدم الروائى عبد الجواد خفاجى فى روايته "أرض الخرابة" نموذجا لافتا لما يسمى بالواقع الافتراضى معتمدا فى ذلك على سيرة البيئة المحلية, وما تحمل من خصوصيات اجتماعية وفكرية وثقافية ,محاولا من خلال سرد هذه السيرة وما تحوى من شخصيات رسمها الروائى ممزوجة برائحة التاريخ, وطالعة من رحم مجتمع يتسم بالسكون غير فاعل فى الكون العام من حوله ولا محرك لدوائر الماء الثقافية أو الحراك الاجتماعى او السياسى, محاولا أيضا تعرية هذا الواقع ونفض غبار التخلف عنه, ليخلق واقعا افتراضيا موازيا من خلا سيرة عبد الفضيل, ذلك الكائن البوهيمى محور القص عنده ومرتكز اشعاع الحكى, وما يتعلق به من شخوص أخرى تصنع دوائر الواقع الصعيدى وتخرج مكنوناته ومستودعات سرائره فى محاولة لكسر سور العزلة بين المتخيل والواقع ولاعبة دورا مهما فى نمط المسرود ومخالقته للمألوف السردى أيضا, وهنا يقع التجريب عند عبد الجواد خفاجى معتمدا على المحور الأول فيما قدمنا غير غافل للمحورين الآخرين, غير أن هذا النزوع إلى خلط الواقع بالمتخيل عنده لا يمثل العصب الحساس للتقنية الروائية الجديدة عند الكاتب بقدر ما يمثل مجرد توطئة لها
وتحقيقا لكسر سور العزلة بين الواقع والمتخيل يلجأ الروائى إلى تقنية توظيف العجائبى والسحرى والميتافزيقى, وهذه التقنيات تعبر عن رغبة دفينة لدى الكاتب فى فضح سكون واقعه المادى وتخلفه وغيابه فى بئر عميق من التخلف والعزلة عن العالم ووضعه فى إطار عالم ضيق محفوف بسلطة الخرافة التى التى تجعله يتأخر عن مستويات الحضارة والتقدم, ولذلك تزدحم الرواية بالشخصيات المهمشة والأ حداث التى تشكل إطار الفكر الاحتماعى القاصر عن استيعاب التغيرات الجديدة التى طرأت على الواقع وانتشلته بعيدا من بؤر الـأرض السوداء إلى قرص شمس الحضارة والتقدم مثل حوادث موت عبد الفضيل وهروب أم اسماعين وغرق اسماعين ومولد سيدى أبو العسران وغير ذلك
لقد أراد الكاتب أن يقدم هذه العالم أو هذا الواقع الجنوبى بتفاصيله محاولا أن يضع فى مقابله عالما افتراضيا يجب أن يكون عليه الواقع أو هكذا يتمنى الكاتب لبيئته المحلية, منبها إلى أن هذه البئية الصعيدية لابد أن تتجاوز هذا العالم الوسنان المغرق فى التخلف الثقافى والاجتماعى إلى عالم التقدم وكسر الحواجز محافظة ايضا على تراثها وقيمها مازجة بين القديم والجديد لتخلق مركبا ثالثا, وهذا لن يتم إلا إذا خرجت من دائرة العجائبى والسحرى إلى دائرة السياسى والعقلانى والروائى’ فى سبيل هذافإنه فى عرضه الروائى لا يرتبط بتسلسل زمنى للحدث ولا بؤرة معينة ينطلق منها السرد بما يحمل من أحداث وشخوص فاعلة
فالشيخ متولى يؤكد أنه رأى فى المنام ليلة وفاة عبد الفضيل إحدى علامات الساعة الكبرى تتحقق "سمعته يقول إنه رأى قرص الشمس يطلع من الغرب, وأن المسلمين هجموا على إسرائيل وأبادوها نفرا نفرا, أما عن اللحظة التى بصق فيها عبد الفضيل على وجهى المغسليْن فقد قال إنها لحظة برزخية عادت فيها روح عبد الفضيل إلى جسده قبل أن تنطلق ألى السماء السابعة, عادت لكى تبكتنا وتبصق علينا, لأننا لا نعمل ما يرضى الأرواح, نحن المنعمسين فى شواتنا نتناسى الآخرة والموت ولا نتعظ, وربما نستحق البصاق وقد شاء حظ المغسليْن التعس أنهما كانا وحديهما حول الجثمان لحظة عودة الروح إليه""3"
