كلية العلوم الإسلامية والعربية
المحاضرة الأولى : الحياة السياسية
وانتقلت إلى العصر العباسي النظم الساسانية بحذافيرها في كل شؤون الحكم.
واتسع الخلفاء في محاكاة الدواوين الساسانية، وأخذوا عنهم نظام الإدارة ، ونظام الوزارة.
وقلما نجد للعباسيين وزيراً غير فارسي، إذ كانوا هم الذين يستأثرون بشؤون الخلافة 
  ويرقون إلى أعلى المناصب.
  فتقاليد الساسانيين قد حوكيت حتى في أزياء رجال الحاشية والموظفين وطبقاتهم.
ولعلنا لا نغلو بعد ذلك كله إذا قلنا إن النظم السياسية والإدارية في الدولة العباسية طبعت بطوابع فارسية قوية ، تحولت في أثنائها الخلافة ملكاً كسراوياً يقوم على الاستبداد والقهر، وتولي الفرس أعلى المناصب وأرفعها ، فظهر العداء واضحاً بين العرب والفرس، وتوالت بينهما الثورات، فكان التفكير في عنصر آخر جديد يقوي نفوذ العرب من ناحية ، ويقف في مواجهة الفرس من ناحية أخرى ، واتجه التفكير إلى العنصر التركي .
   ولما تولى المعتصم الخلافة أكثر من توافد الأتراك في بغداد ، وازداد عددهم حتى ضاقت بهم الشوارع وشكَّل هذا تحولاً حضارياً ؛ فبعد اعتمادهم على الفرس أصحاب الحضارات التي أفادت البيئة العربية ، وأصبح الاعتماد على الأتراك الذين عرفوا بالبداوة والجفوة وليس لهم حضارة.
  إلا إن هؤلاء الأتراك سرعان ما قبضوا على زمام الحكم في عهد المعتصم ، وتقلدوا زمام الشؤون الإدارية بجانب تقلدهم زمام الشؤون العسكرية إلا إن الأتراك بدءوا يتجولون بخيلهم في الأسواق والشوارع فيفسدون ويظلمون الناس ،  فبدا الناس يرصدونهم ويقتلونهم . حينئذ رأى المعتصم أن يعتزل بجنده في موضعٍ ناءٍ عن بغداد  ولم يزل يتخير لهم موضعاً حتى انتهى إلى سامرَّا شرقي دجلة، واهتم بها اهتماماً كبيراً وظل الخلفاء بعد المعتصم يقيمون بها حتى سنة276هـ إذ تحولوا منها إلى بغداد مرة أخرى.
  وخفت صوت الأتراك في خلافة المتوكل إلا أنهم استطاعوا التخلص منه فارتفع صوتهم مرة ثانية في عهد المقتدر
  وقد نشبت بعض الثورات في عهد الدولة العباسية نذكر منها :  
  ثورة الزنج :
  هي ثورة أشعلها رجل فارسي ضد الدولة العباسية ،وكان يدعي أن العناية الإلهية بعثته لإنقاذ الزنج من الاستبداد والظلم حيث كانوا يعملون في الزراعة نظير أجر زهيد لا يسد حاجتهم فالتفوا حوله وأنضم إليهم عدد من عبيد الفرات واستمرت أربع عشرة سنة ونحو أربعة أشهر لم تضع الحرب أوزارها.
  وانتهت ثورة الزنج بالهزيمة وبقتل صاحب الثورة 
  تدهور الخلافة العباسية:
  ساءت الخلافة العباسية وسيطر الأتراك على مقاليد الحكم ، وكانوا هم الحكام الحقيقيين للبلاد ويمكن القول إن الخلافة العباسية تدهورت لعدة أسباب منها:
1ـ تدخل الأتراك في شؤون الحكم وهم ليس لديهم دراية بالسياسة وصور ذلك أحد الشعراء بقوله : 
  خليفة في قفص بين وصيف وبُغاء *** يقول ما قالا له كما يقول الببَّــغاء
المحاضرة الثانية : الحياة الاجتماعية
طبقات المجتمع:
  انقسم المجتمع العباسي إلى ثلاث طبقات:
  1ـ الطبقة الأولى: الطبقة العليا:وهي طبقة الخلفاء والوزراء والقادة والولاة ومن تبعهم من الأمراء والأعيان وكبار رجال الدولة .وهذه هي الطبقة التي غرقت في النعيم والترف والرفاهية واللهو والمجون . واهتمت ببناء القصور وزخرفتها والاهتمام المبالغ فيه بها 
  2ـ الطبقة الثانية: وهي الطبقة الوسطى : وهي طبقة التجار والصناع والموظفين ورجال الجيش والمغنيين . وهي طبقة تعيش في ستر ومعيشة متوسطة. 
