اسمه ونسبه ونشأته العلمية
هو الإمام العَلَم الفرد، تاج الفقهاء، وسيِّد الحُفَّاظ، أمام الدُّنيا في الحديث: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البُخاري، وجده الثالث اسمه «بَرْدِزْبَه» وكان مجوسياً، ومات على ذلك. و«بَرْدِزْبَه» هو الزَّرَّاعُ بلُغة أهل بُخارى. وجده الثاني اسمه «المغيرة»، أسلم على يدي اليمان بن أخنس الجُعْفي والي بخارى، ولذلك نُسب البخاري جُعفيّاً بالولاء. فالعرف السائد آنذاك أنَّ الإنسان إذا أسلم على يديه شخص نُسِب إلى قبيلته، وكانت تسمى هذه النسبة نسبة الولاء.
أي أن البخاري عرف الإسلام قريباً من ولادته؛ فهو أعجمي الأصل والبلد؛ والعبرة ليست بعروبة النشأة واللسان، أو ميراثاً وتسمّياً، لكنها بالدين الصحيح قولاً وعملاً. أمَّا والده أبو الحسن إسماعيل فقد كان دِهْقاناً، وهو مالك القرية أو كبيرها، وكان متورّعاً عن الشبهات، بعيداً عن الحرام، معدوداً في العلماء الورعين، رأى حماد بن زيد، وسمع مالك بن أنس، وصافح ابن المبارك بكلتا يديه (ولعل ذلك كان في رحلته إلى الحج، فحماد في البصرة، ومالك في المدينة، وابن المبارك في مرو). وروى عنه أحمد بن حفص فقال: دخلت عليه عند موته، فقال: لا أعلم في جميع مالي درهماً من شُبهة. قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك (سير أعلام النبلاء 12 / 391، طبقات الشافعية الكبرى 2 / 213).
** ** ** **
وُلد البخاري سنة (194 هـ /810 م) ببُخارى في غرب أوزبكستان، ونَشأ يتيماً، إذ توفي أبوه وهو صغير، وترك مالاً كثيراً أعان أمه على تنشئته، وكانت كثيرة العبادة والدعاء، فكان لها الدور الأكبر في حثه على العلم وتشجيعه عليه. قال ورّاق البخاري: سمعتُ البخاري يقول: كنتُ أختلف إلى الفقهاءِ بمَرْوَ وأنا صبيٌّ، فإذا جئت أستحيي أن أُسَلِّم عليهم، فقال لي مؤدِّبٌ من أهلها: كم كتبتَ اليوم؟ فقلتُ: آيتين، وأردت بذلك حديثين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخٌ منهم: لا تضحكوا، فلعلَّه يضحك منكم يوماً، فكان كما قال الشيخ.
وقال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم ورَّاق البخاري: قلتُ لأبي عبد الله: كيف كان بَدْء أمرِك في طلب الحديث؟ قال: أُلْهِمْتُ حفْظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقلتُ: كم كان سِنُّك؟ فقال: عشر سنين أو أقلّ، ثم خرجتُ من الكُتَّاب بعدَ العشر، فجعلتُ أختلِفُ إلى الدَّاخِليِّ (نسبة إلى الداخلة أحد مدن بخارى) وغيره، فقال يوماً فيما كان يقرأُ للناس: سفيان، عن أبي الزُّبير، عن إبراهيم، فقلت له: إنَّ أبا الزُّبير لم يَرْو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلتُ له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونَظَر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلتُ: هو الزُّبيرُ بن عَديّ عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأَحْكَمَ كتابه، وقال: صدقت، فقال له بعضُ أصحابه: ابن كم كنتَ حين رددتَ عليه؟ فقال له: ابن إحدى عشرة سنة.
وقال: فلمَّا طعنتُ في ست عشرة سنة حفظتُ كُتُب ابن المبارك ووكيع، وعَرَفْتُ كلام هؤلاء، ثم خرجتُ مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلمَّا حججتُ رجع أخي بأمي، وتَخَلَّفْتُ بمكة في طلب الحديث. فلمَّا طعنتُ في ثماني عشرة سنة، جعلتُ أُصنِّف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك في أيام عُبيد الله بن موسى (ت: 213 هـ)، وصنَّفتُ كتاب التاريخ (تاريخ بغداد 2 / 7).
وقال محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين (ت: 240 هـ): كتبنا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف الفِرْيابي وما في وجهه شعرة، فقلنا: ابن كم أنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنة.
وقال أحمد بن محمد أبو جعفر الورّاق (ت: 228 هـ): سمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: قال لي محمد بن سلام البِيكَنْدي (ت: 225 هـ) الحافظ، وكان يحفظ خمسة آلاف حديث: انْظُرْ في كتبي، فما وجدتَ فيها من خطأ فاضربْ عليه كي لا أرويه. قال: ففعلتُ ذلك، وكان محمد بن سلام كتب عند الأحاديث التي أحكمها محمد بن إسماعيل: رضي الفتى، وفي الأحاديث الضعيفة: لم يَرْض الفتى. فقال له بعضُ أصحابه: مَنْ هذا الفتى؟ فقال: هو الذي ليس مثله، محمد بن إسماعيل. قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت: 842 هـ): فَعَلَ البخاري هذا بكتُبُ البِيكَنْدِي وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها.
