التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,869
عدد  مرات الظهور : 162,400,180

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > جمهوريات نور الأدب > جمهوريات الأدباء الخاصة > مدينة د. منذر أبو شعر
مدينة د. منذر أبو شعر خاصة بكتابات وإبداعات الدكتور منذر أبو شعر

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 27 / 07 / 2021, 52 : 06 PM   رقم المشاركة : [1]
د. منذر أبوشعر
محقق، مؤلف، أديب وقاص

 الصورة الرمزية د. منذر أبوشعر
 





د. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond reputeد. منذر أبوشعر has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: سوريا

بداية (علم الكلام) في الإسلام


في آخر عصر التابعين - أي الذين جاؤوا بعد عصر النبوة فلم يلقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما صحبوا الصحابة ورووا عنهم ـ اشـتُهر القول بـ «خلق القرآن» لمَّا أظهره الجَعْد بن دِرْهم (ت: 105 هـ / 724 م)، وهو من خراسان، واستقر في دمشق؛ فحظي عند محمد بن مروان بن الحكم، أخو الخليفة عبد الملك بن مروان، فاختاره أن يؤدب ابنه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
= وقالوا: إنه لمَّا أظهر مقالته في «خلق القرآن» تطلَّبه بنو أمية، فهرب منهم وسكن الكوفة، فصحبه الجَهْم بن صفوان وتتلمذ عليه، وتقلد قوله، ولم يكن له كثير أتباع غيره.
ثم في أول إمارة خالد بن عبد الله القسري البَجْلي، وكان أمير العراقين من سنة 105 هـ ـ حتى سنة 120 هـ (723 م ـ 738 م) لهشام بن عبد الملك = قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، وقال في خطبته: «أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجَعْد بن دِرْهم. إنه زعم أنَّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجَعْد علواً كبيراً»، ثم نزل، فذبحه في أصل المنبر (خلق أفعال العباد للإمام البخاري 29، اعتقاد أهل السنة للالكائي 2 / 319، الرد على من يقول القرآن مخلوق لأبي بكر النجاد 54).
والجَعْد إنما بالغ في توحيد الله وتنزيهه، مما دفعه إلى القول بنفي الصفات التي توحي بالتشبيه وتأويلها، ومن بينها صفة الكلام، فأدى به ذلك إلى القول بخلق القرآن؛ لكن تأويلاته فُهمت خطأً، ففُهم من قوله إنه يعارض القرآن وينفي أن يكون الله كلم موسى تكليماً، وأن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلاً.
وقال الجَعْد: إنَّ أفعال الإنسان، سواء كانت خيراً أو شراً، هي من صنعه وحده، أي من صنع الإنسان، وأنَّ (العقل) هو مناط الحساب، فإن فعلَ قبحاً كان ذلك باختياره.
وفي قوله هذا مغالاة ظاهرة، فحاشا لله أن يُجبر المخلوق على فعل القبح والشر ثم يعاقبه على ذلك، لأنَّ عدله تعالى يوم الحساب يقتضي ألاَّ يُعاقِب على خطيئة أجبر عليها المخلوق.
وقيل: إن الجَعْد تأثر بـ «بيان بن سمعان التميمي النهدي» (ت: 120 هـ / 738 م) الذي ظهر في العراق وقال بألوهية علي بن أبي طالب، وأخذها «بيان» عن «طالوت» ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها «طالوت» عن خاله «لبيد بن الأعصم» اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم (البداية والنهاية لابن كثير 10 / 19)، وهذا يعني أن أصل مقالاته أخذها عن اليهود.
وهذا خطأ أيضاً، فابن كثير (ت: 774 هـ / 1373 م) لم يسق إسناد الخبر؛ والظاهر القريب إنه من وضع أعداء الجَعْد الذين افتعلوه ولم يحكموه؛ لأنَّ مقالة الجَعْد في العقيدة مناقضة كل المناقضة لما عليه اليهود: فالجَعْد يُنكر بعض الصفات القديمة القائمة بذات الله ويؤولها لينزه الله تعالى عن سمات الحدوث، ويقول بخلق القرآن وإن الله لم يكلم موسى بكلام قديم بل بكلام حادث؛ بينما اليهود تقول بالإغراق في التجسيم والتشبيه.
ومن مقارنة الروايات، يُستطاع استنباط خبر حقيقة موت الجَعْد: فقد كان مع يزيد بن المهلب الذي استطاع الاستيلاء على البصرة ونواحي من العراق والأهواز وخراسان في سنة 101 هـ، وظل بها حتى سنة 102 هـ (719 م ـ 720 م)، فبعث إليه يزيد بن عبد الملك بجيش عليه أخوه مسلمة بن عبد الملك (ت: 121 هـ / 738 م)، فالتقيا في واسط في وسط العراق، وتبعد حوالي 172كم جنوب شرق بغداد، فدارت معركة عظيمة، انتهت بهزيمة ابن المهلب ومقتله هو وأخوه حبيب وآله (تاريخ الطبري 6 / 78، وانظر: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام: د. سامي النشار 1 / 331، وحاشية شعيب أرناؤوط في تحقيقه على سير أعلام النبلاء 5 / 433، وقراءة على العقائد: حسن بن فرحان المالكي 92، والفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي: د. حسين عطوان 96).
ولذلك، فقتْلُ الجَعْد ـ كما هو ظاهر ـ إنما كان لسبب سياسي، لا لآرائه في العقيدة. مع أنَّ دعوة الجَعْد هي «الجَبْر» وسيادة قدر الله، أي إسناد ما يفعله المرء من أعمال إلى الله عز وجل، فالإنسان لا قدرة له البتة على الفعل، إنما هو مجبور على فعله؛ وحركته في (الفعل) بمثابة حركة النباتات والجمادات؛ ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة؛ لأنَّ العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة؛ مسلوب الإرادة والاختيار، مَثَله مِثل حركة المرتعد وهبوب الرياح وحركة النائم وحركة الأشجار وتمايلها بفعل الرياح.