تزدحم الرواية بمثل هذه الميتافيزيقيا الراسمة لحدود العالم المادى للمجتمع فى الجنوب ومثل هذه المرآة السحرية, والتى تفتح باب الغيب بصريا ,وتؤكد سلطة العجابئى على البيئة المحلية وتخترق حجب الغيب بما يجعل الجانب الفنى فى الرواية تجربة ناضجة فى التقنية والرؤية والاستبصار العميق للوجود
وإذا كانت الرواية الحديثة هى مظهر الوعى التاريخى بالوجود والانخلاع المحسوب والشاق فى رحم الدوائر الاسطورية والميتافيزيقية الملتفة حوله, فإنها قد تتغذى على وصفها كما فعلت رواية أمريكا اللاتينية, لكنها لاتنهض بهذا الوصف جماليا ما لم تتمكن من الانفلات منها ورصدها من مسافة بعيدة وهذا ما يدهشنا عند عبد الجواد خفاجى الذى وعى تماما التاريخ
فالتاريخ ـ كما يراه ـ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو دروس وعبر، يمكن الإفادة منها، ولذا نراه يسقط أحداث الماضي على الحاضر، ويرى الحاضر في ضوء الماضي وهذا ماجعله يستحضر عبد الفضيل كقوة خارقة خارجة على المألوف والعادى فى "عركة المسطح" وكظل للخرافى السائد فى واعية الذاكرة الجمعية للمجتمع الجنوبى
"ففى هذه العركة يتذكر الناس عبد الفضيل الذى كان بطلا خرافيا عندما شاهدوا ذلك الرجل الذى كان يتحرك بين الرصاص, ويحمل الجرحى حتى أنه اذا أصابه الرصاص لا يخترق جسده بل يرتد وينحرف الى الارض وهذا ماجعلهم يتذكرون مقولة, ان عبد الفضيل ليس انسيا خالصا وانما امه حبلت به من الجن""4"وهذا الخلط بين الماضى والحاضر, له حضور فاعل فى تغيير مستويات السرد والتلاعب به نتيجة تداخل الحوادث واختلاط حاضر السرد بذكريات الكاتب وواقعية الشخصية بخيالات الكاتب الذى يرغب تماما فى اثبات حريتة فى السرد بما يتيحه له التجريب ويتقنه فن الرواية
و هذه الرواية بما تحمل من سرد غير تقليدى ,وحوادث متقافزة لاتكمن دهشتها فى غرابة أحداثها ومخالفتها لمالوف السرد فحسب, بل دهشتها تكمن ايضا فى الصدق والجرأة وقد حملت هذه الجراة الى النص من المشاهد العارية من التجميل كما فى حادثة ام سماعين وهروبها من القرية, وحملت ايضا الالفاظ العارية من التحسين فمنحت المفردات معانى وصورا قلما رايناها او تصورناها وقد طبع الصدق فى الواقع او المتخيل الرواية بطابع جاذب يتجاوز المكان الى الانسان, وساعد الكاتب على البساطة فى العرض, وفجاجة الاسلوب فحقق لم تتحققه السير المتانقة الشائعة فى السرد التقليدى, وهذه الجدة فى الأسلوب من خلال ربط الواقع بلغته ومحاكاة التحتيات الاجتماعية بلغة تحتية فجة وصريحة هى ابرز ما فى رواية ارض الخرابة من تجريب والماتب ينهض اليه مختارا واعيا ويرمى من خالاه الى فضح ما يسكت عنه الناس وينكرونه ولكنه لا يعرف سلفا كيف سيكون استقباله لدى القارئ وانما يعرف انه يسعى فى تجاوز الواقع الحقيقى المنهار من وجهة نظره الى واقع افتراضى قائم على المثل العليا مازجا بين الماضى والحضر اخذا بيد الماضى الى اتون الحاضر محافظا على هذا الماضى مستفيدا من تجاريب الحاضر يحاول ان يؤسس له فى نفس قارئة غير متجاوز بواعيته وذاكرته حدود القديم ليضعه فى اقانيم الحاضر بل يسعى الى مزج الاثنين معا وهذا ما جعله يقفز فى نهاية الرواية بصوت الراوى المؤلف ويرتدى حلة الواعظ ويخطب فى متلقيه ويقول