(انظر: أسامي من روى عنه البخاري لابن عدي 47، تاريخ بغداد 2 / 326، التعديل والجرح للباجي 1 / 9، فهرسة ابن خَير 95، الإكمال 1 / 259، تاريخ دمشق 52 / 72، تهذيب الأسماء واللُّغات 1 / 74، تهذيب الكمال 24 / 441، هداية الساري 124).
وقال البخاريُّ مرَّةً لورَّاقه: لم تكن كتابتي للحديث كما كَتَبَ هؤلاء، كنتُ إذا كتبتُ عن رجلٍ سألتُه عن اسمه، وكُنْيَته، ونِسْبَتِه، وحَمْلِه الحديثَ إنْ كان الرجل فَهِماً، فإنْ لم يكنْ سألتُه أن يُخرج لي أصلَه ونُسْخَتَه، وأمَّا الآخرون فلا يُبالون ما يكتبون ولا كيف يكتبون.
قال: فلمَّا طعنت في ثماني عشرة سنة، جعلتُ أُصنِّف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك في أيام عُبيد الله بن موسى (ت: 213 هـ)، وصنَّفتُ كتاب (التاريخ) إذْ ذاك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة، وقَلَّ اسمٌ في (التاريخ) إلاَّ وله عندي قصة، إلاَّ أني كرهتُ تطويل الكتاب.
وقال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (تاريخ بغداد ٢ / ٢٤، تهذيب الأسماء واللغات 1 / 68، هـدي السـاري 488).
وقال: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلاَّ أذكر إسناده (تاريخ بغداد 2 / ١٠، طبقات الشافعية ٢ / ٢٢٢).
وقال الفَربريُّ (ت: 320 هـ): سمعتُ البخاريَّ يقولُ: دخلتُ بغداد ثماني مرَّاتٍ، في كلِّها أجالسُ أحمدَ ابن حنبل، فقال لي: يا أبا عبد الله، تَدَعُ العلمَ والنَّاسَ وتصيرُ إلى خُراسان؟ قال: فأنا أذكرُ قولَهُ إلى الآن (تاريخ بغداد 2 / 344، تاريخ دمشق 52 / 60).
عصره:
عاش البخاري خلافة عشرة من خلفاء بني العباس، أربعة أقوياء من العصر العباسي الأول، وهم: الخليفة الأمين سادس الخلفاء العباسيين، ولي الخلافة سنة (193 هـ) وتوفي سنة (198 هـ) عن ثمان وعشرين سنة. وكان عمر البخاري وقت وفاة الأمين أربع سنين.
والمأمون ولي الخلافة سنة (198 هـ) وتوفي سنة (218 هـ) عن سبع وأربعين سنة. وكان عمر البخاري وقت وفاة المأمون أربعاً وعشرين سنة.
وأخوه المعتصم بالله ولي الخلافة سنة (218 هـ) وتوفي سنة (227 هـ) عن ثمان وأربعين سنة. وكان عمر البخاري وقت وفاة المعتصم ثلاثاً وثلاثين سنة.
والواثق بالله بن المعتصم ولي الخلافة سنة (227 هـ) وتوفي سنة (232 هـ) عن اثنتين وثلاثين سنة. وكان عمر البخاري وقت وفاة الواثق ثمان وثلاثين سنة، وهي الفترة التي أنجز فيها كتابه (صحيح البخاري) على صورته الأولى.
= كما عاصر ستة من خلفاء العصر العباسي الثاني وهم:
المتوكل بالله أخو المعتصم ولي الخلافة سنة (232 هـ) وتوفي سنة (247 هـ) عن اثنين وأربعين سنة.
والمنتصر بالله بن المتوكل ولي الخلافة سنة (247 هـ) وتوفي سنة (248 هـ) عن ست وعشرين سنة.
والمستعين بالله أخو المتوكل والواثق، تولى الخلافة سنة (248 هـ) وتوفي سنة (252 هـ) عن اثنتين وثلاثين سنة.
والمعتز بالله بن المتوكل ولي الخلافة سنة (252 هـ) وتوفي سنة (255 هـ) عن ثلاث وعشرين سنة.
والمهتدي بالله بن الواثق ولي الخلافة سنة (255 هـ) وتوفي سنة (256 هـ) عن سبع وثلاثين سنة.
وعاصر أول خلافة المعتمد على الله ولي الخلافة سنة (256 هـ) وتوفي سنة (279
هـ) عن خمسين عاماً.
= أي إن البخاري عاش (38) عاماً في العصر العباسي الأول الذي اتصف بقوة سلطان الخلفاء، وانتشار نفوذهم، وتمام سيادتهم على جميع العالم الإسلامي عدا بلاد الأندلس. فكان مَن ولي الخلافة منهم يعقد مجالس العلم ويشارك فيها، كما كان الخلفاء يكرمون العلماء ويجلونهم ويقربونهم ويعوّلون على آرائهم؛ فالحركة العلمية كانت قد بلغت شأوها، للاتصال الخصب مع ثقافات الأمم الإسلامية، وحركة التعريب الواسعة. إضافة إلى ازدهار الحركة الأدبية التي تجلت في العلوم اللغوية والدينية، ومباحث التاريخ، وعلم الكلام، ونشاط الدراسات الفقهية والتشريعية. لكن الناس عاشوا وقتها في أتون فتنة خلق القرآن، فأوذي فيها خلق كثير، كان على رأسهم الإمام أحمد ابن حنبل (ت: 241 هـ)، كما امتُحن بها البخاري نفسه.