3ـ الطبقة الثالثة: وهي طبقة العامة : وهي الأكثرية ، وتشمل طبقة الزراع والحرفيين والخدم والرقيق وأهل الذمة. وهذه الطبقة التي يقع عليها عبء الطبقتين السابقتين ؛ حيث كانت تعاني كثيراً من البؤس والشقاء. 
  الحضارة والترف واللهو. 
  انصرفت الطبقة الأولى إلى حياة اللهو والترف وأهملت شؤون الدولة وتركتها للأتراك ليقرروا ما يشاءون .
  وطبيعي أن تدفع الأموال الكثيرة لا إلى النعيم فحسب ، بل أيضاً إلى الترف في الحياة وكل أسبابها المادية من دور مزخرفة وفرش وثيرة و التأنق في الملبس والثياب والمطعم والمشرب من كل لون والتماس لكل أدوات الزينة  والتفنن فيها تفنناً يتيح كل ما يمكن من استمتاع بالحياة كما استكثروا من العطور وأنواع الطيب الغالية كالمسك والكافور والعنبر ....  
  وقد عمَّ حينئذ ببغداد لبس الأزياء الفارسية ، فكانت كل طائفة من طوائف الموظفين ورجال الدولة تلبس زياً خاصاً بها يميزها عن الطوائف الأخرى . 
  ولا ريب في أن هذا كله كان على حساب العامة المحرومة التي كانت تحيا حياة بؤس وشقاء. 
  الرقيق والجواري والغناء: 
  انتشر الرقيق والجواري ، وشاع الغناء في العصر العباسي بطريقة مفرطة؛ وملئت القصور بالرقيق والجواري والغناء ، وقد دفع هذا الفساد الأخلاقي الذي كان يشيع في هذا العصر إلى انتشار الغزل المكشوف الذي لا تصان فيه كرامة المرأة والرجل جميعاً. 
  المجون والشعوبية والزندقة: 
  انتشرت موجة المجون والشعوبية والزندقة في هذا العصر انتشاراً واسعاً؛ حيث ظل الناس يتمادون في شرب الخمر وأصبحت قصور الخلافة مقاصف للشراب والسماع والغناء وكذلك قصور الوزراء والأمراء وكبار رجال الدولة حتى تورط فيها القضاة. 
أما الشعوبية التي انتشرت في العصر العباسي فهي ثورة ضد العرب تعمل على إيجاد فارق طبقي بينهم وبين العرب ليثبتوا أنهم فوق وأفضل من العرب وقد أخذ الشعوبيون وبالأخص الفرس منهم يشيدون بحضارتهم ومجدهم ، ونقمتهم على الواقع العربي.وكان بشار بن برد أهم من أوقد نيران الشعوبية يظهر ذلك في قوله :
  أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم *** مولى العُريبي فخذ بفضلك ففخر
مــــــــولاك أكــــــــــــــرم من تميــــــــــــم كلهــــــــــــــا *** أهل الفعال ومن قريش المشعـــــــر
هل من رسول مخبر عني جميع العــــــرب *** بأني ذو حسب عادل علــــــــــــــــى حسب
جدي الذي أسمو به كسرى وساسان أبي *** وقيصر خالي إذا عددتم يوما نسبــــــــي
إذا ذكر الشر في مجلس *** أضاءت وجوه بني برمك
الأرض مظلمة والنار مشرقة *** والنار معبودة مذ كانت النار
إبليس أفضل من أبيكـــــــم ادم *** فتنبهــــــــــــوا يا معشـــــــر الفجـــــار
النار عنصره وادم من طينــة *** والطين لا يسمو سمو النـــــــار
والشيخ لا يترك فعاله *** حتى يوارى في ثراء رمسه
المحاضرة الثالثة : الحياة العقلية والثقافية
واهتموا كذلك بعلوم القراءات والتفسير والحديث والفقه فظهر مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم.
