الديك
الديك[align=justify]
توقفت السيارة رباعية الدفع على مشارف القرية الغارقة في صمتها الرتيب . ترجلت سيدة في عقدها السادس ، حليقة الرأس ، معقوفة الأنف . يبدو صدغها كقطعة شحم مترهلة ، بينما كشف قميصها الشفاف عن جزء من صدرها الأعجف وقد تدلت عليه سلسلة ذهبية سميكة .
تقدمت خطوات ومن ورائها نط كهل قصير القامة ، منفوش الشعر منتفخ الجفنين ، يكاد لا يظهر من حاجبيه شيء وتبدو جبهته الصغيرة امتدادا لصلعته في حين تتقدان عيناه خبثا وهما موغلتان في محجريهما .
ألقت نظرة شاملة على ما يمتد أمامها من دور متفرقة هنا وهناك ومن مروج ثم التفتت إلى حيث وقف ديك ضخم وهو يقيق مناديا الدجاجات المنشغلة بالحفر والنقر غير بعيد عنه وقد تدلى عرفه القاني حتى لامس عينه . وربما أحس بنظرتها الثاقبة الحادة إليه فطفق يتأملها بدوره بحركة من رأسه تدل على فضوله وتوجسه . ونط الكهل من جديد قائلا بصوت كالفحيح :
- لا شك أنه أثار شهيتك . لا بأس .. سيقدم لنا الشيخ والمقدم أشهى الطعام .
- لكني أريد رؤية هذا المتعجرف أمامي مضرجا بدمائه هنا عند قدمي .. ترى لم تأخروا ؟
- ربما قدمنا باكرا ..
- الكسالى ..
تمر كوكبة من النسوة وهن محملات بالعلف أو بالحطب ، فتتأملهن في صمت قبل أن تتمتم بغيظ :
- عمل لا ينتهي .. حتى في أيام الآحاد والأعياد .. بينما الآخرون منتشون بالكيف في المقاهي أو نائمون .
في تلك اللحظة تراءى لها رهط من الرجال مهرولين نحوها .. الشيخ والمقدم وبعض الفضوليين ..
- مرحبا بك .. كيف كان السفر في هذه الطريق اللعينة .. تفضلي .. القائد ينتظرك ..لكن قبل ذلك ، مرحبا بك لتناول الفطور عندي .
- لا داعي لذلك .. عندنا برنامج عمل ولا وقت لدي .. قل لي .. هل استدعيتم النسوة للاجتماع ؟
- طبعا فعلنا ذلك .. لكن بشق الأنفس .. فالكثير منهن خرج للحقل والبعض ذاهب للسوق ..
- ما نقوم به هو في مصلحتهن ..
- لا أخفي عليك أن هنا لم يعد أحد يثق بمثل هذه الاجتماعات .. الكل يرى أنها مضيعة للوقت ولا طائل منها .
- ويفضلن العيش في هذا الواقع ؟
- ستسمعين منهن مباشرة حين يبدأ الاجتماع في القاعة .
القاعة عبارة عن صالون ببت القائد الفخم .. زين بأثاث فاخر لكنه أفتقد لتناسق الألوان .. وعج بمزهريات ولوحات وبعض الأسلحة الفضية القديمة .
يعلو اللغط ويضطر القائد لنهر بعض النسوة اللواتي تعالى ضحكهن وهن يتهامسن عما سينلنه بعض الاجتماع .
- ربما سيعطون رزما من الأوراق المالية لكل واحدة منا ..
- أو كيس دقيق وقنينة زيت .
- سمعت أن تلك "الصوطا" قالت إنها تتمنى لو تقتل كل الرجال هنا .
- ربي لا يوفقها .. ربما قتلت زوجا من أزواجها لكن هنا .. نحين سنقتلها ..
- لنستمع إليها أولا لنرى قصدها .
وحين يسود الصمت يأخذ القائد الكلمة ويرحب بالعجوز ثم يتنحى جانبا ليرد على مكالمة هاتفية .