" ان كل ما ناسف له الان اننا ادركناكم جيلا بلا تاريخ وبلا ذاكرة وبلا اسطورة لقد كنا افضل منكم حالا ايها الابناء وان كنا مثلكم فى خطوة سابقة نسير نحو هذا الفراغ الذى تتدافعون اليه تدافعا اسطوريا بلا معنى المؤسف ان نراكم قكعانا عاطلة تتسكع بازياء غريبة وقصات شعر اغرب ولهجات رقيعة ومؤخرا مصرورة لا حكومة معنية بتعطلكم ولا مصنع ولا مؤسسة ولا حتى الغيطان انتم صالحون لها بالله عليكم ماذا تفعلون؟""5"
حتى وان كان هذا الخروج الفج من المؤلف والقفز على معطيات القص فى الرواية الا انه خروج يعضد كسر تقليدية الرواية والنمط الثابت للنهاية والذى قد يدهش البعض ويتهم الكاتب بالخطا الا ان وعيه بالتجريب يغفر له ذلك
-رهبة المباركين ورواية الشخوص
ربما كانت رواية رهبة المباركين لعبد الراضى ابو دوح اقل وعيا بمفهوم التجريب وان بدت تشير الى ذلك فى استهلالها الاول والرواية ويبدو منذ عنوانها احتفائها بالمكان, فرهبة المباركين تعنى تلك المساحة الضيقة التى تحتوى على مجموعة من السكان يتلاصق تجاورهم وتنتفتح معطيات حياتهم من خلال هذا الاطار الضيق, وٌقد توجهت عدسة السرد فى هذه الرواية الى الشخوص وتفاعلاتها كاشفة عن طبيعة المكان الانسانى بعكس ما فعله عبد الجواد خفاجى حين توجه الى المكان كاشفا عن انسانية الانسان, ولذلك فان رواية رهبة المباركين كانت اقرب الى المشاهد السينمائية من الحكى الواقعى
ويبدو الحضور السينيمائى فى هذه الرواية فى عدة محاور هى:
1-اختيار الانسان موضوعا رئيسا لها الانسان فى حياته الداخلية والخارجية وفى تجاربه وخبراته ونجاحاته واخفاقه صحته وسقمه واحلامه واوهامه وغير ذلك ,وهذا ماجعل الكابت يركز بشكل خاص على رسم معالم شخصيات تتفاعل مع الحياة بشكل نمطى وتقليدى جدا, فعبد الوهاب مثلا ذلك الطفل الذى فقد اباه وتزوجت امه من رجل اخر والذى يلاقى عذابات اليتم والقهر فى كنف الرجل الاخر ينتقل الى عمته التى تتولى تربيته تدفعه الحاجة بعد نجاحه فى الثانوية العامة والتحاقه بكلية الطب الى عمل مشروع بيع البيض والسمن حتى ان الكاتب يلجا كثيرا فى رسم مشاهده الى تقنية رسم المشهد السينمائى
"ايام قليلة وكان الباب الموصد بجوار المقهى مفتوحا دكانة صغيرة فى اخرها صندوق خشبى اعلاه لوح زجاج يظهر منه البيض المكدس بجواره صفائح الجبنة وحقاق السمن فوق الارفف عند المدخل كرسى ومنضدة صغيرة بدرج احكم بعناية ياتى بالبيض والسمنة اسبوعيا والجبنة واللبن يوميا""6"
وهو فى ذلك يعنى بالجزئيات والتفاصيل الصغيرة فى رسم المشهد, متاثرا فى ذلك بالمنهج السينمائى, متعاملا مع شخوصه من الخارج حتى انه يلجا احيانا الى ما يسمى بالقطع والاختيار وهذه تقنية سينمائية خالصة, فبعد ان يحدثنا عن كل هذه التفاصيل فى رسم مشهد المشروع التجارى لعبد الوهاب ينتقل بنا الى كادر اخر نشعر فيه بالقطع حيث يقول:
"يذاكر ويبيع كل يوم تعطيه الشمس ضحكة عند طلوعها وتاخذ منه ابتسامة عند الغروب ,احلوت الحياة ونضر الوجه وشابه الرضا, واعطاه الشتاء دفئا لذيذا واعطى الصيف صفية زغرودة طويله ورنانه, لتعلن بها عن نجاحه فى التوجيهية, واهداها الخريف رقصة فوق المصطبة لتخبر بها كل نساء المباركين الاتى جئن وتحت شيلانهن السكر والشاى والشربات عن قبول ابن اخيها فى كلية الطب""7"