  __________________________________________________  _
  
  المحاضرة الرابعة : أغراض الشعر العباسي
أحْيَا أمِيرُ المُؤْمِنينَ مُحَمَّدٌ *** سُنَنَ النَّبِيِّ حَرَامَها وحَلالَها
وراعٍ يُراعي اللّيلَ في حِفظِ أُمّةٍ *** يُدافِعُ عَنها الشّرَّ غَيرَ رَقُودِ
وقد يكون الخليفة سيئ السلوك، ولكن الشعراء يمدحونه بنفس هذه المثالية الكريمة للخلفاء، لأنهم لا يمدحونه من حيث هو ، وإنما يمدحونه كخليفة للمسلمين وموضع آمالهم، وكأنما يريدون أن يرفعوا أمام عينه الشعارات التي تطلبها الأمة في خليفتها وراعيها، لعله يثوب إلى طريق الرشاد ، من ذلك مدح على بن الجهم للمتوكل:.
لَهُ الْمِنَّةُ الْعُظْمى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ *** وطاعَتُهُ فَرْضٌ مِنَ اللـهِ مُنْزَلُ
كما أضاف الشاعر العباسي لقصيدة المدح عناصر مستمدة من بيئته الحضارية.
التناسب بين الممدوح وما يُمدح به ودفعتهم دقتهم الذهنية أن يلائموا بين مدائحهم وممدوحيهم ؛ فإذا مدحوا الخلفاء نوهوا بتقواهم وعدلهم في الرعية ، وإذا مدحوا القواد أطالوا في وصف شجاعتهم، وإذا مدحوا الوزراء تحدثوا عن سياستهم ، وإذا مدحوا عالماً أشادوا بعلمه ، وكذلك صنعوا بالفقهاء والقضاة والمغنيين ، يقول المتنبي مادحاً سيف الدولة :
  ما لي أُكَتِّـمُ حُبّـاً قد بَـرَى جَسَـدي *** وتَدَّعِـي حُـبَّ سَيـفِ الدَولـةِ الأُمَـمُ
إِنْ كــــــــــــانَ يَـجمَـعـُنـا حُبٌّ لِغُـرَّتـــــِهِ *** فَلَـيتَ أَنَّـا بِقَـدْرِ الحُـبِّ نَقـتَسِــــــــــــــمُ
قـد زُرتُـه وسُيـُوفُ الهـِنـدِ مُغمَدةٌ *** وقـد نَظَـرتُ إليـهِ والسُـيُــــــــــــــــــــــوفُ دَمُ
وَ كـانَ أَحـسَـنَ خـَلـقِ الله كُلِّهـِـــمِ *** وكانَ أَحْسَنَ مـا في الأَحسَـنِ الشِيَـمُ
المحاضرة الخامسة : أغراض الشعر العباسي
العزاء : أصل العزاء الصبر ، ثم اقتصر استعماله في الصبر على كارثة الموت، وأن يرضى من فقد عزيزاً بما فاجأه به القدر. 
  موضوعات الرثاء: 
  احتدم الرثاء في العصر العباسي ، فلم يمت خليفة ولا وزير ولا قائد مشهور إلا رثاه الشعراء و سعر موت الأبناء وذوي الرحم قلوب الشعراء ، فبكوهم بدموع غزار .كما بكوا زوجاتهم ، وبكوا كذلك العلماء والجواري ، وظهرت ضروب جديدة في الرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر ، من ذلك رثاء المدن والحدائق والأملاك
  ومن موضوعات الرثاء التي استحدثت في العصر العباسي رثاء الحيوانات والطيور ونحاول الوقوف عند أنواع المراثي 
  
  
  رثاء الحيوانات: 
  من موضوعات الرثاء التي استجدت في العصر العباسي رثاء المدلل من الحيوانات المستأنسة فلم يعد الإنسان هو الكائن الوحيد الذي حزن الشعراء لفقده ، وإنما شاركه في هذا كائنات أخرى كالحيوانات الأليفة والطيـور المستأنسة ، فقد رأينا بعض الشعراء في العصر العباسي يبكون الكلاب، والقطط، والديـوك، وغيرها مـن تلك الحيوانات والطيور التي أحبها الإنسان وألفها، وأستأنس بها، ووجـد فيها السلـو والنفـع  ومن ذلك رثاء أبو نواس لكلبه الذي لسعته حية في عرقوبه فمات ، ويستهلها بقوله 
  يا بُؤس كلبـــــــي سـيد الكـــــــــــلاب *** قد كان أعنانـــي عن العُقاب
يا عين جودي لي على حلاب *** من للظباء العفــــــــــر والذئاب
يا هرُ فارقتنـا ولـم تعــد *** وكنـت عندي بمنزل الولـد
أبكـي إذا أبصرت ربْعَك موحشـاً ***  بتحنــــــن وتأســــــــف وشهيــــــق
