[align=justify]نقول (أشهد أن لا إله إلا الله)، ثم ندفع الرشوة لهذا وذاك من أجل تمرير معاملاتنا، بحجة أن الزمن هكذا، وأن ما ندفعه ليس رشوة بل دفع بلاء أو إتاوة! وكأن هذا الذي رشوناه، خشيةَ أذيته، يملك من أمرنا بل من أمر نفسه شيئاً، أو كأن ذاك الذي ظننا أننا يمكن شراء ذمَّتِه وعونِه لنا بمالنا وكرامتنا، هو القادر على أن يُسيِّر أمورَنا وليس الله وحده! وإذا ما أُحصِر بعضنا وأُحرِج، إن ضُبطَ متلبساً بفعلٍ مشين كهذا، نراه بدلاً من أن يعترف بذنبه ويخجل معتذراً، لا يتورع، أحياناً، لتسويغ ما عصا اللهَ به، عن توظيف كلام الله نفسه، في غير محله، فيهبُّ منزعجاً، ويصرخ بنا معنِّفاً ولنفسه معللاً: أَلَمْ تقرؤوا قوله

:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}(1)! ولعل لا غرابة أن أمثال هذا ممن تُردِّدُ ألسنتهم (أشهد أن لا إله إلا الله)، لا يخطر ببال معظمهم أن أهم ما تعنيه هذه الشهادة ألا يخشـى قائلُها أحداً غير الله، وأن لا يطلب عوناً من غيره، بينما مردِّدوها هؤلاء يخشون، في الواقع، كلَّ أحدٍ وكلَّ شيءٍ إلا الله!
ونقول (أشهد أن لا إله إلا الله)، وإذا دقق أيٌّ منا في ما يعبد حقاً وفعلاً، لَوجدَ نفسَه يُشرك مع الله آلهة أخرى كثيرة في مقدمتها: المال، أو الجاه والشهرة، أو الشهوة أو الأولاد، وغير ذلك كثير.. بل إن بعضنا لا يعبد الله مع أيٍّ من هذه الآلهة، بل يمحضُها العبادةَ وحدها! ومن عَجَبٍ أن ترى أمثالَ هذا الموحِّدِ بلسانه، المشركِ بقلبه وفعاله، يمضي بلا تردد ولا تَحرُّج أو أي إحساس بالخطأ، ليتوضأ ويصلي (لله)، كما يزعم! والأدهى أن تعرفَ أن اللهَ لا يخطر على قلبه، أثناء صلاته، لحظةً، لانشغال عقله وقلبه بتجارته أو بزوجته وأولاده أو بمنصبه أو بغير ذلك من شهوات الدنيا ومتاعها وهمومها. فأيُّ توحيد هذا؟!
هذا بعض ما يمكن أن يقال عن فساد توحيد كثير من مسلمي اليوم، أما عباداتهم فليست أقل سوءاً بل ربما أكثر.
فالمسلمون اليوم، بل منذ قرون خلت، يتحدثون، بإعجاب، عن صلاة رسول الله

المتأنية الخاشعة، ثم يصلون، إلا قلة منهم، صلاة عجلى لا خشوع فيها، ما يُصدِّقون متى يفرغون منها لينصرفوا إلى مشاغل حياتهم الدنيا ينجزونها، لا تنهاهم صلاتهم التي فرغوا من أدائها عن فحشاءَ أو منكرٍ من قول أو فعل، وكأنهم لم يسمعوا بقوله

:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}(2)!
ويتحدث معظمهم عن الزكاة والصدقات، مستحسناً لهما حاثّاً عليهما غيره، ولفاعلهما مادحاً، ثم تراه تكاد روحه تخرج مع قليل قد يضطرُ إلى دفعه لفقير سائل أو مسكين محتاج! بل إن كثيرين من أغنياء المسلمين المعاصرين قد أضربوا عن تأدية فرضية الزكاة، معللين امتناعهم عن تأديتها بأعذار وحيل لا تقلُّ مكراً عن أعذارهم في إباحة ممارستهم الربا وأكله.
أما الحجّ، فيتحدث عنه جلُّ المسلمين اليوم، لا من زاوية كونه شعيرة التطهُّر من الذنوب بِنِيَّة عدم العودة إلى ارتكابها، بل من زاوية توهُّمهم أنه تلك الشعيرة التي تمكنهم من محوِّ ذنوبهم الماضية. والأدهى أنهم يحجُّون لمحوها، لا بِنيَّة الكفِّ عن ارتكاب ذنوب جديدة، بل بِنيَّة ارتكاب غيرها، فورَ العودة من الديار المقدسة! وما عليهم إن فعلوا هذا، يقولون مُسَوِّغين ما يفعلون، ما دام اللهُ الغفور الرحيم، سيثيبهم، كما يتوهَّمون، على حجهم لبيته بالعودة منه كيوم ولدتهم أمهاتهم، أياً كانت الذنوب التي ارتكبوها قبل الحج، أو التي ينوون ارتكابها بعد انقضائه، حتى لو كان بينها أكل مالٍ حرام أو سفك دم حرام، أو ما إلى ذلك من كبائر لا تسقط عن مرتكبها إلا إذا سامحه من طالهم ضررُها. ألا إن أوهامهم هذه خطأٌ محضّ، لأن الله ـ بعدله ـ لا يُضيع حقَّ مخلوق ظُلِم، وإن حـجَّ ظالُمه كلَّ عام واعتمر، بل يردّ حـجَّ الظالمِ عليه، ويُعاقبه إن أصرَّ على ظلمه، بدليل قوله

:
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(3).
ويتحدثون عن الصيام وفضائله كل عام، قبل رمضان وبعده بقليل، لكن لا يدرك معظمهم من هذه الشعيرة العظيمة سوى الكفِّ عن الطعام والشـراب والنكاح بين الفجر والمغرب، ثم ملءِ البطون، بعد الإفطار، بكل ما لذَّ وطاب، إلى حدِّ التخمة، بينما الكثير من المسلمين يتضورون جوعاً، صائمين ومفطرين.
فإذا قيل لصائمٍ مِن هؤلاء، وقد انتهى توّاً من إبداء إعجابه بكرم رسول الله

وصحابته وتابعيهم

: جُدْ ببعض ما آتاك الله على صائم جائع، متأسِّياً بأولئك الذين نراك تفيض إعجاباً بهم وبكرمهم، ترى وجهه الذي كان هاشّاً باشّاً قد تغيَّر في ثانيتين، فتمعَّر وتغضَّن، ثم غاضت ابتسامته، ثم تبرَّم غيظاً واستشاط غضباً، قبل أن يُعرِض عنك مستاء حانقاً! حتى ليتهيَّأُ لمن يراه، وقد صار على تلك الحال، أنَّ به وبأمثاله نزل قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(4).
[/align]