الشخصيات الروائية لا تبدو كائنات خيالية لا حياة فيها، بل هي كما يقول عنها (حنا مينه) "حيَّة تماماً بالنسبة للقُرَّاء، وهي أكثر حياة بالنسبة للمبدعين""8" لذلك فالكاتب هنا يعنى برسم شخوصه بشكل فائق ,حتى انه فى سبيل احياء الشخصة قد يضطر الى استخادم مفرادت تحتيه تخدم رسم هذه الشخصية مثل قوله" احلوت/ شيلانهن" فى رسم المشهد السابق, وهو هنا يلح فى ان يجعل من شخصيته الروائية انسانا يعيش ويعانى بوصفه كيانا له جملة احداثيات وحضور وفاعلية فى بحر البشرية الكبير, وهذا المعنى هو تقنية سينمائية خالصة
2- خاصية الاستبطان التى تمضى بالخيار السردى نحو استبطان الاعماق لتحقيق البحث الانسانى الجدير بالجهد الابداعى, فالرواية والسينما لا يحققان انسانية مادتهما بالوقوف عند مشارف الشخصية الانسانية وسطوعها من الخارج, بل يغوصان عميقا فى كثافات البنية الانسانية وطبقاتها المتداخلة لسبر حقائقها التى كثيرا ما تتوارى خلف مواضعات الحياة ومظاهرها, وهذا ماجعل الكاتب يغوص فى اعماق شخصياته فى بعض مناطق فى الرواية مستبطنا هذه الاعماق غواصا فى البحث عن مستودعاتها , فالدكتور عاطف فى المستشفى تفضحه الممرضه حين تسمعه يدندن باغنية عبد الحليم حافظ "اول مرة تحب ياقلبى ", وتضحك معها الممرضات, ويداعبه الدكتور هاشم بقوله: الحب باين فى عنيك يا دكتور ويحذره فى اشفاق :"خد بالك", هنا يلجا الراوى الى استبطان وعى الشخصية حيث يقول
"ايكون الحب وحشا حتى نتخذ حذرنا منه؟ ايكون الحب وحشا ضامرا نخشى الاقتراب منه؟ مهما يكن فهو يرى لنا كل الاشياء جميلة, حتى السياسة التى ضجر منها اصبح يحبها, ويقرا ويتابع مع الاستاذ نبيل, ويناقش ويحاور حرب العراق ومكسب امريكا من ورائها, وفضل الرئيس الجديد فى إعادة آخر شبر من أرض الوطن, والبكاء على رجال الثورة وانجازاتهم وفضائحهم, وغلطة السادات الكبرى والتماس الحجج للعرب فى معادتهم لمصر""9"
ولعل هذا الملمح فى شخصية الدكتور عادل يكشف عن أن الحب هو مؤسس انفتاح الذات على عوالم أخرى وباسط السريرة النفسية للشخصية, حتى وان بدا الراوى هنا انه الراوى العليم العارف بكل شئ والكاشف عن العالم الداخلى للشخصية فى تعنت مازجا بين الحب والسياسة دون مبرر جيد, وذلك لانه يلح هنا على اسبطان الشخصية من الداخل وحاولة تعريتها فى شكل فج
3-يشكل الواقع بكل خبراته وتجاربه معينا لا ينضب للسرد الروائى, والسرد السينمائى وان واقعية السرد هنا لا تلغى تخييليته بل ستند اليها وتحقق بها قيمتها ومسوغها ,اذ يبقى السرد الروائى والسرد السينمائى محكومين بهشاشة مادتهما حين يفتقدان مرجعيتهما الواقعية بوصفها احتمال وامكانا قائما فى واقع بعينه وليس بوصفها الزاما بواقع جرى تحققه وحين يهمل الكاتب والسينمائى هذه المرجعية الواقعية ينزاح السرد نحو مواقع الحكائى وينزاح السرد السينمائى نحو ما يسمى بالسينما التجارية التى تحتفى بالاثارة متنوعة الاغراض وتكرس نتاجها لذائقة جمالة متدنية
والمرجعية الواقعية فى هذه الرواية كانت تخرج من رحم رهبة فقيرة جرت عليها تقلبات الزمن واعجت بالمهمشين والمنفين فى زوايا العالم والمنسيين فى العراء والمشطوبين من قائمة الانسانية الا ان الكاتب يحاول ان يخرج بهذه المرجعية من العقم الانسانى الى رحم الكفاح, والوعى فيتطور بشخصياته بشكل سينمائى ايضا من الفقر والعوز الى الغنى والشهرة, فعاطف ذلك الصبى الفقير يصبح طبيبا مشهورا ويظل مرتبطا بواقعه يعيش فى خلايا رهبة المباركين " فى المساء كان يرقد فى حضن المباركين ونام ليلته كانه لم ينم العمر كله""10" فرهبة المباركين