 فظهر في العصر العباسي رثاء المدن، وقد كان جديداً بكل معاني الكلمة، وإن كان لهذا الفن جذور في الشعر الجاهلي – كما جاء عند امرئ القيس - فقد جاء في ونماذج رثاء المدن في الشعر العباسي أكثر من أن تحصى ، من ذلك رثاء بغداد؛ حيث كانت أول محنة أصيبت بها مدينة في العراق في العصر العباسي هي المحنة التي أصيبت بها بغداد العاصمة ، حين نشب الصراع بين الأمين والمأمون ، فقد حاصرت جيوش المأمون بغداد وضربت المدينة بالمجانيق ، فاصطلي الأهالي بهذه النيران، وخرجوا من بيوتهم مشتتين بعد تهدمها ، وكثر الخراب والهدم والدمار ، حتى درست محاسن بغداد ؛ وقد صور هذا العتري في قوله :
  من ذا أصابـك يا بغـداد بالعيـن *** ألم تكونـــــي زماناً قـرَّةَ العيـــن ؟
ألم يكن فيـك قوم كان مسكنهـــم *** وكـان قربهــــــــمُ زَيْنـاً من الزيـن ؟
بكيت دماً على بغداد لمَّـــــا *** فقدتُ غَضَارةَ العيـش الرقيـــق
تبدلنا همومـــــــا من ســــــرور *** ومن سعة تبدلنــــــــــــــا بضيــــــــق
رثاء الجواري والغلمان: 
  كثر الرقيق في العصر العباسي كثرة مفرطة بسبب من كانوا يُؤسرون في الحروب وبسبـب انتشار تجارته ؛ وقد كانت قصور الخلفاء والأعيان تزخر بالجواري والخدم 
وكان للجواري مكانة كبيرة في نفوس الخلفاء والأمراء ، ينظمون الشعر فيهن إذا أعرضن ، وكم تباكى الخلفاء وأبكوا الحاضرين معهم لموت جارية من جواريهم ، من فقد شاع كذلك في العصر العباسي رثاء الجواري ، ويمكن القـول إن هذا النوع من الرثاء يوشك أن يكون مستحدثاً في العصر العباسي ؛ لكثرتـه ولاهتمام الخلفاء به ، فالرشيد أقسم أنه سوف لا يُسر بشيء بعد جاريته " هيلانه "، فبفراقها فارق لذة العيش ، يقول : 
  أقول لما ضمنـوك الثـــــرى *** وجالـت الحسـرة في صدري
أذهـب فلا والله لا ســــرنى *** بعــدك شيء أخــر الدهـــــــــر
كـوَّر شمـس النهـار فانكـدرت *** كواكب الليـل كل مُنْكـــــدر
غير مجد في ملتي واعتقادي *** نوح باك ولا ترنـــم شـــــــادي
أصم بك الناعي وإن كان اسمعا *** وأصبح معنى الجود بعدك بلقعا
وقد شاع في العصر العباسي بكاء الرفقاء والأصدقاء، بكاء يفجر الحزن في النفس؛ لما يصور من شقاء الأصدقاء بموت رفاقهم وكيف يصطلون بنار الفـراق المحـرقة، وأخذ الشعراء يعبرون عن حزنهم بأبيات شعرية، فهذا "بشار" يتحسر على صديقه ، قائلاً: 
ويلي عليه وويلتي مــن بينــه *** كان المحب وكنـت حبـاً فانقضــى
قد ذقت ألفتـه وذقـت فراقـــــــه *** فوجدت ذا عسـلاً وذا جمر الغضا
بكـاؤكُما يُشْفي وإن كان لا يُجْدي *** فَجُـودا فقد أودى نظيـركُمَا عنْـدي
كأنــي غريــب بعد موت محمد *** وما المــــوت فينـا بعـده بغريــب
وبعــــدك لا يَهْوى الفُؤادُ مســـــــــــرَّةً *** وإْن خان في وصْـل السُّرور فلا يَهْني
فيا ليتني للمـوت قدمت قبلهــا *** وإلا فليت المـوت أذهبنـا معــاً
المحاضرة السادسة : أغراض الشعر العباسي
وزارة العباس من نحسها *** ستقلـــــع الدولة من أُسّهـــــا
شبهته لما بدا مقبـــــــــــــــلاً *** في خلع يخجل من لبسها
جارية رعناء قد قـــــــدّرت *** ثياب مولاها علــــى نفسها
ألا مَن مُبلِّغٌ عنــــــــــ  *** ي الذي والِدُه بُردُ
إذا ما نُسِب الناسُ ***  فلا قَبِلٌ ولا بَعـــــدُ
وأعَمى يُشبه القِــرد *** إذا ما عَمِيَ القـِردُ
رابعا : الفخر
  ظلت للفخر حيويته القديمة وإن ضعف صوت الفخر القبلي ، وإن كنا نجده من حين لآخر عند بعض الشعراء العباسيين ، كما هو عند أبي نواس الذي كان يتعصب لمواليه من بني سعد العشيرة القحطانية ، ونظم في ذلك أشعاراً كثيرة .