= كما عاش البخاري أربعة وعشرين عاماً في العصر العباسي الثاني الذي شهد انقسامات في صفوف المسلمين بسبب الصراع بين الموالي والعرب الذين أُبعدوا عن مناصبهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان ازدهار عصر التدوين الحديثي، وانحباس فتنة خلق القرآن بأمر من الخليفة المتوكل بالله (ت: 247 هـ)، وكان على مذهب الشافعي، ويُعدُّ أول من تمذهب له من الخلفاء.
** ** ** **
أخلاقه وحِلْيته:
قال الحسن بن الحسين البزَّاز: رأيتُ محمد بن إسماعيل شيخاً نحيف الجسم، ليس
بالطويل، ولا بالقصير (أسامي من روى عنهم البخاري في الصحيح لابن عدي 49، تاريخ بغداد ٢ / 6، وفيات الأعيان ٤ / ١٩٠).
وقال الورَّاق: كان شديد الحياء في صغره، حتَّى قال شيخه محمد بنُ سلام البِيْكَندي (ت: 225 هـ): أترون البكرَ أشدُّ حياءً مِن هذا الغلام؟ (سير أعلام النبلاء 12 / 418).
وقال الحسن بن محمد السمرقندي (ت: 491 هـ): كان محمد بن إسماعيل مخصوصاً بثلاث خصالٍ: كان قليلَ الكلام، وكان لا يطمع فيما عند النَّاس، وكان لا يشتغل بأمور النَّاس (سير أعلام النبلاء 12 / 441 ـ 448).
شيوخه:
كانت رحلة الإمام البخاري في طلب الحديث إلى معظم البلاد، فكَتَب بخُراسان، ومُدُن العراق كلها، وبالحجاز، والشام، ومصر، وأخذ عن الحُفَّاظ النُّقّاد. فكَتَب عن خَلْقٍ كثير حتى عن أقرانه كالدَّارِمي (ت: 255 هـ)، وأبي زُرْعةَ (ت: 264 هـ) وأبي حاتم (ت: 277 هـ) الرَّازيَيْن، وأشباهِهِم، حتى كَتَب عَمَّنْ هو دونه. وقال قبل موته بشهر: كتبت عن ألفٍ وثمانين نفساً. وقال الحافظ أبو حاتم سهل بن السري: قال محمد بن إسماعيل البخاري: لقيتُ أكثر من ألف شيخ من أهل الحجاز ومكة والمدينة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتُهم قرناً بعد قرن، وذَكَر أنه رحل إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقام بالحجاز ستة أعوام. قال: ولا أُحصي كم دخلتُ الكوفة وبغداد مع محدّثي خراسان.
وقال ورَّاق البخاري: سمعتُه يقول: دخلتُ بلْخ، فسألني أصحابُ الحديثِ أَنْ أُمْلي عليهم لكُلِّ من لقيتُ حديثاً عنه، فأمليتُ ألفَ حديثٍ لألف شيخ ممَّن كتبتُ عنهم، ثم قال: كتبتُ عن ألف وثمانين نفساً، ليس فيهم إلَّا صاحب حديث.
وقال تاج الدين السبكي (ت: 771 هـ): وأكثَرَ الحاكمُ في (تاريخ نيسابور) في عَدِّ شيوخ البخاري، وذِكْر البلاد التي دخلها، ثم قال: وإنما سَمَّيْتُ من كلِّ ناحيةٍ جماعةٌ من المتقدمين ليُسْتَدَلَّ بذلك على عالي إسناده. وقد روى في الصحيح عن (345) شيخاً، من مختلف الأصقاع.
وقسَّم ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ) شيوخه على طبقات خمس:
الطبقة الأولى: مَنْ حدَّثه عن التَّابعين.
الطبقة الثانية: مَن كان في عصر هؤلاء، وتأخَّر عنهم قليلاً، من أصحاب الأوزاعي، وابن أبي ذئب، والثَّوري، وشُعبة، ومالك.
الطبقة الثالثة: أوساط مشايخه الذي شاركه في الرواية عنهم مسلم وغيره، كأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، وأشباههم من أصحاب حمَّاد بن زيد، والليث بن سعد، ثمَّ من أصحاب ابن المبارك، وابن عُيينة، ونحوهم.
الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطَّلب، كأبي حاتم الرَّازي، والدَّارمي، وعبد بن حُمَيد، وجماعة، وفيهم مَن هو أقدمُ منه سماعاً قليلاً. وإنما يُخرّج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه، أو لم يجده عند غيرهم.
الطبقة الخامسة: قومٌ في عداد طلبته في السن والإسناد، سمع منهم للفائدة، كمحمَّد بن عيسى التِّرمذي، روى عنهم أشياء يسيرة (هدي الساري 60).
فأعلى شيوخه الذين حدثوا عن التابعين، هم: أبو عاصم الضحاك بن مخلد الأنصاري (ت: 212 هـ)، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني (ت: 212 هـ)، ومحمد بن عبد الله الأنصاري (ت: 212 هـ)، وعبيد الله بن موسى العبسي (ت: 213 هـ)، ومكي بن إبراهيم الحنظلي البلخي (ت: 214 هـ)، وعصام بن خالد الحضرمي (ت: 214 هـ)، ونحوهم. وهم الذين روى عنهم (ثلاثياته)، والمقصود بثلاثياته أن يكون عدد رجال الإسناد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين البخاري ثلاثة أفراد، وهذا من أجل الأحاديث وأعلاه سنداً. فعلو السند مطلب عزيز عند المحدثين. وقد ذكر ابن حجر أنها بلغت أكثر من عشرين حديثاً. وهي، أي الثلاثيات، قليلة مقارنة بثلاثيات مسند الإمام أحمد. ويُلاحظ أنَّ ما عند الإمام مالك بن أنس أعلى من ثلاثيات البخاري، فعنده سند ثنائي.