- أخواتي .. لا شك أنكن تتساءلن عن سبب مجيئي إليكن وتكبدي عناء الطريق ومشقة السفر .. لن أطيل عليكن لكني فقط أريد أن أذكركن أن ما نفعله هو من أجلكن ومن أجل مصلحتكن وحريتكن .. نريد ألا تعشن إماء تحت أقدام أولئك الأسياد الذين يتفننون في إهانتكن ولا يترددون في اتخاذ أخريات زوجات متى اشتهوا ذلك .. سوف نحاول تغيير الوضع بمساعدتكن . وسوف نتحدث أيضا عن إجبار فتياتكن على الزواج في سن الزهور حارمين إياهن من الاستمتاع بحياتهن . ثم إن هناك مشكلة الإنجاب الذي يضر بصحتكن .. هم لا يبالون ، ولا يهتمون سوى بالتفاخر بعدد الأولاد .
بدأ الهمس .. ثم علا اللغط من جديد ، فانبرت إحدى القرويات وقد زادها منديلها المخطط بالأحمر والأبيض بهاء قائلة :
- وماذا بشأن الماء الذي وعدونا بإيصاله إلى القرية .. والطريق الذي تحدثوا عن تعبيده منذ سنوات ؟ عدا الحديث عن بناء الإعدادية لتجنيب أبنائنا من قطع مسافات طويلة للدراسة ، ومشكل الإنارة الذي لا ينتهي لكثرة الأعطاب في المولد الذي لم يعد صالحا .. والمسجد الذي تداعت سقوفه .. لقد وعدونا بترميمه وتجديد أساساته .
لم تلمح المرأة نظرة القائد والشرر يكاد يتطاير منها وظلت تحدق لحظات في عيني العجوز في تحد قبل أن تقول هذه الأخيرة بنبرة غلب عليها الإحباط :
- هذه طبعا مشاكل نتدارسها وسنبدأ في إنجازها بتعاون مع سيادة القائد الذي لا يدخر وسعا في خدمة هذه البلدة .
صفق الكهل بقوة فلم تجد الحاضرات بدا من مسايرته ..
- لكن المشاكل التي ذكرت لا يجب إهمالها وهي ربما أكثر أهمية وخطورة .. لأن الكرامة إذا افتقدت ضاع كل شيء رغم توفر الماء والطريق والمدرسة ..
- وما المطلوب منا الآن للا ؟ .. أن نطرد أزواجنا من المنازل ونوقف حفلات الزفاف نهائيا حتى تهرم فتياتنا ؟
ثم هامسة "نحن حرات في إنجاب ما يحلو لنا من أولاد .. كل برزقه من الله .. يا للعجب .. لم يبق لها إلا لأن تتدخل في فراشنا "
- هههههه اسكتي أيتها المسخوطة .
- أنا قلت فقط إن رجالكن يجب أن يتحلوا بالمسؤولية ولا يدعوكن تحملن كل الأعباء .. المقاهي مليئة بمدخني الكيف والمقامرين والخاملين .. وأنتن في الحقول والغابات .
ردت إحداهن في أقصى الصالون وهي تغطي شفتيها :
- معظم أزواجنا انتهوا من عملية الحرث ثم الدرس وبيع المحصول في الأسواق .. ألا يحق لهم أن يرتاحوا قليلا ؟
بينما ظلت المرأة الأولى واقفة وهي تهز رأسها موافقة :
- ما نحتاجه هو توفير الضروريات لهذه القرية وبناء أماكن للترفيه لأبنائنا .. لقد تعبنا من هذه الاجتماعات التي لم تعطنا شيئا سوى تحريضنا على أزواجنا .
همس القائد في أذن العجوز :
- لا تستغربي .. فأخوها معلم في الريف .. ولا شك أنه هو من يهمس لها بهذه المصطلحات الرنانة .. هو من الملتزمين الملتحين ، لكننا سوف ندبر له ما يناسبه بتهمة الإرهاب والتحريض على العنف .
- أحيانا أسائل نفسي هل أدافع عن بشر أم عن حيوانات ..
لم تنتبه العجوز إلى كهلة على يمينها ترمقها بحدة واستنكار، ثم تهب واقفة وتنادي :
- انصرفن أيتها الحيوانات إلى زريبتكن .
كان هذا كافيا ليقوم الجميع ويختلط الحابل بالنابل رغم صيحات القائد وتهديداته بالسجن لكل من تغادر الاجتماع .. الغضب باد على الوجوه ونظرات التهديد تكفي لجعل العجوز وكهلها يتوجسان شرا ويترجيان من القائد حمايتهما عند امتطائهما للسيارة .. لكنهما لم يسلما من وابل من الحجارة على بعد كيلومترات من البلدة ، يلاحقهما صياح ديك مزهو بعرفه الأحمر القاني .[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|