رد: رواية رجل من الماضي على حلقات
بعد أيامٍ ثلاثةٍ وفي الصباح كان ثلاثةُ شبابٍ يجلسون أمام المقهى على الطاولةِ رقم - 1- التي تُوجدُ في الركن الأيمن للمدخل في الصالةِ الخارجيةِ للمقهى والمحاصرةَ بشبكٍ من الحديد؛ إذ لا يُوجدُ طريقٌ لها إلَّا من البابِ الرئيس، بدأتْ الحياة تدبُّ في الشارع بشكلٍ غريبٍ، كان الشبابُ يجلسون على تلك الطاولةَ، يحتسون البيرةَ ويتحدَّثون في مرحٍ وسرورٍ، ويُراقبون المارَّةَ والسياراتِ التي بدتْ كسيلٍ مُتدفِّقٍ، يتبادلون أطرافَ الحديثِ، وكلٌّ منهم يروي مُغامراتِه الصبيانيَّةَ مع صديقته أو حبيبته، وهم في سعادةٍ لا مُتناهيةٍ.
في غمرةِ تلك السعادة حدَثَ أمرٌ مروِّعٌ؛ تقافزَ الشبابُ عن الكراسي، وأحدثتْ الطاولةُ التي قُلبتْ أرضاً ضجَّةً كبيرةً؛ إذ تَدَافَعَ كلٌّ منهم مُحاولاً الهربَ مُحدِثينَ صخباً كبيراً؛ فوقعتْ الزجاجاتُ والأكوابُ، وسُكبتْ البيرةُ على الأرضِ، وهربَ مَنْ يجلسُ على الطاولات المُجاورةِ، وأطلَّ رُوَّادُ المقهى من الداخل لاستطلاعِ الأمر وسط فوضى عارمة، فشاهدوا رجلاً يرتدي ملابسَ رُعاةِ البَقَرِ يقفُ بجانبهم كأنَّه نزلَ من السماء.
ظهرَ على الرجلِ الاستغرابُ والدهشةُ بوجهٍ فزعٍ يكتنفُه الخوفُ والغضبُ أيضاً، ولم ينبسْ ببنتِ شفةٍ للحظاتٍ حتَّى هدأ الجميعُ وما زالوا في ذهولٍ محمومٍ.
وقف الشبابُ والآخرونَ بشكلٍ حذرٍ ينظرون للرجل الوجلِ، عندها تساءلَ الشبابُ:
من أينَ جاء هذا الرجلُ يا ترى؟
هل سقطَ من السماءِ حقاًّ كما رأيناه؟
هل خرجَ من الأرض؟
أم أنَّ هناك الكاميرا الخفيَّةَ تتلاعبُ بنا؟
كان الرجلُ ينظر يميناً وشمالاً ويُحدِّقُ بمَنْ حوله، ثم رمى الشبابَ بنظرةٍ مُتفحِّصةٍ وقال لهم بعد أنْ صكَّ أسنانَه وضغطَ بقوَّةٍ على رأسِهِ بيديه:
لو سمحتُم يا سادةُ، ما اسمُ هذه البلدة؟
قال أحدُهم والخوفُ يسيطرُ عليه: اسمُها جيرسي يا سيدي.
تجهَّمَ وجهُ الرجلِ وازدادَ امتعاضاً وقلقاً، وأخذ يحدِّثُ نفسه، فيما كان الشبابُ على حالِهم من الخوفِ والدهشةِ، قال مُتمتماً: جيرسي! ليس هذا اسمُها! رُبَّما حدث أمرٌ ما! لكنْ أينَ الناسُ الذين أعرفُهم؟ ماذا حصل للبلدةِ في غيابي؟ مَنْ هؤلاء الفتيةُ الغريبون بمظهرهم كأنَّهم فتياتُ مَلهًى ليلي؟
كان الرجلُ يجولُ بعينيه مُتفحِّصاً كلَّ ما حوله، ثمَّ خرجَ تاركًا البقيَّةَ في دُوَّامةٍ، وهو فريسةُ الألمِ والحيرةِ الشديدةِ مُتخوِّفاً من أنْ يتعرَّفَ عليه أحدٌ من الناسِ.
توجَّهَ صوبَ المَزارع خارجَ البلدة لعلّه يتعرَّفُ عليها، أو يقابلُ هناك أحداً يعرفُه؛ فيشرح له حقيقةَ الأمرِ، وعندما اقتربَ من مزرعةٍ يعرفُها تماماً شبراً بشبرٍ جلسَ على الأرضِ، أخذَ يتلمَّسُ الترابَ ويُقبِّلُه ويتمتمُ مُجهشاً بالبكاء والحنين وقد نفدَ صبرُه.
أعاد الرجل نظرَهُ صوبَ البلدة الكبيرةِ وقرَّرَ العودةَ إليها؛ ليستقصيَ الحقيقةَ بعدما تعرَّف إلى مزرعَتِهِ التي طالمَا عملَ فيها مع زوجته وابنته مُحاولاً العثورَ على عائلته بكلِّ ما أُوتيَ من قوَّةٍ، وعاد أدراجَه إلى البلدةِ، كان الهدوءُ قد عاد للمقهى، وجلسَ كلٌّ إلى طاولته كأنَّ شيئاً لم يكنْ.
عندما شاهد الشباب الرجل ثانيةً خارجَ المقهى مُتوجِّها نحوهم ساد السكونُ المطبِقُ على المكانِ من جديدٍ، لكنَّ ابتسامةَ الرجلِ التي قابلهم بها هدَّأَتْ من روعِهم قليلاً، فبادرَهم بالسؤالِ:
أيُّها السادةُ، أهذهِ حقّاً بلدةُ جيرسي؟
أجابَ أحدُهم: نعم إنَّها بلدةُ جيرسي أيُّها السيدُ.