وكما هو عند البحتري الذي يفتخر بقبيلته ” طي ” ، وكذلك علي بن الجهم الذي افتخر بأهله القرشيين ، قائلاً :
  أُولئـــــــــــــكَ آلُ اللـهِ فِهْـــــــرُ بنُ مــــــالكٍ ***  بهــــم يُجْبَرُ العظمُ الكسيرُ ويُكْسَرُ
هُمُ الْمَنْكِبُ العالي عَلى كُلِّ مَنْكِبٍ *** سيوفُهُـــــم تُفْنـــــي وتُغْنــــي وتُفْقـــــــــــــــِرُ
لا أشرَبُ الماءَ إلاّ وهوَ مُنجَرِدٌ *** من القَذَى ولغَيري الشَّوبُ والرَّنِق
عَزمي حُسامٌ، وقَلبي لا يُخالِفُهُ *** إذا تَخاصَـــــــــــــــمَ عَزْمُ المَرءِ والفَرَق
وما يلاحظ على الفخر العباسي أن كثيراً من الشعراء صدروا في فخرهم عن شعور طاغ بالمروءة والكرامة والشيم الرفيعة ، كما في قول الشاعر العباسي 
  وَمَن يَفتَقِر مِنّا يَعِش بِحُسامِهِ *** وَمَن يَفتَقِر مِن سائِرِ الناسِ يَسأَلِ
وَإِنّا لَنَلـهو بِالسُيوفِ كَما لَهَت *** فَتاةٌ بِعِقــــــدٍ أَو سِخــــــــــابِ قَرَنفــــــــــــــُلِ
أقللْ عتابـــــــك فالبقــــــــــــاءُ قليــــــــــــــل *** والدهــــــــــر يَعدِلُ تارةً ويميـــــــــلُ
لم أبْكِ من زمن ذَمَمتُ صُروفه *** إلا بكَيتُ عليـــــــــه حين يَزُولُ
ولكُــــــــــــلّ نائبــــــــــــــــــــةٍ ألمـــت مُـــــــدةٌ *** ولكـــــــــــــــــــل حالٍ أقبَلت تَخويلُ
أُقِـــــــــــرُّ بِمـــــــا لــــــــَمْ أجْنِـــــــهِ مُتَنَصِّـــــــــــــلاً *** إلَيْـــكَ، علــــى أنّــــي إخالُكَ ألْوَمَـــــا
ليَ الذّنْبُ مَعْرُوفاً، وإن كنتُ جاهلاً *** بهِ، وَلَكَ العُتْبـــــــَى عَلَـــيّ وأنْعِمَــــــا
وَمِثْلُكَ إنْ أبْدَى الفَعَــــــــــــــــالَ أعــــــــــادَهُ *** وإنْ صَنَـــعَ المَعــــرُوفَ زَادَ وَتَمّمَــا
يقول أبو نواس : 
  أيا رُبَّ وَجــــهٍ، فـــــي التّرابِ، عَتيقِ *** ويا رُبَّ حُسْنٍ، في التّرابِ، رَقيقِ
أرى كــــــل حـــيٍّ هالِكــــــاً وابنَ هالِكٍ *** وذا نَسَبٍ فــــــــي الـهالكينَ عَريــــــقِ
فقُلْ لقرِيبِ الـــــــــــدّارِ: إنّكَ ظاعِــــــنٌ *** إلــــى مَنْزِلٍ نائـــــــــي الْمَحَلِّ سَحيقِ