مرجعيته الانسانية ومرجعية السارد الواقعية التى يؤسس عليها مشاهده السنمايئة والتى يصعد بها مع تطور السرد عند ونمو الحدث ونمو الشخصيات رابطا بينها وبين التطورات الخارجية والتغيرات الاجتماعية فعبد الوهاب ينتمى الى الجماعة الاسلامية خارجا من اطار تدينه الضيق الى اطار يمتزج فيه الدين بالسياسة وهو اطار ذو مرجعية واقعية ترجع جذورها الى المعطى الاجتماعى لرهبة المباركين الذى يدفع للتمرد بطبعه وهذه المفارقة بين الدخول لرهبة المباركين والخروج عليها هى التى تمنح الكادر السينمائى الذى اختاره الروائى كمرجعية فنية ايضا دهشته وعنفوانه
4-الاحتفاء بالبعد التا ريخى للسرد لاستنباط قوانين السيرورة والصيرورة البشرية ولتوجيه الاضواء الكاشفة على الزمن الحاضر من جهة خضوعه لهذه القوانين ؟اولا ولكونه أحد اشكال تجليها ثانيا الحاضر بوصفه موضوع ترهين التاريخ ولحظته الأكثر استهدافا وتحريضا لخوض السرد , وخيارات قضياه المطروحة, ففى حوار النقيب جمال مع عم مجاهد حين يساله من اى بلد تكون" يجيب من اسيوط يا جمال باشا ,يعنى من الصعيد موطن صالح باشا لنا الشرف ياباشا ومننا جمال عبد الناصر ""11" انه يرهن التاريخ بوعى الحاضر لينفذ من ذلك الى ابعاد سياسية يؤسس عليها مشاهد انيهار العالم من حولة وضياع القيمة يؤكد على ان الحاضر لايزال يخضع لقوانيين التاريخ, مستهدفا غاية اخرى هى رسم الواقع الانى المنبثق من الواقع السالف , وان التغيرات تبدو فى السطح لا فى العمق, فقهر الماضى فى رهبة المباركين يتحول الى قهر من نوع اخر قهو ضياع القيمة مع التطور غير المنهجى للمجتمع وهذا ماتؤكده جملة النقيب جمال للضابط صالح ابن رهبة المباركين
" تعرف يا صالح انا نمت مع نساء كثيرات يخيل الى عند رؤيتهن انهن زوجات عفيفات""12"
ومنوعا فى خيارات السرد لديه بين توظيف الحوار وتوظيف المشهد السردى
5-خاصية المكاشفة والبوح بهموم الذات وتجاربها المنسية وما تمنحه من دلالات وقيم جمالية ومضمونية ومضمونية مما يجعل السرد احيان يفيض برهافته الفنية والانسانية وهنا يبدو القاص اكثر وعيا برسم مشهد تجليات الذات والكشف عن همومها والامها ويبدو ذلك فى هذا المشهد
" هبة ماتت الشمس لن تشرق بعد اليوم القمر لن يضيئ بعد الان ستصير النجوم ادمعا فى السماء لن تينع ثمار الرمان والجوافة وسيذهب عبق الليمون والنخيل سيصيبها العقم""13" هذه اللغة الشاعرية بمجريات الحزن فيها ترسم رهافة الذات تجاه الموت
وان كان العمل الروائى احادى الابداع بعكس العمل السينمائى جماعى الابداع وكونه الوسيط النهائى لعدة وسائط اخرى, منها النص المبدع والسيناريو والات التصوير وتقنيان المونتاج وغير ذلك, الا ان الروائى استطاع ان يستفيد من معطيات السينما ويوظفها فى روياته, وان اخفق فى مناطق الرواية فطالت منه المشاهد حد الملل كما فى المشهد الذى دار فى قسم الشرطة بين جمال وصالح وغيرها من المشاهد، الا انه حاول ان يجرب تقنيات جديدة للقص الروائى لا تعتمد على تقليدية الحكى الروائى وانما يخرج بها الى دوائر اخرى تفيد من تقنية الصورة فى رسم المشهد السردى وان كانت اداة السنما هى الصورة فان اداة الرواية هى اللغة وبامكان الروائى ان يوظف اللغة بديلا للصورة ونحن بحاجة الى تحليل واقعنا الابداعى مستضيئين بما يحدث فى الامكانات الفنية الاخرى
