رمضان المبارك والطرابلسيّون.. - بقلم د. عمر عبد السلام تدمري
لشهر رمضان المبارك نكهة خاصة في مدينة طرابلس. فهي وإن كانت مثل غيرها من المدن العربية والإسلامية تحتفل بهذا الشهر الكريم احتفالات مشتركة بالشكل العام في الإفطار والسحور وصلاة العيد وغير ذلك من شعائر إلاّ أنّ الطرابلسيّين لهم خصوصيّاتهم المميّزة عن غيرهم في هذا الشهر المعظّم. فهم كانوا يقومون قبل حلول شهر الصوم بالخروج من بيوتهم في يوم معيّن من أواخر شهر شعبان إلى ضواحي المدينة حيث كانت المتنزّهات الطبيعيّة بين البساتين، وعند عيون الماء والبرك، والجبال، والأودية.
ومن أشهر تلك الأماكن التي أذكرها قبل نحو خمسين عاماّ مرتَفع أبي سمراء بين شجر الزيتون، وعند المنطقة المعروفة ب"الشَلْفَة"، وهي "الشُرْفة" التي تُطل على النهر المُنساب في الوادي، حيث كانت تلك الهضبة خالية من العمران، تزيّنها الزهور الطبيعيّة، بمختلف ألوانها وأشكالها، أو في مرتفع أبي سمراء من الجهة الجنوبية المطلّة على وادي "الخنّاق" أو عند عين ماء رقراقة عند برج رأس النهر كان يُطلق عليها قديماً "صدر الياز". أو على جانبي السكة الحديدية للقطار التي كانت تشقّ بساتين السقي، أو عند بركة الماء التي كانت قرب ضريح البطلة الطرابلسية عائشة البشنّاتية في محلّة "حارة النصارى". ومنهم من يُبعد فيذهب إلى بركة السمك في البدّاوي، أو بالقرب من عين الماء الفوّارة داخل البحر في "أبو حلقة"، ويسمّون ذلك اليوم ب"سيران رمضان"، حيث يأخذون معهم الطعام والشراب والفواكه والحلوى و"الأركيلة" ولوازمها من فحم وتنباك، وأدوات اللعب والتسلية واللهو، مثل ورق "الشدّة"، و"البرجيس" و"الدومينو"، كما يأخذ الأولاد الحبل للقفز وغير ذلك.
وبعضهم يصطحب الطبلة "الدربكة"، فيأكلون التبّولة أو الفتّوش، ويشوون اللحوم، والكبّة، ويغنّون، ويلعبون ويمرحون ويلهون طوال النهار إلى مغيب الشمس يجمعهم شعور مشترك بأنهم سيُحرمون من هذه النزهة الجماعية شهراً كاملاً عندما يحلّ شهر الصوم والنقطاع للصلاة وتلاوة القرآن والتجهّد والتراويح، والتردّد على المساجد لسماع الدروس الدينية والمواعظ وتلاوة القرآن، وينشغل الرجال بأعمالهم، والنساء بإعداد الطعام في بيوتهن، فكنت ترى بيوت المدينة خالية من سكّانها إلاّ من المرضى والعاجزين عن السير، والناس تخرج زرافات زرافات، الأهل مع الأهل، والجيران مع الجيران، والجميع يشعرون بالأمان والفرح والسعادة، وتعمّهم الألفة والمحبّة..
ومن أهمّ المظاهر الرمضانية المتوارثة منذ عصر المماليك، قبل سبعمئة عام، أن عقود الإيجارات للحمّامات العامة في أسواق طرابلس القديمة كانت تستثني شهر رمضان من عقد الإيجار، فيكون على مستأجر الحمّام أن يدفع الإيجار عن أحد عشر شهراً فقط ويُعفى من إيجار شهر رمضان، لأن الطرابلسيين في النهار صائمون، وفي المساء يصلّون التراويح في المساجد، ثمّ يسهرون في المقاهي والمنازيل، ولا وقت لديهم للذهاب إلى الحمّامات، ولهذا كان أكثر الحمّمجية يقفلون الحمّام طوال شهر رمضان، ولا يُفتح إلا ليلة العيد.
والمعروف أنه كان بطرابلس عشرة حمّامات، هي حمّام الحاجب في السُويقة، وحمّام القاضي في الدبّاغة قرب خان العسكر، وحمّام النزهة أسفل جسر اللّحامة، وحمّام العطّار في الملاّحة، وحمّام عز الدين بباب الحديد، وحمّام القلعة، وهو خاص بأنفار القلعة، وحمّام البرطاسي بسوق النحاسين، وحمّام العبد بسوق الصيّاغين، وحمّام النوري بسويقة النوري، حمّام الداوادار بقهوة الحتّة، والحمّام الجديد بالحدّادين، وكانت هذه الحمّامات تشهد إقبالاً وازدحاماً شديدين ليلة إثبات شهر رمضان، وليلة إثبات العيد، قبل أن يتعطّل دورها الاجتماعي في تاريخ المدينة بشكل شبه نهائيّ اعتباراً من منتصف القرن الماضي.