إذا امتَحَنَ الدُّنيا لَبيبٌ تكَشَّفَتْ لـهُ *** عَـنْ عَــــدوٍّ فــــي ثِيــــــــــابِ صَديــــــقِ
وعاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ جَمِيلَةٌ *** وأَفْضَلُ أَخْلاقِ الرِّجالِ التَّفَضُّلُ
وما المالُ إلاَّ حَسْرَةٌ إنْ تركتَهُ *** وغُنـــــــــْمٌ إذا قَدَّمْتَهُ مُتَعَجَّــــــــــــــــــــــــلُ
ولِلْخَيْرِ أَهْلٌ يَسْعَدُونَ بِفِعْلِــــــــه *** ولِلنَّاسِ أَحْــــــــوالٌ بهــــــم تَتَنَقَـــــــــــــــّلُ
وللـهِ فِينا عِلْـــــــمُ غَيْبٍ وإنَّمـــــــــا ***  يُوَفِّقُ مِنَّا مَنْ يَشاءُ ويَخْــــــــــــــــذُلُ
المحاضرة السابعة : أغراض الشعر العباسي
أما الغزل العذري ( العفيف) فقد أخذ يضيق ضيقاً شديداً في العصر العباسي بالقياس إلى عصر بني أمية الذي أخذ ينتشر فيه هذا النوع من الغزل انتشاراً واسعاً.
وإن كنا نجده عند الشاعر العباسي العباس بن الأحنف، من ذلك قوله : 
واللـهِ لَوْ أنّ القُلوبِ كَقَلْبِهـــــــا *** ما رَقّ للوَلدِ الصّغيرِ الوَالـــــــــدُ
كتَبتْ بأن لا تأتِني فَهَجَرْتُها *** لتَذوق طَعمَ الـهَجْرِ ثمّ أُعاوِدُ
أزَينَ نِساءِ العالَمينَ أجيبــــــــــــــــــــــــــي *** دُعاءَ مَشوقٍ بالعِـــــــــــــــــــراقِ غرِيبِ
كتَبتُ كِتابـــــــــــــي ما أقُيمُ حروفَــــــــــه *** لشِدّة إعوالـــــي وطُــــــول نَحيبــــــــــي
أخُطُّ وأمحو ما خَطَطتُ بِعَبْـــــــــــــرةٍ *** تَسُحُّ على القِرطاس سَحَّ غُروبِ
أيا فوزُ لو أبصرتني ما عَرَفتِنـــــي *** لطولِ شُجوني بعدَكُم وشحوبــــي
وأنتِ من الدُّنيا نصيبي فإن أمُت *** فليتكِ من حُورِ الجِنانِ نصيبـي
أرى البَيْنَ يشكوهُ المُحبُّون كلُّهـــــمْ *** فيا رَب قرِّبْ دارَ كـــــــــــــــــلِّ حَبيبِ
وقد عمل أبان بن عبد الحميد على إشاعة هذا الفن الشعري الجديد، فقد نظم فيه تاريخاً وفقهاً وقصصاً كثيرة وأهم من ذلك كله أنه نظم في القصص كتاب كليلة ودمنة في أربعة عشر ألف بيت، يستهلها بقوله : " هذا كتاب أدب ومحنة وهو الذي 
  يدعى كليلة ودمنة " .