= وأوساط شيوخ البخاري، وهم: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت: 157 هـ)، وابن ابي ذئب محمد بن عبد الرحمن العامري (ت: 159 هـ)، وشعبة بن الحجاج الأزدي (ت: 160 هـ)، وسفيان الثوري (ت: 161 هـ)، وشعيب بن أبي حمزة الأموي (ت: 162 هـ).
ثم طبقة أخرى دونهم كأصحاب الليث بن سعد الفهمي (ت: 175 هـ)، وأبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري (ت: 176 هـ)، ومالك بن أنس (ت: 179 هـ)، وحماد بن زيد الأزدي (ت: 179 هـ).
والطبقة الرابعة من شيوخه، وهم: مثل أصحاب عبد الله بن المبارك (ت: 181 هـ)، والوليد بن مسلم (ت: 194 هـ)، وابن وهب عبد الله بن وهب (ت: 197 هـ)، وسفيان بن عيينة (ت: 198 هـ).
وتليهم الطبقة الخامسة وهم من أقرانه (راجع سير أعلام النبلاء 12 / 395).
تلامذته:
أخذ الحُفَّاظ عنه، وسمعوا منه، وكتبوا عنه وما في وجهه شعرة. فروى عنه مسلمٌ خارج (الصحيح)، والترمذيُّ في (جامعه)، وأبو زُرْعة وأبو حاتم الرازيان، وابنُ خُزَيْمة، وخلق كثير لا يُحصوَن. قال الحافظ صالح بن محمد الملقَّب جزرة (ت: 293 هـ): كان يجتمع له في بغداد وحدها أكثر من عشرين ألفاً يكتبون عنه (سير أعلام النبلاء 13 / 433)، وسمِع منه الصحيح ما يقْرب من تسعين ألفاً، وكان بين يديه ثلاثة مستملين (تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٨٨)، وسمِع منه الصحيح ما يقْرب من تسعين ألفاً (تاريخ بغداد ٢ / 9، وفيات الأعيان ٤ / ١٩٠، سير أعـلام النـبلاء ١٢ / 35، وفي تهذيب الأسماء واللغات ١ /٩٠: سبعين).
** ** ** **
امتحان عقدي:
لمّا قَدِم البخاري نيسابور سنة (٢٥٠ هـ)، استقبله الناس استقبالاً عظيماً، فاجتمع الناس عليه مدةً يحدثهم، فحسده من حسده، وكان فيها محدثها محمد بن يحيى الذُّهْلي (ت: 258 هـ) حافظ نيسابور، وكان يقول لدى مقْدم البخاري: "اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح، فاسمعوا منه "، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخَلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلَّم فيه. ومَنْ ثَم سأل رجلٌ البخاري: ما تقول في اللفظ بالقرآن: مخلوق هو، أم غير مخلوق؟ فأجاب بقوله: "القرآن كلام االله غير مخلوق، وأفعال العِباد مخلوقة، والامتحان بدعة". وقال: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا". فلمَّا قال البخاري ذلك، اختلف الناس في تفسير عبارته: فقال البعض: "قال بخلْق القرآن"، وقال البعض الآخر: "بل قال لفظي بالقرآن مخلوق "، فعندها قال محمد بن يحيى الذُّهْلي: "القرآن كلام االله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث تصرف، فمن لزم هذا استغنى عـن اللفظ وعمَّا سواه من الكلام في القرآن، ومن زعم أنَّ القرآن مخلوق فقد كفر، وخرج عن الإيمان، وبانت منه امرأته، يُستتاب، فإنْ تاب، وإلاَّ ضُربت عنقه، وجُعِل ماله فيئاً بين المسلمين، ولم يُدفن في مقابرهم، ومن وقف فقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر، ومن زعم أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فهذا مبتدع، لا يُجالَس ولا يُكلَّم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه؛ فإنه لا يحضر مجلسه إلاَّ من كان على مثل مذهبه". فانفض الناس عن البخاري، فلم يحضر مجلِسه إلاَّ "مسلم" صاحب "الصحيح"، وأحمد بـن سَلَمة، فبعث مسلم إلى الذُّهلي ما سمعه منه؛ لأنه كان يظهر القول باللفظ ولا يكتمه سَلَمة.
وقال أبو عمرو الخفاف (ت: 299 هـ): أتيت محمد بن إسماعيل، فناظرته في شيءٍ من الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلت: يا أبا عبد االله، ها هنا أحد يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة، فقال: يا أبا عمرو، احفظْ ما أقول لك، من زعم من أهل نيسابور - وسمى بلداناً أخرى - أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كذَّاب؛ فإني لم أقلْ هذه المقالة، إلاَّ أني قلت: أفعال العباد مخلوقةٌ (تاريخ بغداد ٢ / 34، سير أعلام النبلاء ١٢ / 453، تهذيب الكمال 24 / 464، هدي الساري 490).
ولم يمنع البخاري ما جرى بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ أن يروِي عنه. قال الذّهبي (ت: 748 هـ) وهو يُعدد تلاميذ الذهلي: ومنهم: محمد بن إسماعيل البخاري، ويدلِّسه كثيراً، لا يقول: محمد بن يحيى، بل يقول: محمد فقط، أو محمد بن خالد، أو محمد بن عبـد االله ينسبه إلى الجد، ويُعمّي اسمه لمكان الواقع بينهما، غفر الله لهما (سير أعلام النبلاء 12 / 275).
