نحن نعيش الحرب الصليبية العاشرة!
(2)
عن حديث الشهر
بقلم: أحمد بهاء الدين
مجلة العربي رقم 213 غشت1976
لقد بدأت فكرة أول حرب صليبية من التقاء رغبتين: رغبة "ألكسيوس الأول" حاكم بيزنطة في الاستعانة بجيوش غرب أوروبا ضد غزو الأتراك السلاجقة للأناضول و انتزاعهم أجزاء من بيزنطة.. و رغبة البابا أوربان الثاني في روما، و في إعادة توحيد الكنيسة البيزنطية و الكنيسة الرومانية تحت رئاسته. فوجد أن إرسال جيوش أوروبا تحت شعار تحرير الأراضي المقدسة، سيكون وسيلة سهلة لعبور جيوش أوروبا الكاتوليكية إلى بيزنطة و ما بعدها، و بالتالي ضم الكنيستين مع الوقت بعد أن يتم "إنقاد بيزنطة". فأوعز إلى ملوك و أمراء غرب أوروبا بتجييش الجيوش و الإتجاه مشرقا لهذا السبب...
1- و تحركت أول حملة صليبية، بكل الحماسة الدينية لدى الأهالي و الجنود، و كانت بقيادة "بوهيموند" إلى "أنطاكيا" –و هي ليست أرضا مقدسة- حتى أقام ما سماه "أول دولة لاتينية" في الشرق. و غضب بابا روما. لأن هذا سيثير مخاوف بيزنطة قبل الأوان، و لكن بوهيموند لم يلق بالا إلى هذا الغضب، فالمهم هو وضع "مسمار" غربي في المنطقة. و قد سقطت أنطاكيا في يوم 5 يونيو آخر، سنة 1098!!
و كانت المنطقة العربية الإسلامية تحكمها النزاعات بين الولايات و الحكام. و قد تمزقت وحدة الدولة. و صار وجود الخليفة العباسي في بغداد شكليا..
و كان ثمة صراع –و قتال- بين المسلمين السنة في الشام و المسلمين الشيعة –الفاطميون- في مصر. و كان الفاطميون قد انتزعوا القدس لمدة سنة، و وصلت جيوش الحملة الصليبية إلى أسوار القدس و الأمور على هذا النحو، و في 15 يوليو 1099 اقتحموا القدس، و قاموا بأكبر مذبحة رهيبة ضد المسلمين و اليهود و بعض المسيحيين الشرقيين. و مرة أخرى أقاموا حول القدس –مثل أنطاكيا- دولة لاتينية، و رفضوا أن يسلموها للكنيسة أو للحكومة الدينية، بل طبق الأمراء الغزاة فيها نفس نظام الإقطاع الذي كان يسود أوروبا.
و بنفس المنطق، و إزاء تفكك المسلمين العرب، و تعاظم مطامع الملوك و الأمراء و التجار الأوروبيين، أسفرت الحرب الصليبية الأولى من إقامة عدة دويلات لاتينية عواصمها أنطاكيا – القدس- طرابلس.. شملت الشواطئ السورية و اللبنانية و الفلسطينية كما نعرفها الآن.
كانت إقامة هذه الدويلات –بمثابة إقامة أوروبا و الغرب لدولة إسرائيل سنة 1949: فأوروبا المسيحية هي التي أقامت إسرائيل اليهودية. و لكن الدين ليس هو القضية، إنما كانت القضية كما تعرف الآن سياسية استراتيجية اقتصادية: موقع متقدم للغرب، في قلب عالمنا، يتحكمون من خلاله في شؤون المنطقة ذات الأهمية الفريدة في العالم.
2- و لكن العرب المسلمين، بعد أن استكانوا زمنا، ظهرت فيهم روح المقاومة من جديد، و بدأ نشاط عماد الدين زنكى وولده نور الدين من مملكة حلب يهدد ممالك اللاتين من الشرق، و استولوا على بعض أطرافها، فجاءت الحملة الصليبية الثانية بعد ما يقرب من سبعين سنة.. أرادت أن تحصن ممالكها بالاستيلاء على حلب ففشلت، و حاصرت دمشق حصارا طويلا، فلم تقدر على اقتحامها، و لكن ملك القدس انتهز الفرصة فهجم في اتجاه مصر، و استولى على عسقلان و توسع حتى آخر ما عرف بعد ذلك بفلسطين.
و قد ألهب هذا شعور المسلمين. و ساد الإقتناع بأنه بدون تحالف نور الدين و السنة في حلب و دمشق من جهة، والفاطميين في مصر من جهة أخرى، فإنه لا يمكن التخلص من هذه الدويلات الدخيلة.
و كانت عبقرية نور الدين أنه بدأ التقريب بين العراق و سوريا و مصر. و أنه جعل أسد الدين شيركوه السني ليكون وزيرا للحاكم الفاطمي في مصر. فلما مات أسد الدين شيركوه، خلفه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي. و استمر صلاح الدين بعد موت نورالدين ما يقرب من تسعة عشر عاما يؤكد هذه الوحدة، و يستعد للحرب التي لا مفر منها...
كان دهاء صلاح الدين السياسي لا يقل عن عظمته العسكرية التي اشتهر بها. فقد وحد الممالك الإسلامية قدر الإمكان. و قلب على الأوروبيين لعبة الإيقاع بين أعدائهم فبعد أن كانوا يستعينون بتفريق صفوف المسلمين و التحالف مع بعضهم ضد الآخر، لعب صلاح الدين نفس اللعبة ضدهم، و أوقع بينهم سياسيا، مدركا بذلك لحقائق المصالح التي تحركهم. فأوقع بين بيزنطة و روما. و استمال تجار الدول الإيطالية بالتجارة المربحة مع مصر.