الرجلُ: ألَا توجدُ بلدةُ أُخرَى بالجوارِ- بلدةٌ صغيرةٌ- تُدعَى نيوفلج؟
أجابَ آخرُ: لا سيدي، لكنْ أعتقدُ أنَّ اسمَها سابقًا كان نيوفلج.
الرجل: مَنْ أنتُم؟
متى جئتُم إلى هذه البلدة؟
سأل الرجلُ، وراح يستقرئُ ما في عيونهم، لقد تملَّكَ الشبابَ شعورٌ بالغضب المشوبِ بالخوف والحذرِ، واستقبلوا الأسئلةَ بكثيرٍ من الاستهجان، لكنَّ أحدَهم أجابَ بسخريةٍ:
سؤالك غريبٌ يا سيدي! نحنُ من هذه البلدة، وُلِدْنا هنا، وكذلك آباؤنا وأجدادُنا، ثُمَّ تابعَ قائلاً:
هل نستطيعُ مساعدتَك يا سيدي؟
الرجلُ: لا، شكراً لكم.
لقد باغتته إجابةُ الشابِّ المُهينةُ، ووقعتْ عليه وقْعَ الصاعقةِ، فقال في نفسِه:
إنَّ من العبثِ التحدُّثَ إليهم، وشعرَ بانقباضٍ مُؤلمٍ في عنقِه، وكان العرق يتصبَّبُ من صِدغيه، ابتعدَ عن المقهى وهو حاقدٌ مُتجهِّمُ الوجه، وأخذ يتجوَّلُ في شوارعِ البلدةِ، كَدُبٍّ هاربٍ من السيرك، يبحثُ عن مكانٍ آمنٍ؛ ليأخذ قِسطاً من الراحةِ، ويستجمعَ أفكارَه، ويعاودَ نشاطَه الذهنيّ بعد أنْ أصبحَ كسيرَ القلب، وكأنَّ قَدَراً مأساوياً غاشماً عصفَ بكلِّ أحلامِهِ وآمالهِ بعدما كان يتوقَّعُ أن يجدَ بيته وأُسرتَه في انتظارِه بعد غيابٍ طويلٍ عنهم.
أعياهُ التعبُ وهو يحومُ في شوارع البلدةِ إلى أن وصلَ إلى حديقةٍ صغيرةٍ بوسط البلدة، يحتضنها سورٌ فقفز خلفه، وجلس تحت شجرةٍ وارفة الظلال، في وقت تربَّعت فيه الشمسُ في كبد السماء، كأن حلماً مُخيفاً انتابه، فأخذ يُتمتمُ بصوتٍ مسموعٍ كمن يُحدِّثُ نفسه:
هذا مستحيلٌ! لا يمكنُ أن أصدِّقَ ما يحدث! لقد تغيَّرتْ البلدةُ كثيراً، اختفى الناس الذين أعرفُهم، والمباني التي بنيتُها بنفسي، والخيولُ التي كانتْ تنتشرُ في كلِّ مكانٍ في البلدةِ، لقد تغيَّبْتُ شهوراً قليلةً فقط، ماذا حلَّ بالناس؟ أينَ العمدةُ نورمان والآخرون؟
أين زوجتي وأبنائي؟
أين الجميعُ بحقِّ السماء؟
إنه حُلْمٌ مُرعبٌ مُخيفٌ -وأخذ يبكي بمرارةٍ-.
فيما كان الرجلُ يهذي ويبكي ويتعجَّبُ ممَّا حصلَ للبلدة من أمورٍ لا تُصَدَّقُ بين عشيَّةٍ وضُحاها -كما يعتقدُ- إلَّا أنَّه متأكِّدٌ أنَّ هذه بلدتُهُ بدليلِ الأراضي الزراعيَّةِ التي يعرفُها جيِّداً، ظنَّ أنَّ الحربَ التي كانتْ دائرةً رحاها -عندما غادرَ البلدةَ- في البلاد قد وصلتْ إلى بلدته، وأنَّ أُناساً احتلوها وعاثوا فيها فساداً، فقتلوا سُكَّانها، ودمروا بنيانَها، وأعادوا بناءَها بسرعةٍ.
تملَّكَهُ الغضبُ، واضطربتْ أفكارُه بعد أنْ آيسَ من العثورِ على عائلته وبيته في وسطَ هذا الزحام الهائلِ من البنايات والبشرِ، ما زال خيالُه يحومُ هناك حول منزلِهِ المتواضعِ الذي تماثلَ أمام عينيه كحُلْمٍ مارس تأثيرَه المتواصلَ على ذهنِه.
ها هو قصرُ العمدةِ نورمان بحديقته الغنَّاءِ البهيَّةِ، ها هي ليزا بقوامِها الممشوقِ تحومُ في فِناء المنزلِ تنظِّفُ وترتِّبُ، والطفلان حولها يلعبان، بسمةُ الواحدِ منهما تملأُ القلبَ بالسرور...
كأنَّه لم يشاهدْ ابنته سارة ذات الأربعةَ عشر ربيعاً في المنزل، فخبا سرورُه قليلاً إلى أن تذكَّر أنَّ ابنته في تلك اللحظاتِ تكونُ في المزرعة، تقطفُ الثمارَ؛ لتبيعَها وتُنفقَ على الأسرةَ في غيابه، فابتسمَ وهو يرى خيالَها بين النباتات ويديها الناعمتين قد كساهما الترابُ كما الحناءُ، وهي تعملُ كالرجالِ في غيابِه... لكنَّ الصورةَ تتلاشى لتعودَ البناياتُ الشاهقةُ من جديدٍ أمام ناظريه؛ فتمتلئُ عيناه بالدموع.
3
يتبع
|