أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
إذا....
[align=justify]سألَتني زوجتي، وهي تُقدِّم لي مولودنا البكر بعد وضعه، وطيف ابتسامة حالمة متفائلة ترفُّ فوق شفتيها الرقيقتين:
ــ ماذا تتمنى له أن يصير حين يكبر؟
حملني سؤالها الذي تَوَهَّمَتْهُ بسيطاً إلى عوالمَ كالحة معتمة عبرت بي من الماضي إلى الحاضر، وأعادتني إلى كل لحظات الخوف التي مرت بي وبأقاربي وأصدقائي، عبر السنين الثلاثين التي عشتُها، قبل ميلاد ابننا.. ارتجف قلبي خوفاً على مصير هذا الطفل الجميل البريء الذي بدا لي، في تلك اللحظة، مثل النقطة في المصحف، كما يقول المثل.. وبدأت غيوم داكنة تجمعت في رأسي من أسئلة لا جواب لها، منذرة بأمطار غزيرة من العجز والخوف، ثم ما لبثت أن انهمرت من عيني دموعاً مدرارة، الأمر الذي جعل زوجتي تبهت، وهي تسألني مندهشة إلى أقصى حد:
ــ ما بك..؟ لماذا تبكي؟
ناولتُها الصغير، وتابعتُ بكائي سائحاً بين ذكريات الماضي الأليمة ووقائع الحاضر الأكثر إيلاماً، متخيلاً ما يمكن أن يكون عليه وضع ابننا، إذا لم يتغير الحال التي نحن عليها.. فكانت كلها صوراً قاتمة مروعة، فازدادت دموعي انهماراً.. وبعد أن بكيت ما طاب لي البكاء، مسحتُ دموعي بطرف كمي، ثم قلتُ لها مفسراً:
ــ اسمعي يا زوجتي العزيزة.. سؤالك أثار كوامن ألمي وخوفي، ودفع إلى قلبي بأحزان لا حدود لها.. فبكيت إشفاقاً.. والآن، وبعد أن أراحني بكائي قليلاً، دعيني أُجِبك عما سألتني، فأقول:
ــ إذا لم يُصَب ابننا، وهو ما يزال صغيراً، بمرض عضال أو غير عضال، يتخذ منه أطباؤنا المحشوُّون إنسانية سبباً لابتزازنا، دون أن يداووه ليشفى، أو يتركوه ليموت بمرضه؛
وإذا لم تدهسه، وهو في الطريق إلى مدرسته، سيارة مسرعة، يقودها شاب أرعن من أبناء أحد المسؤولين أو الأغنياء الذين اشتروا بجاههم ومالهم تلك المنطقة التي تُسمى (فوق القانون)؛
وإذا لم يُفسده رفيق سوء متحضر، عندما يبلغ المراهقة، فيعلمه إدمان المخدرات ومعاقرة الخمرة، ومعاشرة المومسات حتى يُصاب بالإيدز؛
وإذا لم يعلق به صديق آخر، فيجره إلى التعصب الديني، ثم يجعل منه قاتلاً باسم الدين، يُلوّث يديه بدماء الأبرياء، قبل أن يتم القبض عليه ويُعدَم؛
وإذا لم يُلاحقه (أنبياء) الديمقراطية الأمريكية، وأدعياء الحرص على (حقوق الإنسان)، بتهمة الإرهاب، لأنه رفض أن يحني رأسه ذلاً أمامهم، ورفض احتلالهم لوطنه، وقرر قتالهم وفضْحَ زيف ادعاءاتهم ونفاقهم، فقتلوه؛
وإذا لم يستطع ضبط لسانه وأعصابه، فيمنع نفسه عن الصراخ في وجه جلاديه، رافضاً مصادرتهم لحقه الطبيعي في حرية التعبير والتفكير، مصراً على مقاومتهم حرصاً على حريته وكرامته الإنسانية، حتى أودعوه في سجن منسي ونسوه في غياهبه حتى مات؛
وإذا لم يمت جوعاً لرفضه بيع ضميره وشرفه وعرضه؛
وإذا لم يقضِ غيظاً لعجزه عن مواجهة الذين أذلوه؛
وإذا لم يمت خوفاً من إلصاق أي تهمة به، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف؛
وإذا لم تحاصره الهموم بسبب ظلم من حوله له؛
وإذا لم يسقط فوق رأسه سقف بيت بناه تاجر بناء بلا ذمة؛
وإذا لم يمت متسمماًً بلحم فاسد اشتراه من لحام فاسد رشا لإدخاله إلى الوطن، مسؤولاً فاسداً؛
وإذا لم يغرق في مسبح، منقذه لا يداوم لأنه مدعوم؛
وإذا لم تطحنه الديون، وتفترسه الخيبات، وتلاحقه الظنون، حتى يموت كمداً أو مختنقاً بدموع اليأس؛
وإذا؛....
وإذا؛....
وإذا؛....
إذا لم يحدث له أياً مما ذكرتُ لكِ سابقاً أو ما يُشبهه، فإنني أتمنى أن أراه ذات يوم، إنساناً عادياً، يعيش هادئ البال، شبعانَ المعدة، آمناً مسروراً في وطنه، عزيزاً بلا ذل، حراً بلا عنف، غنياً بلا جشع ولا حرام، قانعاً بحياة الإنسان العادي الذي خلقه الله ليسعد في هذه الدنيا لا ليشقى..
