منذ قبل أن تتبلور وتتشكل شخصيتي كإنسان واضح الملامح والقناعات .. كنت كثيرا ما أجد من يحبني أو بالأحرى كان كل من يراني ويحاورني يحبني .
كنت طفلا آنذاك . وحتى عتبات كهولتي مازلت أمتلك تلك الميزة التي وهبني أياها الله ..
وبالمقابل كنت أحب الجميع ، كل الكائنات وكل الأشياء .
إلا أن هاجسا بدأ يسطو على مشاعري حتى استطاع أن يحتلها جميعها ويسيطر كآمر ناهٍ على أحاسيسي ومشاعري المشاعية الجياشة .
وهو أنني هل سأجد من أحبّه يوما بخصوصية ماهيته وشخصية كيانه ..
وما سيكون ذاك الشيء ، الكائن ، الإنسان ، الوطن ، ..
بدأت تتشكل ملامحا عامة لهذا الشيء في خاطر قناعاتي ومنطق عقلي . وبدأت أضيّق النقاط وحلقات البحث ، حالما بسهولة التلاقي وهذا الكائن .
فكانت أولى الحتميات لماهية هذا الكائن ، أنه لا بدّ أن يكون إنسان ، لا لتطرفٍ إنساني ولكن ببساطة لأنني إنسان .
فالملائكة لا أشبههم وكذا الجماد والحيوان .. أتقاطع وأياهم بصفات بلا شك ولكنها لن تتجاوز نسبتها يوما النصف مهما ارتقت .
وبدأت أرسم لهذا الإنسان ملامحا وتخاطيطا، لا تتعدى مخيلة وهمي وقناعات عجزي عن إيجاده يوما .
قرأت كثيرا ،فتشت ، سمعت من أقاويل الأقدمين الكثير أن هناك ما يدعى الخلّ الوفي و لا يمكن إيجاده بل هو نسمع به ولا نراه .
ويقال : نسمع بهم ولا نراهم الغول والعنقاء والخلّ الوفي .
إذن هو كأيّ شيء نسمع به ولا نراه فلا بد أن يكون نتاج عقل بشري جمعي ومخيّال إنساني على مرّ ومدى دهور مديدة وأعصار عديدة .
وبدأ هاجسي يكبر كلما تقدم بي السن معتقدا أنني سأخرق السماء، وليس الأرض فحسب .
ودائما أقول : سأجد صديقي الموعود يوما .
وبمرحلة ما ، كان عقلي قد بدأ يتشكل من مدركات حسية وتجارب إنسانية ومعرفية غنية لا حصر لها، بدأت أفقد الأمل بذاك المؤمّل المنتظر .
وفصلته إلى قسمين أو بالأحرى إلى جنسين .
أنثى وذكر .
أسميتهما حبيبتي المنتظرة .. وصديقي الموعود .
ملامحها هي كانت عصية على التحديد والوصف ، ولكن كان من تلك الملامح ما هو راسخ في قناعاتي وما رسمت مخيلتي ، وأتكئ على عنصر المفاجأة في الباقي .
لأنّ العاطفة لا بد أن تلعب دورا هاما هنا .
فأنا نصف إنسان .
نصفه الذكر الذي يشتهي ويحب ويمتلك من الغرائز الكثير رغم التهذيب لها والبرمجة والتحكم بها .وهناك حواس لا بد من إشباعها .
وبمعادلة بسيطة وعملية حسابية سهلة قررت أن أعود لجمع ذاك الكائن الصديق والحبيبة ولكن هذه المرة اتخذ صفة التجنيس فهو لا بد أن يكون أنثى لأنها من الممكن أن تكون صديقي ولكن صديقي لا يمكن له أن يكون أنثاي .