= وبعدها خرج البخاري من نيسابور، وعاد إلى بلده بخارى، فاستقبله الناس، ونثِرت عليه الدراهم، وحدَّث بها أياماً إلى أنْ حدثتِ الوحشة بينه وبين واليها الأمير خالد بن أحمد الذُّهْلي (ت: 270 هـ)؛ وقتما سأله أنْ يحضر إلى منزله، ليقرأ "الجامع" و"التاريخ" على أولاده، فامتنع البخاري عـن الحضور عنده، فراسله بأنْ يعقد مجلساً لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع أيضاً، وقال: لا أخص أحداً، ثم قال للرسول : "أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإنْ كانت لك إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضر في مسجدي، أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فإنك سلطانٌ فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند االله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم". فوجد عليه الوالي، واستعان بخصومه حتى تكلَّموا في مذهبه، فنفِي عن البلد، ومضى إلى "سمرقند"، إلى أقرباء له في قرية خَرْتَنْك على فرسخين من سمرقند، فأقام عندهم أياماً، فمرض مرضاً شديداً، وتوفي سنة (256 هـ) عن اثنتين وستين سنة، ولم يُعقب.
(انظر: تاريخ بغداد ٢ / ٣٣، سير أعلام النبلاء ١٢ / 464، هدي الساري 493، وفيات الأعيان 4 / 191).
** ** ** **
منزلته وثناء العلماء عليه:
تواترت الألسن بالثناء على البخاري، وقد جمع طرفاً من ذلك الحسين بن محمد الجياني (ت: 498 هـ) في مقدمة «تقييد المهمل» عن جماعات من البصريين وأهل الحجاز والكوفة والبغداديين وأهل الري وخراسان وبلاد ما وراء النهر.
فقد بلغ البخاري منزلة عالية في العلم وهو في مقتبل العمر ـ كما أسلفنا قبل قليل ـ، وكان أهلُ المعرفة من البصريين يَعْدُون خلفه في طلب الحديث وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه، ويُجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوفٌ، أكثرُهم ممَّن يُكتَبُ عنه، وكان شاباً لم يَخْرُجْ وجهُه. قال حاشد بن إسماعيل البخاري الغزال (ت: 261 هـ): سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: لم يجئنا من خُراسان مثل محمد بن إسماعيل. وقال الترمذي (ت: 279 هـ): لم أرَ أحداً بالعراق ولا بخُراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلمَ من محمد بن إسماعيل.
وكان ابنُ صاعد (ت: 318 هـ) إذا ذكر محمد بن إسماعيل يقول: الكبش النَّطَّاح. وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم النيسابوري (ت: 344 هـ): سمعتُ أصحابنا يقولون: لمَّا قَدِم البخاريُّ نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل رُكْباناً على الخيل، سوى من ركب بغلاً أو حماراً وسوى الرَّجَّالة.
وقال أبو أحمد الحاكم النيسابوري (ت: 405 هـ): كان البخاريُّ أحدَ الأئمة في معرفة الحديث وجَمْعِه، ولو قلتُ إني لم أرَ تصنيفَ أحدٍ يُشْبِه تصنيفَه في المبالغة والحسن، لَرَجَوْتُ أَنْ أكونَ صادقاً. وقال: سمعتُ محمد بن يعقوب الحافظ (ت: 344 هـ) يقول: سمعتُ أبي يقول: رأيتُ مسلم بن الحَجَّاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبيّ.
(انظر: شرح علل الترمذي ١ / ٣٢، أسامي من روى عنهم البخاري في الصحيح 52، تاريخ بغداد ٢ / ٢١، وفيات الأعيان ٤ / ١٩٠، هدي الساري ٤٨٩).
وقال حمدون بن أحمد القصَّار (ت: 271 هـ): سمعتُ مسلم بن الحجَّاج وجاء إلى البخاري فقال: دَعْني أُقَبِّلْ رِجليك يا أُستاذ الأُستاذين، وطبيبَ الحديث في عِلَلِه. وقال إبراهيم الخوَّاص (ت: 291 هـ): رأيتُ أبا زُرْعة كالصبيّ جالساً بين يدي محمد بن إسماعيل، يسألُه عن عِلَل الحديث.
وقال الإمام أبو العباس القرطبي (ت: 656 هـ): وهو العَلَمُ المشهور، والحاملُ لواء علم الحديث المنشور، صاحبُ (التاريخ) و(الصحيح)، المرجوع إليه في علم التعديل والتجريح، أحدُ حُفَّاظ الإسلام، ومن حفظ الله به حديثَ رسوله عليه الصلاة والسلام. شَهِد له أئمةُ عصرِه بالإمامة في حِفْظ الحديث ونَقْله، وشَهِدَتْ له تراجمُ كتابه بفَهْمه وفِقْهِه.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ): جَبَلُ الحفظ، وإمامُ الدنيا في فِقْه الحديث (تهذيب الأسماء واللغات 1 / ٧٠، سير أعلام النبلاء ١٢ / 432، هدي الساري ٤٨٩).
ومع علمه وحفظه كان آيةً في العبادة، لم يشغله الحديث عن القرآن؛ إذ كان يختم في كـل يوم من رمضان ختمة، ويصلي في آخر الليل ثلاث عشرة ركعة (تاريخ بغداد 2 / 12، تهذيب الكمال 3 / 170).