ومع ذلك يبقى ان هذه الرواية اجتهدت فى التجريب لكنها تفتقر الى الوعى بهذا التجريب حيث يختلط فيها فى بعض المناطق تقليدية السرد وهشاشة اللغة واضافة مشاهد فى تعنت ظنا من الكاتب انها تخدم بؤرة الرواية فى حين انها تطفى توهج السر د فيها
-حقيبة الرسول وتوظيف الاسطورى
تعتبر رواية حقيبة الرسول لمحمد صالح البحر واحدة من اهم منجزات التجريب الروائى وتوظيف الاسطورى بوعى فنى جميل فى الجنوب وهذه الرواية تدفعنا الى طرح سؤال يبدو مهما وهو
كيف نجد علاقة التركيب الفنى فى الرواية بالخلفية الميتافيزيقية؟
ففى رواية الشحاذ" – مثلا لنجيب محفوظ حيث يأخذ الزمن طابع الانغلاق والانتهاء عند عمر الحمزاوى الذى احس بعد تجربة نضالية قاسية ان المستقبل اصبح مشطوبا, لان الثورة متعذرة ,وأن العلم هزم الشعر, والجسد غادرته الشهوة وكل شئ يغرق فى السام واللامعنى, ومن ثم ياخذ البعد الميتافيزيقى فى رواية الشحاذ الشكل الدائرى الذى ينزع عن الزمن افقه المستقبلى فيختار عمر الحمزاوى الهروب وقطع الصلات مع عالمه
وتاتى رواية حقيبة الرسول مراوغة فى تجريبها واعية تماما بافق التجريب مضيفة بعد جادا فى التجريب عند كتاب الجنوب ,ونعتبرها خلاصة مقطرة لجهد بذل بحق فى ابتكار عوالم جديدة فى الرواية بطريقة تختزل الابعاد التاريخية والسياسية والحضارية فى تشكيلات تعتمد على الرمز والامثولة ,حيث تقدم هذه الرواية رؤية كونية تتدرج بالاسطورة من دون ان تقع فى قلبها, وتسترق السمع لما وراء الواقع من دون ان تبرح مكانها ,وتطرح فى مناجاة الماضى اسئلة المستقبل الموعود, وتعتمد فى التوزيع على الحدث بالزمن وطيه وحركة الشخصيات وتنقلات الاحداث, وتنبسط او تنكمش طبقا لتداخل هذه العناصر لكنها تخضع فى النهاية لنوع من الايقاع الصارم فى انضباطه ودقته, وعندما نتساءل عن اهم العناصر التى كانت سبيلا الى تقديم العالم الجديد فيها نجدها تتمثل فى الشمول الكلى للرؤية, والتباعد الزمى بالاسطرة, والتكثيف الشعرى فى اللغة
فالايقاع الروائى فى هذه الرواية يوازى بين سيرة مقدسة وهى سيرة الذبيح اسماعيل ابن ابراهيم, وسيرة ضاربة فى عمق واقعها منفتحة على كونيات الوطن كله السياسية والحضارية والاجتماعية ,وقد اعتمد هذا الايقاع على مسافة محسوبة بعناية فائقة بين الاسطورة والواقع, واهتم بان يكون كل منهما مراة للاخر ,فالتاريخ الاسطورى حقل للاسقاط الاجتماعى والسياسى من خلال سيرة البطل الذى يرصد واقعه والذى يبدا من سيرة الجبل بوصفه احد اهم المحاور المكانية فى واقعة ومعالمها المميزة لها ونهاية بقصة الذبح التى تتوازى مع ذبح اسماعيل ,مرورا باحداث تاريخية وسياسية تشكل علامة فارقة فى التاريخ الحديث كهزيمة ,67مما يحقق شمولية الرؤية وشفافية الحدث والخروج من ثبات الزمن, فشخصية البطل الذى اختار له الروائى الضمير" انا" لاتشبه شخصية عمر حمزواى فى رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ, والميتافيزيقى هنا لم يكن دائريا بكل كان منبسطا على الطرف الاخر للسرد خالقا معادلا فنيا للدهشة فى الرواية واحكام البناء فى الخطاب الروائى لهذه الرواية واستشراف مستيقل هذه البقعة من صعيد مصر