وقد ساهم الخلفاء الأمويون بترسيخ مفهوم «الجَبْر»؛ فخلافتهم هي قَدَرٌ إلهيٌّ مُحْكَم، وقضاءٌ أزليٌّ لا محيد عنه، (رغم أن فقهاء الشام والجزيرة كانوا يكفَّرون مرجئة الجبرية، ويفتون بقتلهم، لأن معظمهم من (المَوَالي) الذين والوا كلَّ خارج عن سلطة الخلافة).
= وخلفاء الأمويين وولاتهم، كانوا أبعد الناس عن قتل المسلمين في مسائل تمت إلى العقيدة؛ وخالد بن عبد الله القسري، وكل ولاة بني أمية، كانوا يعدون الخروج على الحاكم، بعد مبايعته، تحل قتله.
= وقد استقام خروج الجَعْد على الخلافة، رغم دعوته بـ «الجَبْر»، لأنَّ الجبرية تعني الخضوع لله بالكلية، لكنها من ناحية أخرى قد تعني التحرر من عبودية وإذلال البشر سواء كان ذلك من سلطة سياسية أو غيرها.
** ** ** **
ويُلاحَظ أنَّ تعدد المذاهب الإسلامية، واختلاف الفرق، إنما نبتت أوائلها في عهد خلافة سيدنا علي، ثم استشرت من بعده: فبدأت نابتتها في ظهور الخوارج.
وكانت جميعها (أحزاباُ) تعارض سلطة الخلافة، دون أن تتخذ الشكل السياسي البحت، إنما كان لكل حزب سياسي فرقة دينية، فصار الذين يُقتلون (سياسياً) يَقتتلون دينياً، وبدلاً من أن يتحاجوا بما توصلوا إليه من مصالح ومفاسد، تحاجوا بالكفر والإيمان، والجنة والنار.
●● ●● ●●
أمَّا تلميذ الجَعْد وصاحبه: أبو محرز جَهْم بن صفوان، مولى بني راسب إحدى قبائل الأزد. فقد نشأ في تِرْمِذ إحدى مدن خراسان، واستوطن في الكوفة، وقتل سنة 128 هـ / 745 م على الصحيح في آخر خلافة الأمويين = وعُدَّ ـ مع الجَعْد ـ أول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل الله عن صفاته. وإليه نُسبت فرقة «الجهمية».
** ** ** **
وكان «الجَهْم» كثير الجدال والخصومات والمناظرات، ولم يكن له بصر بعلم الحديث ولا من المهتمين به، فشاغله كان «علم الكلام»، الذي اهتمَّ بمعرفة الله تعالى، في ذاته وصفاته، وما يجب له من الصفات: (كالعلم، والإرادة، والقدرة)، وما يمتنع عنه من الصفات: (كالظلم، والنقص، والعجز)؛ والإيمان به، وتوحيده، ونفي الشريك عنه، وقواعد التوحيد، وقواعد الشرك، ومعنى الشرك والكفر، وماهيّتهما، وأنواعهما؛ والحكم على أهل الشرك؛ والشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة؛ وما يجب على عباده تجاهه؛ ونفي صفات المخلوقات عن الخالق؛ ونفي قِدَم العالم؛ وحدوث المخلوقات؛ ورؤية الله تعالى في الجنّة؛ وعن أفعال العباد وإرادتهم فيها؛ وحكم الله تعالى فيمن مات مُرتكباً لكبيرةٍ من الكبائر؛ وعن إمامة المسلمين وشروطها = بهدف إثبات صحة الدين، والدفاع عنه، من خلال الأدلة العقلية أو النقلية القاطعة.
** ** ** **
فصفات الله هي عين ذاته، وليست مستقلة عنه؛ أي إنَّه ليس قادراً بقدرةٍ غير ذاته، وليس مريداً بإرادةٍ غير ذاته، وليس عالماً بعلمٍ غير ذاته.. ولذلك ـ نفياً للتشبيه والتجسيم ـ نفت الجهمية صفة الكلام عن الله، وقالت: إن كلام الله إنما هو داخلُ نفسه. وترتب على هذا القول «خلق القرآن»، و«نفي رؤية الله في الآخرة» (وسيأتي قريباً أهم مقالات الجهمية).
وهذه المعتقدات ورثتها، وزادت عليها فرقة «المعتزلة»، التي ظهرت مع منتصف القرن الثاني، مع اختلاف في بضعة مسائل.
لكن علماء السلف نبذوا أفكار «جَهْم»، وتحاملوا، وشنعوا عليه، لأنه اعتمد على العقل والكلام ولم يكن من أهل الفقه والحديث، وجاء بضلالات تأويلات ابتعدت عمّا يألفونه من الكلام، مخالفاً بذلك صريح القرآن. فرموه بالكفر، وقالوا بقتله، وأقرهم على ذلك عامة الناس. قال الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ / 855 م): وكذلك «الجَهْم» وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً (الرد على الزنادقة والجهمية 23).
= كما اتهموه بالكذب وبالتدليس، لأنه يُلبّس على العوام بسمته وهيئته ! قال أبو الحسن الأشعري (ت: 324 هـ / 936 م): وكان «جَهْم» ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (مقالات الإسلاميين 1 / 238).
لكن الشيخ جمال الدين القاسمي (ت: 1332 هـ / 1914 م) أنصفه، وذهب إلى غير ذلك، من خلال استقرائه لحوادث التاريخ في زمن «الجَهْم»؛ وكان في قوله حقٌّ كبير: فـ «الجَهْم»، كان من أحرص الناس على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس تلبيساً، أو تمويهاً عن ضلاله = وأنَّ الصواب في قتله إنما كان لأمر سياسي، كما هو الحال مع أستاذه وصاحبه الجَعْد بن دِرْهم، لخروجه في وجه بني أمية. فقتْله لم يكن لأمر ديني يوجب ذلك (تاريخ الجهمية والمعتزلة 14- 18)، وهذا بالفعل ما تعضده أسانيد الأخبار: فالجَهْم خرج مع الحارث بن سريج التميمي (ت: 128 هـ / 745 م) على بني أمية، وكان كاتباً له، في عهد هشام بن عبد الملك بخراسان عدة مرات، ثم في عهد مروان بن محمد، ودعا إلى الكتاب والسنة والشورى، مجتهداً في أبواب من مسائل الصفات.