  وابن المعتز يعنى بنظم سيرة المعتضد الخليفة العباسي ، وعلي بن الجهم ينظم قصيدة مزدوجة في التاريخ تقع في أكثر من ثلاثمائة بيت ، وقد نظم أبان عبدالحميد
  اللاحقي قصيدة يشرح فيها أحكام الصوم يقول فيها :
  هذا كتاب الصوم وهو جامع *** لكل ما قامت به الشرائع
مالي بدار خلت من أهلها شغلُ   *** ولا شجاني لها شخصٌ ولا طللُ
لا الحزن مني برأي العين أعرفـــــه  *** وليس يعرفنــــــي سهــــل ٌولا جبلُ
لا أنعت الــــــروض إلا مـــا رأيت به *** قصرا منيفا عليه النخل مشتملُ
فهاك من صفتي غن كنت مختبرا  *** ومخبرا نفـــــــرا عنـــــي إذا سألـــــوا
كم بين قوم إنما نفقاتهم *** مال وقوم ينفقون نفوسا
عزاؤك أيها العين السكـــــــوب *** ودمعـــــــك أنهــــــا نوبٌ تنـــــوبُ
وكنتِ كريمتي وسراج وجهـي *** وكانت لي بك الدنيا تطيبُ
فإن أك قد ثكلتك في حياتـــي *** وفارقنـــي بك الإلف الحبيبُ
فكــــــــل قرينـــــــــــة لا بـــد يومــــــــــا *** سيشعب إلفها عنها شعـــوب
يموت المـــرء وهو يُعــــــد حيـــــا *** ويُخلِف ظنه الأمل الكذوب
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده *** يرمي الفوارس والأبطال بالشغل
مني وصل ومنك هجر *** وفـــــي ذل وفيك كبـــــــــــــرُ
ومــــــا ســـــواء إذا التقينــــا *** سهل علـــــى خلةٍ ووعــــــرُ
قد كنت حـــراً وأنت عبدُ *** فصرت ُ عبداً وأنت حرُ
المحاضرة الثامنة : من أعلام الشعر العباسي بشار بن برد
فارسي الأب ، رومي الأم ، كان أبوه طياناً يعيش من ضرب اللبن ، وله أخوان: بشر وبشير كانا قصابين، وكان أحدهما أعرج والآخر أبتر ، ولد بشار أعمى، فلم ينظر إلى الدنيا قط ، وعبَّر عن عماه مبكراً قائلاً :
  عمِيتُ جَنِينا والذكاءُ من العَمَى *** فجئتُ عجيبَ الظن للعِلم مَعْقِلا
7ـ بيئته ، كانت بيئة بشار تكتظ بالجواري والقيان ، فاختلط بهن وتغزل فيهن، وساعده على ذلك فقد بصره ؛ حيث مال إلى التجسيد والتشخيص
  هذه العوامل وغيرها أثرت في طبيعة بشار وفي شعره؛ فجاءت طبيعته شديدة التعقيد  وجاء شعره لاذع الهجاء ، حسي الغزل .
  شاعريته :
  لـ ”بشار“ شاعرية خصبة أصيلة أتيح لها أن تتجاوب مع روح العصر وتعبر عن خوالج النفس ، فالغزل والهجاء والمدح والوصف والرثاء والحكمة كلها فنون كان فيها بشار قوي الحس ، مرهف الشعور ، سريع الانفعال
  وكثيراً ما كان يردد في أشعاره أن السمع يحل محل العين في تقدير الجمال، قائلاً:
يا قوْمِ أذْنِي لِبعْضِ الحيِّ عاشِقـــةٌ *** والأُذن تَعْشَقُ قبْـــــــــــل العَيْن أحْيانَا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهْذِي فقُلْتُ لَهُمْ *** الأُذنُ كالعَيْن تُؤْتِي القَلْبَ ما كَانَا
هل من رسول مخبر عنــــي جميع العرب *** باني ذو حسب عادل علــــــى حسب
جدي الذي أسمو به كسرى وساسان أبي *** وقيصر خالي إذا عددتم يوما نسبي
الأرض مظلمة والنار مشرقة *** والنار معبودة مذ كانت النار
إبليس أفضل من أبيكـــــــم ادم *** فتنبهــــــــــــوا يا معشـــــــر الفجـــــار
النار عنصره وادم من طينــة *** والطين لا يسمو سمو النـــــــار
قد تبع الأعمى قفا عجــــــــــــرد *** فأصبحا جارين فـــــــــي دار
تجــــــــــاورا بعـــــــــــد تنائيهمـــــــــــــــــا *** ما أبغض الجار إلى الجــــار
صاروا جميعا في يدي مالك *** في النار والكافر في النــــــار
المحاضرة التاسعة : من أعلام الشعر العباسي أبو نواس
وقدم بغداد فبلغ خبره الرشيد فأذن له بمدحه فمدحه ، ثم انقطع على مدح محمد الأمين الخليفة العباسي، وثبت عنده بعض ما يوجب تعزيزه فسجنه، ولم يلبث بعد خروجه من السجن أن توفي عام198ه، ودفن بمقبرة الصالحين بالجانب الغربي من بغداد .