وقد ألَّف مؤلَّفاً مسـتقلاً في ترجمته ومناقبه: الذهبي ذكره في (تذكرة الحفَّاظ ٢ / ٥٥٦)، وابن كثير ذكره في (البداية والنهاية ١١ / 24)، وابن حجر ذكره في تهذيب التهذيب ٩ / ٤٥).
** ** ** **
مؤلفات البخاري
للبخاري ما يزيد على عشرين مصنفاً، أشهرها:
1 الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بـ (صحيح البخاري)، وسيأتي الكلام عنه مفصلاً.
2 الأدب المُفرَد: طبع في القسطنطينية سنة 1304هـ / 1886 م، وفي الهند بمطبعة خليلي سنة 1306هـ / 1888 م، وفي القاهرة بالمطبعة السلفية سنة 1379هـ / 1959 م، وبمطبعة مكتبة الآداب المصرية سنة 1400هـ / 1979 م. ثم حقق الكتاب وخرج أحاديثه: الشيخ محمد ناصر الألباني، ونشرت طبعته الثانية دار الصديق في السعودية سنة 1421 هـ / 2000 م، ثم طبعته مكتبة الخانجي بتحقيق: علي عبد الباسط مزيد، وعلي عبد المقصود رضوان سنة 1423هـ / 2002 م.
ويُعَدُّ الكتاب من أفضل ما جمع في الأدب والأخلاق الإسلامية عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، لمعرفة الآداب النبوية في العبادات والمعاملات والإقامة والسفر والمعاشرة والوحدة والسكون واليقظة والنوم والأكل والشرب والكلام والصمت، وغير ذلك مما يعرض للإنسان في حياته.
3 التاريخ الكبير. حاول فيه استيعاب رواة الحديث، من الصحابة إلى طبقة شيوخه، سواءً كانوا ثقات أم ضعفاء، ولم يخص رواة بلدٍ دون بلد. ورتّب تراجمه على حروف المعجم، مقدِّماً مَنْ اسمه "محمد" على سائر الأسماء؛ لشرف هذا الاسم، وقد حاول فيه الاستيعاب، حتى فيمن لم يُرو عنه إلاَّ حرفاً واحداً، فتعقبه ابن عدي لهذا التكثر. وطُبع الكتاب في دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن بالهند في الفترة 1360 - 1364 هـ / 1940 م ـ 1944 م وتأخر صدور الجزء الثالث، فصدر في سنة 1378 هـ / 1958 م وتعد هذه الطبعة من أفضل الطبعات وأتقنها. ثم طبع الكتاب في سنة 1422 هـ / 2001 م في دار الكتب العلمية ببيروت، وتضمن كتاب: الكنى، وكتاب" بيان خطأ البخاري في تاريخه" لابن أبي حاتم. ولم تأت هذه الطبعة بكبير شيء جديد في التحقيق، إلاَّ أنه عمل طيب، يُشكر عليه صاحبه. ثم طُبع الكتاب بتحقيق ودراسة: محمد بن صالح بن محمد الدباسي، وطبعه الناشر المتميز للطباعة في الرياض في سنة 1440 هـ / 2019 م، واستغرق إنجازه ثمان سنوات من العمل المتواصل.
4 التاريخ الصغير: وهو تاريخ مختصر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256 هـ / 870 م)، وطبع الكتاب أولَ مرة بالهند سنة (1325هـ / 1907 م). وهو في الحقيقة كتاب (التاريخ الأوسط)، جزم بذلك عدد من المعاصرين؛ وأثبته بأدلة قاطعة محمود بن محمد الحداد في (فهرس مصنفات الإمام البخاري) ص 28 - 29. وأمَّا (التاريخ الصغير) فهو كتابه المطبوع باسم (الضعفاء) و(الضعفاء الصغير)، وهما كتاب واحد. الضعفاء: مخطوط في المكتبة السليمانية بإستانبول، من وقف السلطان سليم خان، بـ 19 ورقة، وهي نسخة تامة، مكتوبة سنة 731 هـ. والضعفاء الصغير: حققه عبد العزيز السيروان، ونشره في المجموع في الضعفاء والمتروكين، وطبعته دار القلم في بيروت سنة 1405 هـ / 1985 م، ثم حققه أحمد بن أبي العينين، ونشرته مكتبة ابن عباس في السعودية سنة 1426 هـ / 2005 م.
وكان البخاري شديد الورع والاحتياط في جرحِ الرواة. وقال: أرجو أنْ ألقى االله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً (تاريخ بغداد ٢ / ١٣، تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٦٨، هدي السـاري ٤٨١)، وقال الذهبي (ت: 748 هـ): قلت: صدق - رحمه االله – ومن نظَر في كلامه في الجَرح والتعديل، علِم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإنه أكثر ما يقول : "منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر "، ونحو هذا، وقلَّ أنْ يقول: "فلانٌ كذَّاب، أو كان يضع الحديث "، حتى إنه قال : "إذا قلت: فلانٌ في حديثه نظر، فهو متهم واهٍ "، وهذا معنى قولِه : "لا يحاسبني االله أني اغتبت أحداً، وهذا هو - والله - غاية الْورع (سير أعلام النبلاء ١٢ / 443).
5 خلق أفعال العباد. وطبع بالهند سنة (1306هـ / 1888 م).