فأسرف هشام بن عبد الملك حين نبزه بأنه من «الدُّهْرية» ـ أصل المذاهب الإلحادية ـ، فقال عنه: ناظر الجَهْم طائفة من دُهْرية الهند، يقال لهم السُّمَّنية في الصفات، لأنهم لا يؤمنون بوجود الله أصلاً، وأراد إقناعهم بوجود الله، فجرى منه معهم مناظرة. فآل به الأمر، نتيجة المناظرة وتوابعها أنه نفى الصفات، وعطَّل صفات الله تعالى، وآمن بالوجود المطلق. قال عبد الله بن شَوْذب الخراساني (ت: 156 هـ / 772 م): ترك الجَهْم الصلاة أربعين يوماً على وجه الشك: خاصمه بعض السُّمَّنية، فشك، فأقام أربعين يوماً لا يصلي (خلق أفعال العباد للإمام البخاري رقم 14)، وهذا الهراء ليس ببدع في تاريخنا، فهو يُشبه زعْم أهل الاستشراق أنَّ الراهب بَحيرا كان مُلهم القرآن ومؤلفه الأول لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وشبيهٌ أيضاً بما قاله أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني (ت: بعد 380 هـ / 990 م) في المتنبي (ت: 354 هـ / 965 م) أنه في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة، فهوَّسه وأضلَّه (خزانة الأدب 2 / 348)؛ كما يُشبه ما انفرد به علي بن يوسف القفطي (ت: 646 هـ / 1248 م) في خبر أبي العلاء المعري (ت: 449 هـ / 1057 م) أنه اجتاز باللاذقية ونزل دير الفاروس، وكان به راهب يشدو شيئاً من علم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلاماً من أوائل أقوال الفلاسفة، حصل له به شكوكٌ لم يكن عنده ما يدفعها به، فعلق بخاطره ما حصل به بعضُ الانحلال (إنباه الرواة 1 / 84).
** ** ** **
قال الشيخ القاسمي: من واجب كل من يؤرخ مذهب قوم، وكل من يناقش فرقة ما في مذهبها، أن ينقل آراءها عن كتب علمائها الثقات، ويقوم بالعزو إلى مآخذها ومصادرها.. ولا بد من السند في قبول ما يُعزى ويُروى إلى تلك الفرقة، إمَّا عن أسفارها أو عن إمام ثقة أُثر عنها.. فأئمة الرواية، لم يقبلوا الأثر إلاَّ بعد معرفة راويه وضبطه وثقته وعدالته (المصدر السابق 30).
= فنقْل المخالف لا يُعتدُّ به، ومن هذا الباب، في خطأ نقل المخالف في العقائد، باتباع الهوى وقبول المثالب دون تثبت، ما قاله الإمام السبكي (ت: 771 هـ / 1370 م) في ترجمة جَهْم: وأمَّا جَهْم فلا ندري ما مذهبه، ونحن على قطْع بأنه رجل مبتدع.. وأنه غاص في المعاني بزعمه، وأعرض عن الظواهر، فسقط على أمّ رأسه، وقامت عليه حجج الشرع، ومنعته عن سبيل الحق أيَّ منع (طبقات الشافعية 1 / 43، 2 / 45)،
فتأمل قوله: «فلا ندري ما مذهبه»، ثم تهجمه عليه.
** ** ** **
إنَّ صحة الرواية تنبني على التحري وعدم المجازفة، بعدم اتباع الهوى وقبول المثالب دون تثبت. فقد صار كلٌّ من الفرق يحكي الشر عن مخالفه ويكتم الخير، بل يروي الكذب والبهت. قال صالح بن مهدي المقبلي (ت: 1108 هـ / 1696 م): خذ قول أهل المذاهب من كتبهم، فبالتجربة إنهم لا يُنصفون في النقل (العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ 170 حاصل مذهب المعتزلة في المدح والذم والثواب والعقاب).
= وممن نبَّه على ما وقع من تساهل بعض المؤلفين الإمام فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ / 1209 م) في رسالته التي جمعها في المسائل الواقعة له في رحلته إلى ما وراء النهر (وهي اليوم: أوزبكستان، والجزء الجنوب الغربي من كازاخستان، والجزء الجنوبي من قيرغيزستان. وأهم مدنها: سمرقند، وبخارى، وفرغانة، وطشقند، وخوارزم، ومرو، وترمذ)، قال: كتاب الملل والنحل للشهرستاني (ت: 548 هـ / 1153 م) كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلاَّ أنه غير معتمد عليه، لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بـ «الفرق بين الفرق» من تأليف الأستاذ أبي منصور عبد القاهر البغدادي (ت: 429 هـ / 1038 م)، وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على وجهه، ثم أنَّ الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب. فلهذا وقع الخلل في نقل هذه المذاهب (مناظرات ما وراء النهر المسألة العاشرة 39).