وبدأت تلك الأنثى تسيطر على عالم أمنياتي وأحلامي كنت وفيا لها كثيرا وأختزن لها كل حبي واشتياقي وبكارة قلبي وعذرية مشاعري . لتفضّها بنفسها وتثق أنني مازلت على عهد عشقها الخالد ،حافظت على طفلي كما هو ، شبابي، براءتي، طاقاتي، مقدراتي و كل شيء أدخرته لها .
كنت أتعاطى مع الأخريات بجزء صغير من ماهيتي .. ولست عامدا بذلك ولكن هنّ لم يستطعن ولوج نقاط أعمق .في مجاهل وأغوار نفسي وقلبي وروحي وعالمي .
مرتين أو اقلّ اقتربت إحداهن من هذا المكان الشاغر وملأته بنسبة ما . ولكن بكل أسف كان ذلك للحظات قليلة . ولا شك أن كل كائن عبر عالمي أو أنثى مرّت به كانت تنال نسبة من تلك الأنثى والصديق أو الكائن المنتظر .
توّلد لديّ هنا خوف رهيب .. أنني كيف سأحافظ على الديمومة واستمرارية الحالة المثالية القصوى وكم سيتطلّب ذلك من جهد ودقّة وسهر .
ولسنوات من الإحباط الطويلة بدأت أعتقد أنني حتى لو وجدتها فهي لن تتعدى حالة ما، لبعض وقت ..
وسأستعين بنفاقات وتكهنات مخيلتي على إيهام قناعاتي .
لإطالة الزمن ومنح هذه الحالة أطول عمر ممكن .
وجــــــدتك .
حبيبتي .
وكأنني أرخميدس .. هرولت وركضت وصرخت عاليا وجدتها وجدتها وجدتها ..
كنت أتراقص فرحا .
أنت هي وهاهي أنت
وكنت وما زلت أكيدا أشد التأكّد أنك هي . وبدأت أراك، أتأملك ، نعم كنت هي .
بعض مواصفات كانت زائدة أضفتها لمسطرة أنثاي الضّالة .
معتقدا أنني لم أنتبه لها مسبقا .
وبدأت أتذكر .. أنني حين كنت أغمض عيني وتسرح مخيلتي بأوصاف ضالتي أو أنثاي الحبيبة المنتظرة .. كنت أرى صورتك ، ملامحك، عينيك ، شفتيك، أناملك، أظافرك ،
كنت أسمع صوتك، ذات الصوت ، ضحكتك، أسلوبك بالنطق وكيف يخرج كل حرف من شفتيك .
همساتك ، كيفية رؤيتك للأشياء ، وكيفية تعاملك للأشياء، لموجودات منزلك ، لمقتنياتك ، لملابسك
كل شيء فيك كان ككل شيء فيها .
وبدأ الخوف والذعر يدب بأوصالي أكثر بكثير من ذي قبل .
ومبعث خوفي الوحيد هو فقدانك .
وهل ستضيع رحلة بحث عمري سدى .
وجودك منحني قوّة عظيمة بل خارقة . ولكن بكل أسف كان ضعفي أكبر، ضعفي المتشكل من خوفي أن أفقدك يوما . ورعبي وقلقي أن تبتعدي ،
فأنا الآن في حيرة كبيرة ،
ليت لأحد إمكانية مساعدتي .
علما أنك تمتلكين ذلك ولكنني أعتقد أنك لن تفعلي لن تساعدينني .
فماذا أفعل . ؟
هل أحتفظ بك في مخيلتي كمكان شاغر مع الإيمان المطلق بإستحالة إيجادك . ؟
أم أبقى أناضل وأجاهد أزلل الصعاب وأسحق العراقيل بيننا لنتقارب ، نتلاصق ونتحد من دون تمازج .
وهذا الخوف المسيطر والذي يضعفني وأنا من سعى دوما للقوة .
وهذا الشعور بالإذلال وإهراق الكبرياء .
وهذا الوجع المرافق لأنفاسي .
كيف أفعل . ؟؟
تحية كبيرة لك أستاذة نصيرة ..