ومن المظاهر الأخرى عدم إجراء عقود الزواج في هذا الشهر المبارك، وهذه الظاهرة لا تزال سارية إلى الآن، حيث يجتهد العروسان في عقد قرانهما قبل حلول شهر رمضان المبارك أو بعد انقضائه في ثاني أيام العيد.
وكان الشهر الكريم قديماً عابقاً بالروحانيات والأجواء الدينية، حيث تكثر مجالس الحديث والفقه والتفسير في المساجد، وكان الجامع المنصوري الكبير يعجّ بالمؤمنين الذين يتابعون الدروس والمواعظ من حلقة إلى حلقة، إذ كان حرم الجامع يشهد أكثر من حلقة علمية في وقت واحد كما كان عليه الحال في الجامع الأزهر بالقاهرة قبل أن تنشأ الجامعة الحديثة. فكان أحد العلماء يعقد حلقة للوعظ بعد صلاة الفجر، وآخر قبل صلاة الظهر، وآخر بعده، وبين الظهر والعصر كان يجلس للحديث والموعظة ثلاثة علماء في وقت واحد كلٌّ منهم في ركن، رئيس البعثة الأزهرية في طرابلس ولبنان، وهي قبل صلاة العصر.
وكانت غرفة الأثر النبويّ الشريف تشهد تلاوة جزءٍ من القرآن الكريم، بعد صلاة العصر من كل يوم، وتمتلئ غرفة الأثر بالحضور الذي يتقدّمهم مفتي المدينة والعلماء، وكانت العادة أن يختموا القرآن كلّه يوم التاسع والعشرين من رمضان تحسُّباً أن يكون الشهر الكريم من 29 يوماً فقط، وعند ختم القرآن الكريم كان يتولّى الدعاء الشيخ ، ويتضمّن الدعاء سُوَر القرآن كلها (114 سورة)، ثم يقوم قيّم الجامع، برش العطور من المسك والزعفران على الحضور، ويعطّر القاعة بالبخور، ويوزّع الحلوى، ويتبادل الحضور التهنئة بختم القرآن، وانقضاء شهر الصوم.
وكان للنساء الطرابلسيات نصيب في الاستماع إلى الدروس الدينية في الجامع، حيث كان يُرفع حاجز من القماش الأبيض في القسم العُلوي الشرقي من الحرم، وبأتي إليه النسوة من زقاق :القرطاوية" فيُصلّين ويجلسن لسماع الدروس إلى صلاة العصر.
أما الظاهرة التي تنفرد بها طرابلس عن غيرها من المدن العربية والإسلامية فهي زيارة الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير، وهو شعرة من لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يتزاحم المؤمنون لتقبيل هذا الأثر الشريف والتبرّك به مرتين فقط من آخر يوم جمعة في شهر رمضان، المرة الأولى عقب صلاة فجر يوم الجمعة، والمرة الثانية عقب صلاة ظُهر الجمعة مباشرة.
وهذا الأثر الشريف قام السلطان العثماني "عبد الحميد الثاني" بإهدائه إلى مدينة طرابلس مكافأةً لأهلها على إطلاق اسمه على الجامع الذي يقوم في حارة النصارى، وكان قديماً يُعرف بجامع التفاحي، وتعرّض للخراب، فأعاد الطرابلسيون بناءه بمساعدة من السلطان، ولهذا أطلقوا اسمه عليه فأصبح يُسمّى "الجامع الحميدي"، واتفق علماء المدينة بعد التشاور فيما بينهم أن يضعوا هذه الهدية في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر جوامع طرابلس، ولوقوع الجامع الحميدي، في ظاهر المدينة، فأقيمت حجرة تحت الرواق الغربي من الجامع وُضعت فيها الشعرة الشريفة، وأصبحت تُعرف بغرفة الأثر الشريف. ويقوم مفتي المدينة بنفسه بحمل العلبة التي توضع فيها الشعرة، وهي معطّرة بالمسك، ويتقدّم الزوّار منها فيقبّلونها تبرّكاًن بدءاً بالرجال، ثم يليهم النساء، ويقف العلماء بجانب المفتي، ويصدح المنشدون بمدائحهم النبوية، ولا تزال هذه الزيارة معمولاً بها إلى الآن.
الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير
وفي الخمسينات من القرن الماضي كان شهر رمضان يأتي في فصل الصيف، فكان أهل الخير يغسلون بركة الدبّاغة الكبيرة قرب جامع التوبة، وبركة الملاّحة،وينظّفونهما جيداً، ثم يملأونهما شراباً مبرّداً بالثلج، من الليمونادة، أو الخرنوب، أو السوس، أو التمر الهندي، فيشرب الناس من البركتين مجّاناً، إكراماً للشهر الفضيل.