وكان ابننا يستمع لحديثي مع أمه، منصتاً لما أقوله لها بانتباه، ولهذا، ما إن أنهيت كلامي معها، حتى بكى بكاء حاداً، ثم كفكف دموعه بطرف قماطه، ثم اجترح معجزة الكلام في المهد ثانية، كالسيد المسيح عليه السلام، فقال وهو ما زال في المهد صبياً، مخاطباً أمه بتضرع ورجاء حارين:
ـ أرجوك يا أمي! إلى بطنك أعيديني! ومما ينتظرني في هذه الدنيا أنقذيني! وإن لم تستطيعي، فسارعي واقتليني، من الآن، لتريحي نفسك وأبي وتريحيني![/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة محمد توفيق الصواف ; 26 / 09 / 2016 الساعة 19 : 10 PM.
جامعة بيرزيت ، رئيسي الكيمياء / فرع التسويق، تكتب الخواطر والقصص القصيرة
رد: إذا....
ومنذ كتابتك لهذه القصة إلى اليوم، زادت أعداد الـ "إذا" كثيراً ..
قصة مؤلمة، تتحدث عن واقعنا المرير، الذي ما زلنا نقول سيتحسن،
لكنه يزداد سوءاً عاماً بعد عام ...
وأنا أصبحت -منذ زمن- مثل هذا الرجل في القصة، كلما رأيت طفلاً، أقول لِمَ والداه أنجباه لهكذا حياة !
أبدعت القص أ. محمد الصواف .. وآلمتنا كلماتك كثيراً ..
ودي ووردي
دائما يا أستاذي الجليل. أراك تسطر الواقع بإحتراف ..وبإحتراق أيضا .. وأنصت فإذا بصدى يخرج من بين سطورك لصرير قلم يبكي ألما.. ودائما أردد قول الأخت فاطمة ..ويشغلني حال المستجدين على هذه الحياة..شكرا لك أستاذنا القدير . لمتعة القص ..وللحث على حمل هموم البشر.. والتعاطف مع قضايا المجتمع..كل التحية والتقدير لشخصك الكريم.
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: إذا....
[align=justify]كم أتمنى أن تتحسن أوضاع عالمنا هذا، ولو قليلاً، لكي لا تخطر هذه الـ (إذا) على بال أيِّ أبٍ وأم، من شعبنا، في المستقبل..
شفافيتكِ أبانت عن ألمك.. لكن ثقتي بقوة جيلكِ تجعل أملي كبيراً بقدرة هذا الجيل على تغيير سواد راهننا، وتكوير شمس مستقبله بيده، وعلى النحو الذي يُحب..
أتمنى لك ولكل أبناء وبنات جيلك مستقبلاً أجمل وأفضل من واقعنا الراهن، وأتمنى أن أعيش لأشهد التغيير الذي آمل أن تُحققوه..
شكراً لمرورك أستاذة فاطمة، وشكراً لتفاعلك مع هذا النص، ويؤسفني أن مضمونه قد آلمكِ، ولكن تذكَّري دائماً أن الفرح يُولَد من رحم الألم..
مودتي وتحياتي.. [/align]
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
رد: إذا....
[align=justify]أستاذة عزة..
الكاتبُ الذي لا يستطيع أن يغمسَ قلمه في جراح الآخرين تارة، وفي آلامهم تارة أخرى، وفي آمالهم وأحلامهم دائماً، لا تستطيع كلماته، مهما زيَّنها بضروب البلاغة، أن تتجاوز أسماع قرائه وعيونهم إلى قلوبهم، وبالتالي لا تستطيع أن تُؤثِّر فيهم..
أرجو أن أكون فعلاً ممن يحمل هموم الآخرين، لأنَّ الإنسان كلمَّا حمل من هذه الهموم أكثر كلمَّا ازداد الإنسان الذي في داخله عَظَمَةً ونبلاً، وكلمَّا صار إلى الله أقرب..
تحياتي ومحبتي...[/align]
دكتور محمد الصواف
بلا خجل سأقولها بصراحة
حينما رزقت بابنتي الأولى جوري كنت فرحاً ومسروراً أمام الناس، لكن قلبي من الداخل كان يعتصر ألماً لأن ظروفي معقدة وصعبة في ظل الحصار والواقع من حولي مضطرب للغاية...
فشعرت بالكثير مما تفضلت به
وتولد لدي شعور بالذنب!
لكني أحاول ما استطعت كالكثير من الشباب العربي أن لا أقع فريسة لأكل العيش!
رائع وأكثر دكتور محمد
الأدب الحقيقي هو الذي يعبر عن واقع الناس ويسعى لتغييرهم للأفضل
وأنت رائد في هذا الأدب أيها الأديب الرائع
أديب وشاعر جزائري - رئيس الرابطة العالمية لشعراء نور الأدب وهيئة اللغة العربية -عضو الهيئة الإدارية ومشرف عام
رد: إذا....
[align=justify]أخي الأكبر الدكتور الصواف.. ال (إذا) هذه ستفتح الطريق للكثير من شبابنا وتفتح لهم نوافذ وأبوابا مطلّة على الآتي بأناة وتبصّر..لأنني أومن بمفعول سحر الكلمة الصادقة المؤثّرة..شكرا لك أيهذا المسنّ مثلي على (إذاك) المستفزّة (ابتسامة)..[/align]
وأنا أتابع حروفك بين السطور تخيلت الواقع المرير الذي يرعبنا ويخيفنا هو شبح المخدرات ووووووو ذلك الشبح الذي أصبح يرعبنا في منامنا وفي يقضتنا ، خوفا على فلدات أكبادنا
وضعت يدك على مكامن الجرح أ. محمد الصواف .
استطعت وبكل تمكن أن تدخل الأعماق وكأنك تحلل ما بدواخلنا بكل صدق واحترافية.
تحياتي لقلم صادق حر.