6 رفع اليدين في الصلاة. وطبع في الهند أولَ مرة سنة (1256هـ / 1840م)، مع ترجمة له بالأوردية.
7 الكُنى. وطبع بالهند سنة (1360هـ / 1941م).
صحيح البخاري
اسم الكتاب: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، وعُرف اختصاراً بـ (صحيح البخاري)، وهو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة.
بذل فيه جهداً خارقاً، واستغرق في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عاماً، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهَوَيْه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع (الجامع الصحيح).
وعدد أحاديث الكتاب 7275 حديثاً، من أصل ستمائة ألف حديث، سمعها في ست عشرة سنة. قال الفقيه نجم الدين القمولي (ت: 727 هـ) في النكت على مقدمة ابن الصلاح: «مجموع ما صح من الحديث أربعة عشر ألف حديث»، فالمتن الواحد قد يروى بسلاسل متعددة، فيعد العلماء كل سلسلة منها حديثاً، فالحديث الواحد قد يَرِد بعشرات وأحياناً بمئات الطرق؛ كما يدخل في هذا العدد ما جاء عن الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم مِنْ أقوالٍ أو أفعال أو فتاوى، أو حتى أقوال في جرح وتعديل بعض الرواة.
** ** ** **
ابتدأ البخاري تصنيفه وترتيبه وتبويبه في المسجد الحرام، وحوَّل تراجمه في الروضة الشريفة في مسجد رسول االله صلَّى االله عليه وسلَّم، وكان يصلي لكل ترجمةٍ ركعتين (مقدمة فتح الباري ٥١٣، تاريخ بغداد ٢ / ١٤، طبقات الحنابلة ١ / ٢٧٦)، مشترطاً شروطاً خاصة في الرواية، تُعدُّ من أدق شروطٍ فرضها عالمٌ على نفسه في تاريخ البحث العلمي عامة، والثَّقافةِ الإسلامية خاصة، سواء في عصره أو بعد عصره، ولهذا عرفَت هذه الشروط بشروط البخاري نسبةً إليه.
وأهم هذه الشروط شرطان:
الأول: الاعتماد التام على الأحاديثَ الصحيحة، بالمعنى الاصطلاحي المعروف عند علماء الحديث، يعني الحديث الذي اتصلَت روايته من الراوي الأخير إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون انقطاع في سلسلة الإسناد، أي الحديث المسند الذي يتصل إسناده، بنقل العدل الضابط عـن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
والشرط الثاني: شرط المعاصرةَ واللقاء في رواية الأحاديث. فلم يكتفِ البخاري - كما فعل غيره من علماء الحديث - بالمشافهة؛ أي: اشترط أن يكون الراوي عاصر الراوي الذي يروي عنه، ونقَل عنه نقلاً مباشراً. وهذا الشرط هو ما انفرد به البخاري من بين جميع علماء الحديث. ومن أجل ذلك قسَّم الرواةَ درجات:
الدرجة الأولى: أن يكون الراوي ملازماً لِمن يروي عنه في السفر والحضر - أي: الإقامة - وهذه أعلى الدرجات عنده.
الدرجة الثانية: أن يكون الراوي قد لازم من يروي عنه فترة غير قصيرة. ثمَّ تأتي بعد ذلك درجات أخرى أقلُّ من هاتين الدرجتين.
وكان اعتماده الأساس على رواة الدرجة الأولى، أمَّا رواة الدرجة الثانية فلم يأخذ عنهم أو يقبل روايتهم إلاَّ في حالاتٍ قليلة، وبشروط أخرى وضعها لنفسه؛ وهي ألاَّ يتصل الحديث بحكم ديني، أمَّا سائر الدرجات بعد ذلك، فلم يكن يقبل روايةَ أحد منهم.
ومضى البخاري في ضوء هذين الشرطين - الملازمة واللِّقاء - يصفِّي تلك المجموعة الضخمة من الأحاديث التي جمعها، وقد تمَّت تصفية هذه المجموعة تصفيةً دقيقة، فـانخفض عددها من ٦٠٠ ألف حديث إلى ٢٧٦١ حديثاً، ـ وذكرنا هذا قبل قليل ـ، وهذا العدد هو عدد الأحاديث في الصحيح بدون تكرار، أمَّا إذا أضفنا إلى هذا العدد الأحاديث المكررة في الأبواب المختلفة، والأحاديثَ التي اختلفَت روايتها في بعض ألفاظها - فإنَّ العدد يرتفع إلى ٩٠٨٢ حديثاً، وهذا العدد هو ما حقَّقه ابن حجر في مقدمته المشهورة لشرح صحيح البخاري، ويدلل على منتهى الدقَّة التي قام عليها هذا الجهد الجليل.
فالبخاري لم يحاول أن يتكثَّر من الأحاديث في كتابه، أو يتزيد فيها، أو أن يملأ الأبواب التي قسَّم إليها الكتاب، بل كان مقيداً ملتزماً بشروطه التي وضعها لنفسه، يطبقها بكلِّ دقَّة وأمانة. وساعده على ذلك، وهيَّأ له أن يصِل إلى هذا المستوى العالي من الضبط والدقَّة والإتقان - أمران:
الأول: قوة حافظته؛ فكلُّ من ترجم له وتحدث عنه، نوَّه لهذه الذَّاكرة القوية التي لم تكن تنسى أي شيء يستقر فيها. فأهل بغداد حينما سمِعوا بمدى حِفظه ودقَّته، وذيوع صيتِه وشهرته أراد أهلُ الحديث فيها امتحانه، فعمدوا إلى مائة حديثٍ، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا وإسناد هذا لمتن ذاك، ودفعوا إلى كلِّ واحد عشرةَ أحاديث ليلْقوها عليه في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فقام وسألَه عن حديثٍ من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، ثمَّ سأل عن آخر، فقال: لا أعرفُه، حتى فرغ من العشرة والبخاري يقول: لا أعرفه، ثمَّ انتدب آخر من العشرة، فكان حاله معه كذلك إلى تمام العشرة، والبخاري لا يزيدهم عن قوله: لا أعرفه.. وهكذا حتى تمام المائة حديث.
