باحث - طالب دكتوراه تخصص أدب حديث ــ حاصل على شهادة الماستر، يعمل أستاذ في سلك التعليم الثانوي يهتم بالنقد والقصة مشرف في هيئة النقد وقسم القصة
دخان الفاكهة المحترقة / نصر الدين شردال
نصرالدين شردال: المغرب
قصة قصيرة دخان الفاكهة المحترقة
منذ عشرين عاما وهو يدخن ويقلع.
والآن، قد أصبح شيخا متقاعدا، غدت الدّنيا بئيسة في عينيه، أصبح جلوسه في البيت لا يطاق، لا يذهب إلى "نادي الموظّفين" ذلك النّادي الّذي كان آهلا بالأصدقاء فيما مضى، ترتاده الآن وجوه جديدة، تعتمره كراسي جديدة، وندل جدد لا تعرف الابتسامة إلى وجوههم طريقا، والموظفون المتقاعدون لا يجدون شيئا، غير لعب الأوراق والنميمة.
ــ راح زمن الثّقافة والأنس.
قالها، و ضرب كفّا بكف، وتابع طريقه إلى المقهى الجديدة، حيث ينعم بالرّاحة والهدوء، ومطالعة الجرائد الصّفراء الّتي لا تأتي إلاّ بالحوادث والكوارث...
أمّا إذا عاد إلى الدّار، ويكون ذلك غالبا في وقت الغذاء أو اللّيل، فإنه يجد في انتظاره عاصفة من الغضب والسّخط من زوجته الّتي أهْلِكَ رأسمالها الصّحي بالرّوماتيزم وضغط الدّم وكل أمراض الشّيخوخة...
ــ اخرج سطل الأزبال
ــ اذهب إلى الدّكان...
وهكذا تتناسل أوامرها الّتي لا تنفذ طيلة اليوم.
يذهب إلى المقهى (عزاؤه الوحيد) يحتسي قهوة في الصّباح، وقهوة في المساء، ومع كل قهوة يدخن ما يفوق عشر سجائر.
في كلّ لحظة ينادي على النّادل عبد الرحمن أن يأتيه بالسّجائر، فيأتيه بسيجارة أو سيجارتين، هكذا إلى أن يأتي في اليوم الواحد على عشرين سيجارة أو أكثر، وفي اللّيل يأتي على خمسة أو أكثر، فيأتيه صوتها الآمر اللاّذع:
ــ أغلق نافذة البلكونة، إنّك تخنقني..
فكر طويلا في الاقلاع عن التّدخين، لكنّ النّيكوتين سكن الدّم، وكم مرة قلع وعاد إليه؟
ــ هات السّيجارة يا عبد الرحمن.
ــ خذ، "تكمّا، واعرفْ أشْ تما."، ثم يعود إليه ناصحا هامسا:
ــ التّدخين مهلكة للصّحة والمال يا صديقي؟
ــ الله يعفو علينا
ــ ألا تدخن أنت يا عبد الرحمن؟
ــ الذّي يبيعه، لا يدخنه؟
ــ قل لي، كم تربح معي في السّجائر يا "عبدو"، دون القهوة؟
ــ أربح صداع الرأس!!
ــ لا، لا بدّ أنّك تربح معي أضعاف زبونان يدخنان.
ــ إذن اقلع عن التّدخين، وستكسد تجارتي.
عاد إلى البيت، وفكر طويلا، في تجارة رابحة مثل تجارة صديقه النّادل، كي لا يذهب معاشه في الدّخان والقهوة.. حتّى مساعدة ابنته الوحيدة "سلمى" تأخذها زوجته وحدها لقاء مصارف العلاج.
أسرّ إلى صديقه:
ــ لا بدّ من تجارة رابحة يا عبد الرحمن، سأجلس في باب المقهى، وأضع على طاولتي علب السّجائر، أدخن وأبيع للمدمنين بالتّقسيط، هكذا أحصّن معاشي، وأدخن بعائدات السّجائر.
ــ وكيف ستبدو في هذه المرحلة من العمر، أليس كمتسوّل معاق يجلس جنب أمّه على الرّصيف يستجدي المارة؟
لكن عبد الرحمن، رأى في رأي صديقه تهديدا لتجارته، وأخيرا أهداه حلاّ وسطا حتّى لا يضايقه في رزقه.
ــ اشتري علبة كاملة حتّى لا أربح معك يا عم أحمد!؟
وبعد طول أخذ ورد، رأى أنّها فكرة صائبة، وراح يشتري علبة السّجائر ويحملها معه أينما حلّ وارتحل، علبة "المارلبورو" يضعها على الطّاولة، وفي جيب قميصه الصّدري، يسحب نفسا عميقا وينفث الدّخان في الهواء، لقد أعادت له شيئا من ألقه وبهائه القديم، أيام الشّباب والزّمان الجميل...
الآن، لن ينادي على عبد الرحمان مرارً، ولا على غيره، كل يوم علبة، وقد لا تكفي علبتان في اليوم الواحد. يجدها معه في البيت، في الشّارع، في المقهى، في الحديقة، تتبعه الرّائحة وسحب الدّخان، وهو يتبع هوى الشّباب القديم، حتّى قاده إلى عيادة الطّبيب...
خرج من العيادة محاطا بسخط زوجته ودموع ابنته.
الآن، يجلس في المقهى، يتنفس ببطء شديد عبر فتحة أنبوب في حنجرته، وأمامه صندوق صغير لجمع دراهم الدّواء.!!!
يجلس في المقهى وحيدا، حزينا، لا يفكر في التّدخين، بل في أشياء كثيرة وسوداء.
وقريبا منه، يجلسُ النّادل عبد الرحمن، يلبّي الطّلبات، يضع درهما في صندوق صديقه، وبين الفينة والأخرى يمجّ نفسا عميقا من دخان الفاكهة المحترقة.
عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام
رد: دخان الفاكهة المحترقة / نصر الدين شردال
جميل هذا النص القصصي الذي خلق ككائن جديد يحمل بعض المورثات التي يشهدها المجتمع ويموج بها،
هكذا أرى هذا النص كمولود يحمل سمات التفاعل والاتصال والاختلاف ، كلماته يحركها صراع البقاء والاستمرار ...
مرحباً بأول إبداع يهطل علينا بقلم القاص شردال نصر الدين
مرحباً ... وأهلا وسهلا