** ** ** **
= وقال صالح بن مهدي المقبلي (ت: 1108 هـ / 1696 م): ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم ـ بعد عهد الصحابة ـ نوادر: كالكلام في القدر، ومسألة خلق القرآن، والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم، واتصل بذلك المناظرة عند الملوك والأمراء، وصارت عصبية؛ والدعوى من الجانبين أنَّ ذلك تديُّن، وما هو إلاَّ أنهم لمَّا تعدوا طورهم، ولم يقفوا على حدّهم الذي وقفهم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم = تركهم الله وشأنهم، ولبسهم شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض: فكان خليفة يوافق هؤلاء يُذيق مخالفيهم العذاب الأليم، ويُخلفه الآخر وينقض ما فعله الأول ويُنكل هؤلاء ويوطئ شأن هؤلاء = حنى استحكم الشر، وصار الناس شيعاً: يُولد المولود في قوم فلا يسمع من الإنصاف شيئاً، بل يجد شيعته مطبقين على أنَّ من خالفهم ليس على شيء. وإنما هي فتنة، وحادثة في الإسلام. يمدحون نفوسهم بكل خير، وينزهونها من كل شر، ويعزون إلى المخالف نقيض ذلك؛ فترى المعتزلة يقولون في كتبهم: كان الناس على دين واحد، فحدث «الجَبْر» في إمرة معاوية والمروانية، ثم حدث القول بخلق القرآن، ثم حدث كذا من فلان في وقت كذا ـ مع ذكْر أسبابٍ وروايات ـ، فيأتون على جميع مذاهب مخالفيهم أنها حوادث: تجد ذلك في حكاية الملل والنحل، وأفراد المقالات، لا في كتاب ولا في ألف كتاب؛ ثم تنظر كتب المتسمية بالسُّنيَّة يقولون: كان الناس قبل حدوث «القدرية» على أنَّ الله خالق أفعال العباد ليس للعباد منها إلاَّ النسبة المسماة بالكسب، ومجمعون على كذا وكذا بجميع مذاهبهم، كلٌّ على ما يراه ويعتقده = ثم حدث رأي المعتزلة بأنَّ أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة من الله، وحدث كذا وكذا، إلى آخر مذهب المخالف. كذلك تُسمي المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد، وأهل الحق، والفرقة الناجية، والمنزهون لله عن النقص، وغير ذلك. والأشاعرة يسمون أنفسهم بأهل السنة، ويسمون المعتزلة المبتدعة بالقدرية.. وقس على هذا. فشُحنت كتبهم بالتحذير من رأي المخالف والجلوس إلى المبتدع. فترى الضعيف الرأي والدين صار همه مصروف إلى ما نشأ عليه، يثبته ويهدم ما قبله (العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ 299 المذاهب وعصبياتها المضيعة للدين).
** ** ** **
أهم مقالات الجهمية:
1 الإيمان والكفر (القول بالجبر). فالإيمان عقدٌ بالقلب لا يضر معه شيء، وإن تلفظ
الشخص بالكفر.
2 التوحيد (صفات الله)، أي تنزيه الله ونفي التشبيه، وتأويل الآيات التي تشعر بالتشبيه، كيد الله ووجهه وسمعه وبصره، وكلامه، (فكلام الله إنما هو داخل نفسه)، فترتب على ذلك القول بخلق القرآن.
3 الظلم (التحسين والتقبيح).
4 التكليف.
5 إنكار كثير من أمور اليوم الآخر، مثل: الصراط، والميزان، ورؤية الله في يوم القيامة. وإنكار عذاب القبر، والقول بفناء الجنة والنار، وحملوا قوله تعالى: ﴿خالدين فيها أبداً ﴾ على المبالغة، واستدلوا على الانقطاع بقوله تعالى: ﴿ إلاَّ ما شاء ربك﴾، وقالوا: ولو كان مؤبداً بلا انقطاع لما استثنى.
6 نفي أن يكون الله في جهة العلو.
** ** **
1 الإيمان والكفر (القول بالجبر): تقول الجهمية: إن الإنسان لا يوصف بالاستطاعة على الفعل، بل هو مجبور بما يخلقه الله من الأفعال مثل ما يخلقه في سائر الجمادات، ونسبة الفعل إليه إنما هو بطريق المجاز كما يقال جرى الماء وطلعت الشمس وتغيَّمت السماء.. إلى غير ذلك.
ومقالتهم في الإيمان واحدة، فهو مجرد تصديق القلب وعلمه؛ وهذا التصديق هو (المعرفة)، أي معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله. فمن أتى بذلك فهو مؤمن كامل الإيمان، كإيمان النبيين.
= كما أن الإيمان يتساوى فيه العباد: إمَّا أن يُعدم، وإمَّا أن يُوجد، لا يتبعض. وما في القلب من الإيمان ليس إلاَّ التصديق فقط وإن لم يُتكلم به.
= فمن لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة، مع
وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمناً بالله، تام الإيمان، سعيداً في الدار الآخرة. فهو مؤمنٌ في الباطن، وإن كان بلا قول، ولا عمل ظاهر = لأن الشهادتين، والصلاة، والزكاة، وغيرهن، من الأعمال الصالحة الظاهرة ليست من الإيمان، وليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب؛ بل يوجد إيمان القلب تاماً بدونها.
= والأعمال قد تسمى إيماناً مجازاً؛ لأن العمل ثمرة الإيمان، ومقتضاه؛ ولأنها دليل عليه (مسائل الإيمان لأبي يعلى ص161، الإيمان 148، 184، 192، 347، أصول الدين للرازي 27؛ المعالم الدينية في العقائد الإلهية لابن حمزة 113).
وهذا لا يعني أنهم لا يوجبون العمل، لكنهم لا يعدونه من الإيمان، فهم يوجبون الأعمال الظاهرة، ويعتقدون نفعها، لكن من لم يأت بها فإيمانه تام.
والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله تعالى؛ ولم يقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فما نازعوا في أن الله تعالى فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرَّم الفواحش.
كما أن صلاح الإنسان ليس في مجرد أن يعلم الحق دون ألاَّ يحبه ويريده ويتبعه. وسعادته ليست في أن يكون عالماً بالله، مقراً بما يستحق، دون أن يكون محباً له، عابداً له، ومطيعاً له. فكمال النفس ليس في مجرد العلم، بل لابد من العلم بالله من محبته، وعبادته، والإنابة إليه.
وهذا هو عمل النفس وإرادتها، وذاك علمها. وأشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه (الإيمان الأوسط، ضمن: الفتاوى 7 / 585-586، 596-597).
** ** ** **
أمَّا الكفر عند الجهمية فلا يكون إلاَّ بانتفاء التصديق من القلب، ولا يقع بغير ذلك مهما كانت المكفرات. فالكفر شيء واحد، هو: الجهل، والإيمان شيء واحد هو: العلم، أو هو: تكذيب القلب وتصديقه. فأمَّا الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة: فهو كافر في الظاهر دون الباطن. فكل كافر هو جاهلٌ بالحق، لا يعرف أن الله حقٌّ موجود. والكفر هو الجهل بهذا الحق المعيَّن (الإيمان ص137، 178، 182، الفتاوى 7 / 143، 188، 193).