  ثقافته :
  يقول الدكتور/أحمد زكي عنه:“ أبو نواس شاعر ، ولكنه لم يعدم الاتصال بأصحاب الحديث وعلماء الأخبار واللغة ، واتصل بالأعراب ورحل إلى البادية ، وقرأ ما خلفه الفرس ، وأحاط بما شاع من آثار اليونان، فكان نمطاً بصرياً ، يجمع بين رقة الفنان ودقة العالم " .
  أخذ يفد إلى المربد، كما أخذ ينهل من دروس اللغويين ومحاضراتهم ، خاصة خلف الحمر ، وقرأ كتب الحديث على بضعة من أئمة البصرة . وقرأ شعر ذي الرُّمة على الراوية محمد بن حبيب الناشئ، وتخرج في الشعر ومعانيه على يد خلف الأحمر
وتفرغ أبو نواس للنوادر والمُلح والميل إلى الهزل والعبث ، ولما تقدمت به السن وعلته الشيخوخة ، أخذ ينيب إلى ربه، وينظم أبياتاً مختلفة في الزهد والتنسك. 
العوامل المؤثرة في طبعه وشاعريته :
  1ـ أصله الفارسي ، الذي ورَّث فيه حدة المزاج العصبي .
  2ـ ثقافته وثقافة عصره حيث تثقف بكل الثقافات التي عاصرها من عربية وإسلامية ، ومن هندية وفارسية ويونانية ، ومن مجوسية ويهودية ونصرانية ، كما غرف من حضارة عصره المادية في آثامها وخطاياها.
  3ـ سيرة أمه المنحرفة حيث جعلته يتخذ من المجون والفسق أداة،بل ملجأ للهروب من أزمته ومن هموم الحياة وأحزانها، وأحياناً يعلن تمرداً وإلحاداً في الدين ، ولكنه إلحاد عابر،لا إلحاد عقيدة . 
   4ـ ميله إلى الهزل والعبث، ولعل ذلك هو الذي جرَّه إلى صياح كثير في وجه الدين الحنيف، وكان إذا تلوَّمه بعض معاصريه قال:“ والله ما أدين غير الإسلام ولكن ربما نزا بي المجون حتى أتناول العظائم " .
  5ـ كان يحظى بملكات شعرية بديعة، وهي ملكات صقلها بالدرس الطويل للشعر القديم واللغة العربية الأصيلة، حتى قال الجاحظـ :“ ما رأيت أحداً أعلم باللغة من أبي نواس " .
  شاعريته :
  يمثل أبو نواس عصره المضطرب أصدق تمثيل ، كما اشتهر بتنقيح الشعر، وهو من الشعراء المطبوعين ، استطاع أن يفرض شخصيته على شعره وأوجد فنوناً جديدة كالغزل المذكر ، وأوسع بعض الأغراض القديمة فجعل منها فنوناً مستقلة كالخمريات نظم أبو نواس شعره في جميع الأغراض الشعرية من ذلك غزله في محبوبته جنان
هام أبو نواس بـ“جنان“ وبغيرها من النساء ، وتغزل فيهن ، يقول في جنان محبوبته :
  وقائلةٍ لي: كيْفَ كنتَ تُريـــــــــــــدُ؟ *** فقلتُ لـها: أن لا يكونَ حسودُ
لقد عاجلتْ قلبي جِنانُ بهجرِها *** وقد كان يكفيني بذاكَ وَعِيــــــــدُ
رَأيتُ دنوّ الدّارِ ليسَ بنافـــــــــــــــــعٍ***  إذا كانَ ما بينَ القلوبِ بعيــــــــدُ
لا تَبْكِ ليلى، ولا تطْرَبْ إلــــــى هندِ*** واشْرَبْ على الوَرْدِ حَمْراءَ كالوَرْدِ
كأساً إذا انْحَدَرَتْ في حلْقِ شاربها*** أجْدَتْهُ حُمْرَتَها في العينِ والخــــــــدّ
ألا فاسقِني خمراً وقل لي هيَ الخمرُ*** ولا تسقنـــــــــــــي سرّاً إذا أمكن الجهرُ
يا طالب الدنيا ليجمعهــــــــا *** جمعت بك الآمال فاقتصد
واعمل لدار أنت جاعلها *** دار المقامــــــــــــة آخـــر الأبد
وأندية ينتابها القول والفعل *** وفيهم مقامات حسان وجوهها