الشوق مسمار يوخز القلب، الأفكار مكتظة متناحرة، الكلمات تتآكل، اختار بعضا منها يصلح للحظة وأرسله عبر أثير الهاتف، يحدّث أخاه مخبرا إياه بأن اللقاء سيكون في هذا اليوم. حمل حقيبته ...حقيبة واحدة فقط ؛ عشر سنوات في الضفة الأخرى من المتوسط تركت خطوطا وحفرا على صفحة قلبه ..."جئت بحقيبة وهاأنذا أعود بحقيبة...لا...لم أفشل، لقد استطعت أن أجمع مبلغا محترما معظمه صار إلى سلعة ومحل يديره أخي الأكبر في مسقط الجسد والحيرة والأحلام المتعثرة، ومبعث رائحة الأرض/الأم."
كان يفكر أحيانا في البقاء مغتربا، لكن عبارة كانت توقظ فيه شعورا بعدم الراحة كلما راح يقرأ مذكراته: " ستُحمل وتعاد إلى هناك يا سعيد، ستحملك قدماك أو سواعد معارف لك ...المهم ستعود ...ذلك هو بحرك، البحر هنا ماؤه غير الماء وملوحته موخزة."
واقفا أمام الشباك يتأمل الشرطي الأشقر ذو العينين الزرقاوين والأسنان البيضاء الناصعة ركضت به الذاكرة إلى صفحة قديمة مضمونها علم فرنسي يرفرف وعبارة"موت واقف آعلي". لم تستوقفه كثيرا هذه العودة السريعة إلى الخلف، فما يهمه هو سرعة الإجراءات وإكمال الرحلة، لكن الشرطي وكأنما لمس فيه هذه الرغبة فراح يتباطأ، يقلب الجواز، يبتسم، يرفع حاجبيه لينطق بعدها:
- الجزائر ...خيط متين يربطني بها!
- ليس مثلي.
- أبي ولد هناك، عاش هناك، وفي قلبي هوى لتلك الأرض.
- أجدادي ولدوا في الجزائر، أكمل الباقي...
- سيصبح أبي جدا لأجيال ستأتي، لو بقي هناك تعرف النتيجة.
- لكنه لم يبق وهذا هو الأهم.
- ستكون لي رحلة إلى هناك، لن أتنازل عن هذه الرغبة.
- مُرحَّب بكل سائح يأتي...
في الطائرة كان يحلق مع ذكريات حيه، أيام الأعياد، رمضان، الأعراس، وحتى المشاجرات التي تكسر روتين السلام المهيمن الممل!
انتهت رحلة الجو، وهاهو يقف أمام الشرطي ابن بلده، شاب بشوش، حيوي، بشرة سمراء وعينان سوداوان كما الشعر أيضا.
خاطبه الشرطي:
- أهلا بالعائد، كيف الأحوال هناك؟
- جيدة بالنسبة لهم.
- منذ سنوات وأنا اخطط لزيارة باريس لكن الفرصة تعاند فتبتعد.
- بالتوفيق.
- أبي مجاهد، نجا في عدة معارك، على لسانه حكايات وحكايات...
- سجل يا أخي، سجل كل ما يقوله فالتاريخ يتطور، ينمو، يمرض، يفقد بعض أجزائه، يدور...!
في طريقه إلى المنزل وقف شخصان في دماغه، أثقلاه ولم يبارحا،...شرطيان، "هل هذا تناقض؟ هل هذا أمر عادي؟ أين أنا من كل هذا؟ أذهب وأجيء لكن بدون رغبة، لا دخل للعاطفة في أسفاري، اللهم إلا عاطفة حبي لنفسي وسعيي لإرضائها. ثم لماذا أبي لم يكن شيئا؟ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟ هل أورثني هذا؟..." ينتبه على صوت أخيه يرحب به. تناثرت عبارات الترحيب من بنات الشوق، استقبلت أذناه منها الكثير، فسال في داخله نهر من الحنان تقطع مجراه أحيانا قشعريرة سرعان ما تزول لتتركه يكمل مساره.
على طاولة العشاء -وقد دُعي عمه- نطت الكلمات هنا وهناك، بين ثقيلة وخفيفة، جادة وهزلية، تقطعها ضحكات من حين لآخر،...لكن صدره بقي كاتما حزنا لم يعرف له مثيلا من قبل، نوع من عدم الجدوى، الخيبة، الاستياء...ويفاجئه عمه بقوله:
- أرى فيك أباك القلق، الحائر، الذي نهش الأسى قلبه ليصمت بعدها .
- حدثني عنه.
- لكنه لو مازال حيا لرفض هذا.
- فقط من أجلي...
- أنصت إذا، لقد جذبته الثورة منذ أيامها الأولى، آمن بانتصارها، أظهر شجاعة نادرة واستعدادا للتضحية لا يجارى، نجا من الموت المحقق عدة مرات، فلم يجزع بل كان يتمنى الشهادة، وبعد الاستقلال رفض ما عرض عليه مقتنعا بإعطاء الفرصة للشباب، ومع انقضاء السنوات انطفأت شعلة الأمل في عينيه، وصمت وفي صمته حزن دفين ، و أسف حاد على ما آلت إليه الأوضاع إلى أن انتقل إلى جوار ربه.
- كل هذا ولم يخطئ يوما فيروي لنا شيئا؟ وأنت آلآن فقط تتكلم؟
- كان يرى هذا بينه وبين ربه ، فلم يرد الجزاء من إنسان ولو بكلمة إعجاب تعكر له نيته الخالصة، وقد احترمنا رغبته هذه.
"كان عليه أن يروي لنا كل شيء." زفرها سعيد واستأذن الجميع ليغادر ...
عمــــار رماش