بينما هو عند سلف الأمة وأئمتها، وجماهير علمائها، كافرٌ باطناً وظاهراً. إذ كيف يصح أن يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه، وهو يسب الله ورسوله، ويعاديهما، ويعادي أولياءهما، ويوالي أعداءهما، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة؟
= فالكفر: هو عدم الإيمان؛ سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم. ومن لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة، فهو كافر، سواء كان مكذباً، أو مرتاباً، أو معرضاً، أو مستكبراً، أو متردداً، أو غير ذلك. ومرد ذلك كله إلى زوال التصديق من القلب: فإبليس، وفرعون، وأبو طالب، وغيرهم، إنما كانوا كفاراً؛ لأن ذلك مستلزمٌ لعدم تصديقهم في الباطن. وحكْم الشارع بكفر أحد، يكون بعملٍ أو قولٍ؛ لأنه دليلٌ على انتفاء ما في القلب. ولذلك فالذنوب لا تعلق لها بالاعتقاد؛ إنما هي تابعة للأعمال؛ وبالتالي فلا أثر لها على الإيمان الذي في القلب (الفتاوى 7 / 583، 644، 20 / 86 ـ 87).
فأخطأت الجهمية عندما حصرت الإيمان في مجرد المعرفة، وأخرجت منه عمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. فالكفر متعلق بالرسالة: فتكذيب الرسول كفر، وبغضه كفر، وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر. قال بذلك الصحابة، والتابعين، وأئمة العلم، وسائر الطوائف.
= والإيمان في القلب لا يتفاضل، فلا يكون في القلب بعضٌ من الإيمان. وهو ليس مجرد تصديقٌ وعلمٌ فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة، ومحبة وخشية؛ فذاك ممتنع غاية الامتناع، لحصول أحد أجزاء الإيمان مع تخلف بقيتها؛ وأنه إذا وجد قول القلب فلابد من حصول عمله إذا سلم من المعارض؛ كما أنَّ وجود قول القلب وعمله يلزم منه ضرورة وجود الظاهر قولا وعملاً.
وظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار، لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق. فهو ظنٌّ باطلٌ أيضاً: فالإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع ذلك يجحد ذلك؛ لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس. ويحمله ذلك الهوى أن يعتدي عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه. فعامة من كذب الرسل يعلم أن الحق معهم، وأنهم صادقون؛ لكنْ إمَّا لحسدهم، وإمَّا لإرادتهم العلو والرياسة، وإمَّا لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وعزّ وغير ذلك = يرون في أتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق. ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، إنما يعتمدون على مخالفة إرادتهم وأهواءهم وعاداتهم؛ فلذلك لم يتبعوا رسلهم؛ فهم كلهم كفار: فأبو طالب وغيره كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون علو كلمته، وليس عندهم حسد له، وكانوا يعلمون صدقه، ولكن كانوا يعلمون أن متابعته فراق دين آبائهم، وذم قريش لهم، فما احتملت نفوسهم ترك تلك العادة، واحتمال الذم، فلم يتركوا الإيمان لعدم العلم؛ بل لهوى النفس، فكيف يقال: إنَّ كل كافر إنما كفر لعدم علمه بالله؟
وهذا موجودٌ في جميع الأمور التي هي حق، يوجد من يعرف بقلبه أنه حق، وهو في الظاهر يجحد ذلك، ويعادي أهله؛ لظنه أن ذلك يجلب له منفعة، ويدفع عنه مضرة. ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أنَّ الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالله تعالى، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقاً، وحتى إبليس فلم يصفه الله إلاَّ بالإباء والاستكبار ومعارضة الأمر، ولم يصفه بعدم العلم.

= فبيَّن تعالى أن الجزاء الذي سينالهم، إنما استحقوه بكفرهم وعنادهم.
فباب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، لأن هؤلاء إنما استحقوا الوعيد لحبهم الدنيا على الآخرة، وليس لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه.
إنَّ استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران؛ واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
= وسبحانه استثنى المُكْرَه من الكفار، فلو كان الكفر لا يكون إلاَّ بتكذيب القلب وجهله لم يستثن المُكْرَه؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع. فعُلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه (الإيمان 208، 259، الإيمان الأوسط، ضمن: الفتاوى 7 / 220، 272، 560).
والوجه الثاني: في بطلان قول الجهمية إن الكافر ليس في قلبه شيء من العلم والتصديق، هو قول متناقض، ووجه تناقضه: إنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه. وإن لم يكن دليلاً، لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن (الفتاوى 7 / 644- 645).
** ** ** **
2 التوحيد (صفات الله):
تقول الجهمية إن الله موجود بالأمكنة كلها: أخرج ابن خزيمة (ت: 311 هـ / 923 م) في التوحيد، أن الجهم بن صفوان كان يوماً على جسر ترمذ فقيل له: صف لنا ربك، فدخل البيت لا يخرج، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء.
والجهمية تنكر جميع الأسماء التي سمى الله بها نفسه، وجميع الصفات التي وصف بها نفسه، وتجعل أسماءه من باب المجاز.
فإثبات الصفات يقتضي أن يكون الله جسماً؛ لأنَّ الصفات لا تقوم إلاَّ بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها. فينبغي نفي كل صفة نسبت إلى الله تعالى، أو توجد في المخلوقات لئلا يؤدي ذلك إلى تشبيه الله بمخلوقاته التي تحمل اسم تلك
الصفات.
وأجاب أهل السنة عن ذلك، بأن الله عز وجل وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم بصفات تُعرف معانيها ولا تُدرك كيفياتها، وهي معروفة في القرآن والحديث. فعلينا الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف. فالصفة معلومة، والكيف مجهول، والسؤال عنها بدعة.