فبطل الرواية هنا هو ذلك الصبى الذى يدور فى فلك بطل مواز هو الاب, والعجيب ان الرواى هنا مروى عنه ايضا ,فهذا الصبى الذى يحكى تنقلاته مع ابيه من البيت الى الجبل فى مغامرات ليلية ذات طقوس ميتافيزيقة تتسم بالابتهال والدعاء حتى ياتى خبر من السماء يريح الاب, هذا الرواى الذى يفتح مجالات سردة لقفزات نوعية نوعية تمزج بين التاريخى والواقعى تارة وبين الاسطورى والمستقبلى تارة اخرى, يفتح سرده ايضا لتداخل معطيات الروائى الطالع من الجبل والمستعرض لسيرة ابيه, وهو يقص عنه كاحد المريدين الذى يقص عن شيخه فى وجل واجلال وامانة وهو فى ذلك يتقافز على السرد التقليدى يتلاعب بالزمن والحدث وهذا التلاعب كان مجرد مشجب لمدخل سردى غرائبى يمكن ان يشكل حالة سردية خاصة وجديدة فى المشهدالروائى عنده والاحتفاء بانسانية الانسان وتمجيد هذه الانسانية, فذلك الاب الذى نذر ان يذبح ابنه والذى يسير الى الجبل كل ليلة طلبا للخلاص من هذا النذر يحتفى بانسانية الا بن ويجهد فى الحفاظ عليها,لأنه امتداد لانسانيته ايضا, ومن خلال السرد للوصول الى هذه القيمة تاتى جوانب اخرى مستعرضة, منها الرفض الاجتماعى بلسان الراوية للكثير من الاعاقات الفكرية والنفسية والفصامية للرجل والمجتمع الجنوبى, فالبطل كثير المغامرات الجنسية مصاب بحالة من العجز الجنسى والبطل القومى جمال عبد الناصر يصيب الجميع بحالة من الهلع والعجز والبطل الصغير الذى احب مريم يعجز عن تحقيق حبه, كلها اعاقات فكرية تمثل وجها لهذا المجتمع المخادع وهذا هو المدخل الاهم للقارئ والذى حين يقدمه الكاتب له لا يمجده عنده بل يدينه ويفضحه لكونه ممارسات مروفضة عقليا وفكريا, اضافة الى فكرة الحب العظيم والمثالى الذى نشا فى جو اسطورى يتوازى مع عظمته وتقديسه بين البطل ومريم التى رسمتها واعية الرواى رسما يشبه النحت اليونانى القديم ليحقق بذلك فكرة السعادة الاعظم والمشاعر الخالدة, لكنها تتحطم بمعول افكار بالية وتقاليد عمياء وعقليات متحجرة وسمة العجز والقهر هنا غالبة فى بنية الموضوعى للرواية
ثم تاتى النهاية الطوباوية, وهى النهاية المفتوحة نحو السعادة فى حال الانتصار لقيمة الامل او التشبث بذيول الحلم فى محاولة للنجاة من قبح الواقع
" لقد اراد ابى ان يصنع منى رجلا يحافظ عليه, اما الان فانا اصنع رجلا من نفسى, ارانى الان يتحلق الاولاد من حولى فى فناء واسع وكبير ومظلل باوراق اشجار كثيفة زرعتها بيدى, وارى مريم تقبل نحونا من بعيد فى يدها ورقة بيضاء ناصع بياضها وقلم لم يخط شيئا من قبل وحين تنضم الينا نبدا جميعا فى مراجعة الدرس""14" انها نهاية مدهشة تختزل المسافة بين الواقع والحلم وتستشرف المستقبل البذى يتمناه الرواى لواقعه ليس من زواية خصوصية الحكى كما يوهنا الكاتب وانما من زواية شمول الرؤية او المعنى العام فى الرواية والذى يصلح ان يخرج من اى واقع او اى مجتمع
لقد نجح الروائى فى ان يخلق تباعدا زمنيا بين التاريخ او الاسطورة وبين الواقع بحيث لا يغرق فى قلب الاسطورة ويتحول المتن الروائى الى مجرد تفسير للاسطورة او قصة الذبيح وانما اجتهد جيدا فى يبين المسافة بينهما بخطوط متوازية تبرز وعيه بالفن ووعيه بالتجريب ولجا فى ذلك الى عدة تقنيات منها
*صويره للحاضر من خلال مراة الماضى مما جعله يقدم رؤى طازجة للحاضر ويثبت ان التغير الاتريخى قد يكون كذبة او وهما فحين يعثر على اجندات ابيه يفتح بابا لقراءة الوهم التاريخى عندما يكتشف ان اباه سجل يومياته ليكشف عن زيف الوهم التاريخى المصاحب للبطولة الزائفة