و في 2 أكتوبر 1187، سقطت القدس في يد صلاح الدين الأيوبي، ثم أسرع يكتسح معظم الدويلات اللاتينية. و كما تقول الكتب الغربية "هرب اللاتين الأغنياء و بقي الفقراء. أما اليهود و المسيحيون الأرثوذكس فقد عوملوا معاملة حسنة، و قبلوا بترحاب حكم المسلمين".
3- و أثارت هذه الأحداث أوروبا و استغلت دعائيا لبدء ثالثة الحروب الصليبية، و أشدها، إذ جاءت جيوشهم سنة 1189، يقودها ريتشارد قلب الأسد، أشهر قادة الحروب الصليبية، لطول ما دار من سجال حربي و سياسي بينه و بين صلاح الدين الأيوبي حتى كادت تقترن الحروب الصليبية كلها باسم الرجلين، رغم أنها دامت –حربا و سلاما- عدة قرون.
جاء في الواقع لأول مرة أهم ملوك أوروبا و أشهر محاربيها: ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا، و أوجستين ملك فرنسا، و فريدريك برباروسه ملك ألمانيا. و قد نجحوا في استرداد عكا و حيفا و قيصرية و يافا. و لكنهم هزموا هزيمة ساحقة عند أبواب القدس. فبقيت المدينة للمسلمين و لكن بقيت للأوروبيين سائر مملكة القدس.
لقد أسفرت الحرب الثالثة عن تقليص حجم الممالك اللاتينية، ولكنها أعطت هذه الممالك ما يقرب من مائة سنة أخرى من العمر، قبل أن تنقرض و تجلو تماما.
4- و لأنها، كما ذكرنا لم تكن مجرد حروب دينية، و لأن الصفة الدينية لهذه الحروب بدأت تشحب لتزداد الأسباب "الاستعمارية" –بالقاموس الحديث- بروزا، فإننا نجد الحملات الصليبية التالية تتجه في الشرق العربي الإسلامي و جهات أخرى. و كانت مصر –بعد الدور الذي لعبه فيها صلاح الدين- قد صارت القوة الأساسية، و بالتالي اتجهت محاولات الغزو إليها.
فالحرب الصليبية الرابعة أشرف عليها الكسيوس حاكم بيزنطة لغزو مصر سنة 1204 بحجة إخضاع الأرثوذكس في مصر للبابا. و لكن الحرب كانت ممولة من مراكز المال و التجارة الكبرى في ثغور إيطاليا و انجلترا و فرنسا.
5- و في سنة 1218 شنت الحملة الصليبية على مصر أيضا، لحصار دمياط، بحجة الاستيلاء عليها، ثم المساومة عليها بتركها في مقابل استرداد القدس، و دام حصار الصليبيين لدمياط سبعة عشر شهرا. ثم توغلوا محاربيين في الدلتا عشرين شهرا أخرى، ثم انهزموا و انسحبوا من دمياط في 1221، و عادت فلولهم إلى عكا.
6- و بعد سنوات قليلة، انتهزوا فرصة شدة الخلافات بين ورثة صلاح الدين الأيوبي، و الصراع بين الكامل في مصر و ابن عمه الناصر في دمشق، فاستولى فردريك الثاني على القدس دون قتال!! و ظلت في أيديهم حتى استردها جيش مصري في فبراير 1229. و بقيت في يد المسلمين العرب منذ ذلك الوقت.
7- و لم تخمد شهية أوروبا النامية للاستيلاء على هذا الشرق الغني. فقاد لويس التاسع الحملة السابعة على مصر، و احتل دمياط في ديسمبر 1244، و اندفع محاربا بقصد الوصول إلى القاهرة، و لكنه سقط أسيرا في أيدي جيوش مصر، و سجن في المنصورة في أبريل 1250، و بقي في السجن حتى اشترى حريته و حرية قادته بمال كثير، و انسحب من مصر.
انسحب عائدا إلى إحدى ممالك اللاتين في فلسطين، و بقي أربع سنوات يحاول الإيقاع بين المسلمين العرب ليسترد القدس، و تحالف مع هولاكو حين بدا خطر الزحف المغولي الرهيب يلقي بظله على المنطقة.
و وصل المغول إلى بغداد و دمروها سنة 1258، ثم اكتسحوا مملكة حلب، ثم مملكة دمشق. حتى تقدمت جيوش مصر ومعها جيوش سائر العرب المسلمين و دارت معركة عين جالوت التاريخية، في سبتمبر 1260، و انتهى بهذه المعركة خطر المغول بأكمله. و زاد ضعف الممالك اللاتينية، فتقدمت جيوشنا المنتصرة فحررت حيفا وصفدوا أنطاكيا و غيرها.
8- فلما تحركت الحملة الصليبية الثامنة و الأخيرة من فرنسا، كانت قليلة الثقة، فاترة القوى، فبعد أن أبحرت متجهة إلى الشرق، عادت فاتجهت لاحتلال منطقة أقرب.. و هي تونس!
و في الشرق مضى السلطان قلاوون يحرر ما بقي للصليبيين من ممالك أو ثغور.. صور و بيروت و طرطوس و صيدا.
و انتهت تلك الصفحة التي دامت قرونا، و سميت باسم الحروب الصليبية، و قد انقرضت ممالك اللاتين المصطنعة. وعادت البلاد إلى أصحابها. و إن ظلت مرارة تلك المرحلة في نفوسهم قرونا.. يؤلفون فيها و يعودون إليها، و يدرسونها في مدارسهم، من وجهة نظرهم طبعا.
***
و لكن هل انتهت القضية، عند هذا التاريخ؟
يتبع...