والصفات ـ في القرآن الكريم وفي الأحاديث الصحيحة ـ مجملة، قابلة للاشتراك في الأسماء، متباينة الحقائق. وبداهة إن الاشتراك في التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة في الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل. وكذلك بقية الصفات، ولهذا فإنَّ الأوائل في الإسلام حينما آمنوا بصفات الله عز وجل لم يتصورا فيها أيَّ تشبيه، بل كانوا يعتبرون مجرد التفكير في المشابهة من وسواس الشيطان فيذكرون الله تعالى. كما أن إيمانهم بالصفات كان يجري كله على هذا المفهوم، فما كانوا يفرقون بين أن تكون الصفة ذاتية أو فعلية، كما لم يحصل بينهم أي نزاع أو جدال في مسائل الأسماء والصفات.
فمن العجيب أن يثبت الله تعالى لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم في هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا. والله تعالى يقول: ﴿ الرحمن على العرش استوى﴾ ـ طه 5ـ، فقالوا: لا يجوز إثبات هذه الصفة، وتأويلها: استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم.
وقال تعالى عن نفسه: ﴿ وهو السميع البصير﴾ ـ الشورى 11ـ، فقالوا: تأويله؛ إمَّا أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلى آخر كل الصفات والأسماء.
وذلك لأنهم لم يتلقوا النصوص ومدلولاتها بالطمأنينة والتسليم، بترك التكلف في البحث عن أمور هي من المغيبات لم يخبرنا الله بتفاصيلها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ أراد الله أن تكون كيفياتها سراً مكتوماً عن العباد، وهم يريدون الاطلاع عليها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وتنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال: ﴿ قل أأنتم أعلم أم الله﴾ ـ البقرة 140ـ. والتنزيه الصحيح إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى كمالها؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالى.
= فأي تنزيه في أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يرى أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه في كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجيء، إلى آخر تلك الأوصاف التي لا تقال إلاَّ للمعدوم = هي صفات سلبية، نتيجتها أن لا معبود إلاَّ العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
= وكلمة (الجسمية) لله تعالى نفياً أو إثباتاً هي من الألفاظ المخترعة. قال ابن القيم (ت: 751 هـ / 1350 م): واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفي. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يُسمَّى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفي عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر المفردة فهذا منفي عن الله قطعاً.
= والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا. وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة لله تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً. كما أنَّنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبتته جبرياً، فكذلك لا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً.
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به بإصبعه رافعاً بها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
= وإن أردتم بالجسم ما يلحقه منه وإليه، أي من عنده وإليه، فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة.
= وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره، وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه (مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 175- 177 لابن الموصلي، ت: 774 هـ) .
= والتعبير عن التوحيد يكون بـ (الكلام)، والله يعبر عن التوحيد بكلامه. فكلام الله وعلمه وقدرته، وغير ذلك من صفاته، لا يطلق عليه بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله، لأن لفظ الـ (غير) قد يراد به ما يباين غيره، وصفة الله لا تباينه. وقد يراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير.
= وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير. ولهذا لا يطلق أحدهما إلاَّ مقروناً ببيان المراد، لئلا يقال إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق. فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره. وفي هذا تعطيل صفات الخالق وجحد كماله (مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1 / 124)
ومن ذلك نفي أن يكون الله متكلماً بكلام يليق بجلاله. قال أبو الحسن الأشعري (ت: 324 هـ / 936 م): قول الجهمية: إن كلام الله مخلوق، يلزمهم به أن يكون الله تعالى لم يزل كالأصنام التي لا تنطق ولا تتكلم، لقوله تعالى يخبر عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه لما قالوا له: ﴿ أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ ـ الأنبياء 62،63ـ فاحتج عليهم بأن الأصنام إذا لم تكن ناطقة متكلمة لم تكن آلهة، وأن الإله لا يكون غير ناطق ولا متكلم؛ فلما كانت الأصنام التي لا يستحيل أن يحييها الله وينطقها لا تكون آلهة، فكيف يجوز أن يكون من يستحيل عليه الكلام في قدمه إلها ؟ (الإبانة 1 / 72)،
= وإذا لم يجز أن يكون الله سبحانه وتعالى في قدمه بمرتبة دون مرتبة الأصنام التي لا تنطق فقد وجب أن يكون الله لم يزل متكلماً.
ومنه قوله تعالى: ﴿ وكلم الله موسى تكليما﴾ ـ النساء 164ـ والتكليم هو المشافهة بالكلام، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم حالَّا في غيره مخلوقاً في شيء سواه، كما لا يجوز ذلك في العلم .
وقوله: ﴿ تبارك اسم ربك﴾ ـ الرحمن 78ـ، ولا يقال لمخلوق " تبارك "، فدل هذا على أن أسماء الله غير مخلوقة. وقال تعالى: ﴿ ويبقى وجه ربك﴾ ـ الرحمن 27ـ فكما لا يجوز أن يكون وجه ربنا مخلوقاً فكذلك لا يجوز أن تكون أسماؤه مخلوقة.
ومنه قوله تعالى: ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط﴾ ـ آل عمران 18ـ فلا بد أن يكون شهد بهذه الشهادة وسمعها من نفسه، لأنه إن كان سمعها من مخلوق فليست شهادة له، وإذا كانت شهادة له ـ وقد شهد بها ـ فلا يخلو أن يكون شهد بها قبل كون المخلوقات أو بعد كون المخلوقات = فإنْ كان شهد بها بعد كون المخلوقات، فلم يسبق شهادته لنفسه بألوهية الخلق، وكيف يكون ذلك كذلك؟ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن يشهد به شاهد قبل الخلق؟
= ولو استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق لاستحال إثبات التوحيد ووجوده،
وأن يكون واحداً قبل الخلق، لأن ما يستحيل الشهادة عليه فمستحيل.
= وإن كانت شهادته لنفسه قبل الخلق بالتوحيد فقد بطل أن يكون كلام الله تعالى مخلوقاً لأن كلام الله شهادته.
وأسماء الله من القرآن، وقال سبحانه: ﴿ سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى﴾ ـ الأعلى 2،1ـ فلا يجوز أن يكون ﴿ اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى﴾ مخلوقاً، كما لا يجوز أن يكون ﴿ جد ربنا﴾ ـ الجن 3ـ مخلوقاً. وكما لا يجوز أن تكون عظمته مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقاً.