ما الذى فعله بنا عبد الناصر؟وتحت هذا السؤال تاتى اليوميات لتكشف خداع الزيف البطولى "
على مستوى السرد لجوئه لى شكول الكتابة التاريخية مثل بدايته المتكررة لاجزاء فى الرواية مستخدما عبارة " حدثنى او حدثتنى" مثلا حدثتنى امى وكنا جلوسا فى صالة بيتنا عند اول الليل او استخدام تقنية العننة المعروفة فى رواية الحديث الشريف مثل قوله " عن ابى يوسف اسماعيل بن ادهم العبرانى قال" بلغنى من سعاد انها قالت" ومثل هذا التوظيف يمثل الخطوط الفاصلة بين التاريخى والواقعى فيبين سخصية التوظيف التاريخى فى حدود فاصلة مع السرد التخيلى وهذا يتيح له التلاعب بلاشخصيات فيجعل الراوى مروى عنه كما قلنا ويدعم عنده فكرة التجريب الذى يدفعه الى تحطيم قيود السرد مما يخلق عنده ما يسمى بالرواية الضد الات تنسف القوالب الروائية المتفق عليها واستخدام الحبكة المتعددة لاظها تعددات التفسير للتاريخ المكتوب والمحاكاة الساخرة للواقع والتهكم على التاريخ ضمنا وهذا التاتريخى يدخل الرواية ايضا الى مابعد الحداثة متبعدة عن التخيل الاتاريخى معتمدة على الفصل بين الاسطرة والحدث المعاصر وتوظيف روح الاسطورة وليس قلبها
وتاتى اللغة عند محمد صالح البحر لغة كاشفة عن وعى جمالى خاصبتوظيف شعرية اللغة مما تجعل النص الروائى مشدود الى اللذة التى لانفصم عن واعية المتلقى ويكفى ان نسوق هذا المثل على شعرية اللغة عنده " احساس عميق بالعار يجرح روحى ويوغل فى جرحها بحيث تصعب المداوة من بعد حتى كلام الرجل الصياد الذى التقطنى من مياه القناة من مدينة بور سعيد والذىة اكد ان شيئا لم يكن على مؤخرتى سوى بقع الدم الداكن التى نزلت من جرح الشظية لم يكن كلامه ليشفى الروح التى امتهنت وذلت وتركت مؤخرتها مكشوفة""15" هذا بالضافى الى استحضارة الاطر التراثية التى ذكرناه من قبل فى اللغة من مثل حدثى وعن ابى يوسف ليدخل بلغته منطقة التهجين المخصب للبنية الابداعية فى توظيف اللغة تخدم بؤرة تشكيل العوالم التجريبية فى روايته
وهذه الرواية تقوم على مجموعة من الخيارات الواعية والتى تعمد ايضا الى قلقلة هدوء القارئ المعتاد على الحبكة التقليدية والشخصيات الواقعية وهى تقوم ايضا على التجريبق الذى لا يعرف الكاتب نتيجته الا بعد انتهاء الرواية ولا يعرف مصيره الا بعد ان يحكم عليه القارئ لكنها تحررت من قواعد الشكل وقواعد المضمون وكشفت لنا عوالم جديدة فى السرد تقترب بها جدا من المتن العام للرواية على خارصة الابداع الروائى العربى وتؤصل لشكل جاد فى التجريب الروائى الجيد
ويبقى ان نذكر وفق تصورنا ان كتاب الرواية فى الجنوب يكادون يقتربون من المتن الروائى العام بما يحققون من اجتهاد واع فى فن الرواية ومحاولة تطوير أدوات السرد وممكنات الفن الروائى
المراجع
1- دكتور صلاح فضل ,التجريب فى الابداع الروائى, القاهرة2004 , ص 103
2- المرجع السابق , ص 112
3- عبد الجواد خفاجى, ارض الخرابة ," رواية", ص 16
4- المرجع السابق , ص 55
5- المرجع السابق , ص 99
6- عبد الراضى ابو دوح , رهبة المباركين, " رواية" ص 24
7- المرجع السابق , ص 24
8- حنا مينا, هواجس التجربة الروائية , بيروت , 2002, ص 113
9- رهبة المباركين , مرجع سابق , ص95
10- المرجع السابق , ص 97
11- المرجع السابق , ص 76
12- المرجع السابق , ص77
13- المرجع السابق , 66
14- محمد صالح البحر , حقيبة الرسول" رواية" ص 133
15- المرجع السابق , ص101