جنان النيش .. ذكرى
جنان النيش .. ذكرى
وجهتي للاصطياف هذه المرة لم تكن إلى جنان النيش . لكني الآن ، وأنا جالس وقد خلا الشاطئ تقريبا من المصطافين، لا أملك نفسي من النظر إلى جهة اليمين حيث تبرز رؤوس الجبال الموغلة في البحر .. يغلب عليها اللون الأسود تارة والبني تارة أخرى .. ومن ورائها تقبع جنان النيش .. أرض الأجداد .
جنان النيش متعة رغم ما طالها من خضرة من نوع خاص ، مما أفسد رونقها ووداعتها وأساء إلى ذكرى الأجداد الذين حولوا المنطقة لسنين عدة إلى جنان تعج بالمشمش "النيش" وغيره من أشجار الفواكه .
هنا على هذا الشاطئ المسطح أذكر أني التقيت بشيخ عجوز وصبية ناولتني أعذب تينة فأهديتها قلم حبر . أما هناك فأذكر أني كنت أنهض باكرا للحصول على حصتي من السمك الطازج الخارج لتوه من البحر، فأنال من كرم الصيادين الشيء الكثير، وأصاب بالإحباط حين يأتي قوم جشعون غرباء عن البلدة ، ويحتكرون ما تجود به الشباك لتحمل الأسماك إلى مطاعم فاخرة حيث تباع بأثمان تناسب نهمهم ، تاركين الأهالي مشرئبين بأعناقهم في حسرة إلى الصناديق المصطفة داخل سيارات 207 .
كنت أقف متأملا الشباك وأساهم في دفع القوارب وجرها إلى الشاطئ ، وحين أرى جدالا يكاد يتحول إلى عراك بسبب النهم والجشع الآتي من بعيد ، أتراجع إلى جدار مجاور لإحدى المقاهي قبل أن أعود أدراجي خالي الوفاض .
وأنا في طريقي إلى مقر سكناي ، أصادف طفلا ممسكا بكيس بلاستيكي يحوي سمكا . ألاحظ تفحصه لكيسي الفارغ فيبتسم وأبتسم بدوري .
- ألم تأخذ حصتك من السمك ؟
- لا .. لأن البعض أخذ كل شيء ..
- خذ هذا السمكة الكبيرة .. حصلت عليها قبل أن يأتي الآخرون .
- شكرا لك .. لكني لن أحرمك من سمكتك .. على الأقل قل لي ثمنها .
- لا بأس .. عندي ما يكفي .. خذها .
لم أجرب من قبل سمكا أبيض مشويا ..لكني في ذلك الصباح الجميل ، ذقت أشهى سمكة بيضاء مشوية ، بينما تحلق من حولي دجاج يقيق دون توقف ، وهرة متوثبة تنتظر أن ألقي إليها بقطعة من السمكة .
قبل يوم واحد من مغادرتي لجنان النيش ، نزلت إلى الشاطئ أتمشى قبل أن أنصب مظلتي . لمحت ثلة من الصبيان يلعبون متقاذفين رأس دمية ، وميزت بينهم الطفل الذي أهداني السمكة .
عدت أدراجي ودخلت دكانا يعرض مأكولات ولعبا . اشتريت كرة جميلة ثم عدت إلى الشاطئ وتعمدت أن أمر أمام الأطفال وقد علا الغبار من حولهم .
توقفوا لحظة وهم ينظرون إلى الكرة بين يدي .. كانت نظراتهم تحمل لهفة ورجاء . بل كنت أستشف منها نداء . نظر الصبي إلي بإمعان وكأنه قرأ في عيني دعوة لأخذ الكرة .
- تعال .. خذها والعب مع رفاقك .
أخذها مني وهو يبتسم قائلا :
- شكرا .. سأعيدها إليك حالما ننتهي من اللعب .. أنا أعرف مسكنك .
هكذا هم أطفال جنان النيش .. عزة أنفسهم رأس مالهم منذ الأزل . يعطون ولا ينتظرون مقابلا لذلك .
- حسنا .. إذا لم تجدني يمكنك الاحتفاظ لي بها حتى الصيف المقبل إن شاء الله .
لمحت على شفتيه طيف ابتسامة . نظر إلي طويلا ثم قال :
- في المرة القادمة سأصطاد لك بنفسي سمكة أكبر .
ثم انطلق يعدو ومن ورائه رفاقه يتصايحون في بهجة مثيرين نقعا أشد كثافة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|