ومنه قوله تعالى: ﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ ـ الشورى 51ـ فلو كان كلام الله لا يوجد إلاَّ مخلوقاً في شيء مخلوق، لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى؛ لأن الكلام قد سمعه جميع الخلق ووجدوه مخلوقاً في غير الله تعالى؛ وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين.
= ولو كان الكلام مخلوقاً في شجرة، وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله، لم يكن الله مكلماً لموسى من وراء حجاب؛ لأن من حضر الشجرة من الجن والإنس قد سمعوا الكلام من ذلك المكان، وكان سبيل موسى وغيره في ذلك سواء في أنه ليس كلام الله له من وراء حجاب (الإبانة للأشعري 88).
وقال ابن تيمية (ت: 728 هـ / 1328 م): المعتزلة يقولون إن الله كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، لكن حقيقة ذلك عندهم أنه خلق كلاماً في غيره إمَّا في شجرة وإمَّا في هواء وإمَّا في غير ذلك، من غير أن يقوم بذات الله عندهم كلام ولا علم ولا قدرة ولا رحمة ولا مشيئة ولا حياة ولا شيء من الصفات.
والله أكد تكليم موسى بالمصدر فقال تكليماً، والتوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يظن أنه أرسل إليه رسولاً أو كتب إليه كتاباً بل كلمه منه إليه. كما أنه فضله بتكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه.
وأيضاً فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق،
والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام البارئ والصوت صوت القارئ (مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1/474).
وقد تفرع عن هذه المسألة القول بخلق القرآن. فافترقت الجهمية ثلاث فرق في ذلك: فرقة قالت القرآن مخلوق، وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق.
أمَّا أهل الحديث فافترقوا في ذلك أيضاً: فطائفة تقول: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مرادهم صوت العبد، وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف. قال ابن قتيبة (ت: 276 هـ / 889 م): إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلاَّ في مسألة اللفظ. وصار قوم يطلقون القول بأنَّ التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة.
والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعاً من العمل وقسماً منه، ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيماً للعمل ونوعاً آخر ليس هو منه.
وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك، يراد به المصدر ويراد به المفعول، فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح، ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح.
= فمن قال اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى، وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره.
= ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله، وأفعال العباد مخلوقة، ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي، قيل: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام، وإن كان مقصودك صحيحاً فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطاً بين الطرفين.
= ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين، فصارت طائفة تقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وقوم يقولون نقيض هذا القول مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئاً منه، ولا خلق منه شيئاً في غيره، لا حروفه ولا معانيه (مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1 / 467).
وعندما وصلت أخبار فتنة خلق القرآن إلى (الإباضية) في عُمان والمغرب حينئذ، اختلفوا في ذلك، وكان لهم رأيان معتمدان في المذهب الإباضي. واختلافهم إنما كان بسبب معنى كلمة القرآن: هل القرآن علم الله وكلامه الذاتي، أم هو المصحف؟ فمنهم من قال بأن القرآن مخلوق، ومنهم من قال بأنه غير مخلوق (لكن لم يكفر أحد منهم الآخر كما حصل في العراق). فعلماء الإباضية في المغرب وقتئذ اتفقوا على أن القرآن مخلوق، أما في عُمان فقد اختلف العلماء في خلق القرآن ذلك الوقت في بداية الأمر خصوصاً بين الإمامين محمد بن محبوب بن الرحيل (ت: 205 هـ / 820 م) وبين محمد بن هاشم السيجاني (مع أن الرأي الغالب بين أئمة الإباضية عامة كان استنكار أو نفي المسألة)؛ وعندما خافوا الفتنة والانشقاق، اجتمعوا في مدينة دما (السيب اليوم، شمال غرب العاصمة مسقط)، اتفقوا على الاكتفاء بما كان عليه السلف، وهو الكف عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه (الإباضية في مصر والمغرب: د. رجب محمّد عبد الحليم 70 ـ 71)، وانظر ما كتبه أبو عبد الله القلهاتي الذي عاش في القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد، وما نظمه في ذلك أحمد بن نظر العماني الذي عاش في القرن الخامس للهجرة / الحادي عشر للميلاد. وقال الشيخ نورالدين السالمي (ت: 1332 هـ / 1913 م): إنّ الأشياخ توقّفوا عن إطلاق القول بخلق القرآن، وأمروا بالشدة على من أطلق القول في هذه المسألة، حتى لا يفتتن الناس في دينهم (الحق الدامغ: الشيخ أحمد بن حمد الخليلي 84 ـ 85).
** ** ** **
3 الظلم (التحسين والتقبيح):
الظلم، مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وهو: إمَّا إنه التصرف في ملك الغير، أو إنه مخالفة الأمر الذي تجب طاعته؛ وهو بالنسبة لله غير ممكن الوجود، وممتنعٌ غير مقدور، لأنه محال لذاته. فلو عذب الله المطيعين وجازى العاصين لم يكن ظالماً، لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل يفعله ـ ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، أو تكريم أعدائه من الكفار والشياطين، لم يكن ظالماً، لأنه لم يتصرف إلاَّ في ملكه، وليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه.
فالله عندهم عدل لا يظلم، لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته؛ والله لم يخلق شيئاً من أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، لأنه لو كان خالقاً لها ثم عاقب العاصين لكان ظالماً لهم. وإنما قالوا ذلك، لأن للعبد قدرة غير مؤثرة في أفعاله لأنه مجبرٌ، فكيف يعذب الله العباد على ما أجبرهم عليه؟ فهذا منتف بالنسبة لله.
وهذا حق، لكنهم جعلوا الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثال، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال. فالظلم الذي نزه الله نفسه عنه ألاَّ يحمل المرء سيئات غيره، وألاَّ يُعذَّب بما لم تكسب يداه، وألاَّ ينقص من حسناته فلا يُجازى بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفى الله خوفه عن العبد بقوله: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ ـ طه 112ـ، أي لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، ولا يؤاخذ بما لم يعمل.
فقولهم بأن الظلم ممتنع على الله ليس فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع.
أمَّا عذاب الله بنار جهنم، مع أن (الفعل) هو نفسه فعلُ الله فيه، فليس بظلم، لأن الإنسان ملك الله؛ والظلم عندهم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، ولا يكون إلاَّ من مأمور من غيره، أي أن الظلم عندهم هو نفي ما لا يقدر عليه الله ولا يمكن منه وهذا محال، أمَّا ما كان تحت قدرة الله تعالى فليس بظلم.
وهذا ذهول عن قوله تعالى: ﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون﴾ ـ البقرة 281ـ، وقوله تعالى: ﴿ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون﴾ ـ الأنعام 160ـ، وآيات كثيرة في هذا المعنى، تفيد أنه تعالى حرم الظلم على نفسه، وأبان عن كمال عدله. فكيف يتصور أن يكلفنا الله بالامتثال ثم يوجد فينا قوة.
** ** ** **
4 تكليف ما لا يطاق: أي هل التكليف هو الممتنع عادة؟ أم هو المستحيل، كالجمع بين الضدين؟ أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن؟
والخلاف إنما نشأ عن عدم التفريق بين: ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر. وإلى ما يرجع إلى جواز الأمر بالشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي.
وقد خلطت الجهمية بين هذين القسمين، مثل قياس أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلوا القسمين قسماً واحداً وأنه تكليف بما لا يطاق، لأنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. ولذلك قال الجهم بجواز تكليف ما لا يطاق مطلقاً، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة (مجموع الفتاوى 8 / 297).
ومذهب السلف، التفصيل في ذلك، فقالوا: تكليف مالا يطاق على وجهين:
أحدهما: ما لا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
أ- ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
ب- وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديماً، والقديم محدثاً، ونحو ذلك.
ومثل هذا ليس بواقع، ولا يجوز تكليفه (مجموع الفتاوى 8 / 301).
والثاني: ما لا يقدر عليه لا لاستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز، لأنه من التكليف الذي اتفق على وقوعه في الشريعة. فمن أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار ـ كأبي لهب ـ، بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان، فهذا قد حقت عليه كلمة العذاب، وهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، أو كقوم نوح حين أخبر الله نوحاً عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (مجموع الفتاوى 8 / 302، درء التعارض 1 / 63).
** ** ** **
5 إنكار كثير من أمور اليوم الآخر، مثل: الصراط، والميزان، ورؤية الله تعالى يوم القيامة لقوله تعالى: ﴿ لا تدركه الأبصار﴾، فطبيعة الإله أعلى من أن ترى بالأبصار البشرية. كما أنكروا عذاب القبر، والقول بفناء الجنة والنار لامتناع وجود مالا يتناهى من الحوادث. فما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، ودوام الفعل على الله تعالى في المستقبل ممتنع كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي (شرح الطحاوية 420)، فلم يتصور أن بعض الأشياء التي شاء الله لها البقاء يمتنع فناؤها.
وإنما قالوا ذلك مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاسوا هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عند الله وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا آخر لها، لأن الله وحده هو الأول والآخر.
وقد ظنوا أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو في الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلموا أن ما أراد الله بقاءه فإنه لا يمتنع عليه انتهاءه، فالجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك، فيستحيل أن تفنيا؛ والقرآن الكريم أخبر عن بقائهما إلى الأبد. قال تعالى: ﴿وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ﴾ ـ هود 108ـ أي غير منقطع.
وقال تعالى: ﴿وما هم منها بمخرجين﴾ ـ الحجر 48ـ، و﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى﴾ ـ الدخان 56ـ، وآيات كثيرة في إثبات ذلك؛ وجاءت السنة بتأكيده في أحاديث كثيرة.
6- نفي أن يكون الله تعالى في جهة العلو. فهو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايد له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما. فهو بذاته في كل مكان، حال بذاته في كل شيء (مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1 / 83، 179). قال يحيى بن عثمان السهمي (ت: 282 هـ / 895 م) في رسالته: لا نقول كما قالت الجهمية إنه مداخل الأمكنة وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو. بل نقول هو بذاته على عرشه، وعلمه محيط بكل شيء، وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ وهو معكم أينما كنتم﴾ (مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 1 / 215).
** ** ** **
ملاحظة
الجَعْد بن درهم، والجَهْم بن صفوان، لم يؤلفا كتاباً، ووصلت إلينا أفكارهما عن طريق معارضيهم. ويبدو أن مقالتهم ـ مع مرور الزمن ـ أخذت أبعاداً جديدة، وزيد عليها (تفريعات) ليست في الأصل الأول.
وكي نعرف (مبدأ أقوالهما) دون زيادات، نستطيع أخذها من (التهم) التي وُجّهتْ إليهما، فنجد أنها تتحدث عن توحيد الله وتنزيهه، ونفي الصفات التي توحي بالتشبيه وتأويلها، ومن بينها صفة الكلام، وأنَّ أفعال الإنسان سواء كانت خيراً أو شراً، هي من صنعه وحده، وأنَّ (العقل) هو مناط الحساب، والقول بـ «الجَبْر»، أي سيادة قدر الله، وإسناد ما يفعله المرء من أعمال إليه.

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع د. منذر أبوشعر
 تفضل بزيارتي على موقعي الشخصي

http://drmonther.com
د. منذر أبوشعر غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(علم, الإسلام, الكلام), بحاجة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بداية القصة شذى الصنهاجي الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 4 10 / 06 / 2021 52 : 11 PM
قلب بحاجة للحذف ناهد شما نورالأسرة، التربية والتعليم وقضايا المجتمع والسلوك 2 04 / 08 / 2020 35 : 05 AM
العرب قبل الإسلام في فلسطين .الإسلام .الراشدون .الأمويون . العباسيون . البنادقة. ناهد شما الموسوعة الفلسطينية 2 13 / 01 / 2013 36 : 02 AM
بداية النهاية ناهد شما أدعية و أذكار و فوائد دينية 6 07 / 01 / 2011 47 : 03 AM
نهاية بلا بداية نجية بوحسون الخاطـرة 11 06 / 09 / 2008 19 : 04 PM


الساعة الآن 10 : 02 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|