فكان الفقهاءُ يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهِم، وأمَّا غيرهم فلم يدرِكوا ذلك. ولمَّا فرغوا من إلقاء الحديث عليه، التفت البخاري إلى الأول فقال: أمَّا حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني كذا.. إلى آخر العشرة، وأتبع بتمام المائة حديث: رد كلَّ متنٍ إلى إسناده، إلى أن فرغ، فأقر له الناس بالحفظ والضبط والإتقان.
(تاريخ بغداد 2 / 20، تهذيب الكمال 24 / 456، سير أعلام النبلاء 12 / 408).
أمَّا الأمر الثاني: فهو سعة عِلمه واطِّلاعه في علم الحديث ومعرفة رواته. فكلُّ رواة الحديث كان يعرف عنهم معلوماتٍ تتيح له الحكم علـيهم بـالتوثيق أو التجريح (وذكرنا قبل قليل أنه ألَّف كتاباً في تاريخ رواةِ الحديث أسماه "التاريخ الكبير ").
كما لم يتعجل إخراج كتابه للناس بعد أن فرغ منه، فعاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ لذلك فقد صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن. قال الإمام النووي (ت: 676 هـ): « اعلم أن البخاري رحمه الله تعالى كان بالغاية المرضية من التمكن في أنواع العلوم، ولا يكاد أحد يقاربه في دقائق الحديث واستنباط اللطائف منه، وإذا نظرت في كتابه جزمت بذلك بلا شك، ثم ليس مقصوده بهذا الكتاب الاقتصار على الحديث وتكثير المتون، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال لأبواب أرادها من الأصول والفروع والزهد والآداب والأمثال وغيرها من الفنون».
فصحيح البخاري كتابُ حديثٍ وفقهٍ أيضاً، اعتنى فيه الإمام البخاري بفقه الآيات والأحاديث، واستنباط المعاني منها، وإيرادها في الأبواب التي يترجم لها. قال ابن حجر (ت: 852 هـ): « التزم البخاري في كتابه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلاَّ حديثاً صحيحاً، هذا أصل موضوعه، ثم رأى أن لا يُخْليه من الفوائد الفقهية والنكت الحُكمية».
وقال بدر الدين ابن جماعة (ت: 733 هـ): « أجمع أهل العلم كلهم سلفاً وخلفاً أنَّ معظم مقصود البخاري في صحيحه، مع اهتمام صحة الأحاديث، استخراج المعاني الكثيرة من المتون»، ولذلك تنوَّع أسلوبه في صحيحه:
– فقد يكرر الحديث الواحد في أبواب عدة، مبيناً في كل موضع ما اشتمل عليه الحديث من فقه ومعنى. قال ابن طاهر القيسراني أبو الفضل المقدسي (ت: 507 هـ): «اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه»، ومن شواهد ذلك، وشواهده مستفيضة: حديث السيدة عائشة عن الحيض برقم (290)، كرره في ثلاثة وعشرين موضعاً، وحديث أنس بن مالك وقت فتح خيبر برقم (364)، كرره في واحد وعشرين موضعاً، وحديث السيدة عائشة عن سفر الرسول صلى الله عليه وسلم برقم (2453)، كرره في عشرين موضعاً. وهي ميزة لم يشاركه فيها غيره على نحو صنيعه، وجهدٌ ذهني مضنٍ، يدل على ثاقب فهمه وفقهه، وعلى حسن اختياره في المسألة التي تضمنها الحديث.
– وقد يقتصر في بعض الأبواب على آيات من القرآن الكريم التي لها صلة بموضوع الباب، ولا يذكر معها شيئاً آخر، قال ابن حجر (ت: 852 هـ): « اعتنى البخاري في كتابه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة».
– وقد يذكر تحت بعض الأبواب أحاديث معلقة (وسيأتي التفصيل بهذا)، فيذكر متن الحديث بغير إسناده، إمَّا لكون الإسناد معلوماً، وإمَّا لكونه قد أورده في مواضع أخرى من صحيحه، وقد يورد بعض المعلقات بصيغة التمريض إشارة إلى تضعيفها، وقد لا يذكر في بعض الأبواب الإسناد والمتن ويقتصر على قوله: «فيه حديث فلان»، لكون الحديث معلوماً مشهوراً. وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها.
– وقد يذكر في تراجم الأبواب أشياء من فتاوى الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
أي أنه قسَّم كتابه "الصحيح" حسب موضوعات الحديث؛ ولم يقف عند الأساس الفِقهي وحده الذي خضع له مالك في كتابه "الموطأ"، وإنما وسع دائرةَ منهجه فجعلها تشمل كلَّ الموضوعات التي تتضمنها أحاديثُ رسولِ االله صلى االله عليه وسـلم.
فأساسه موضوعي يقوم على تقسيم الكتاب إلى أقسام يتضمن كلُّ قسمٍ منها الأحاديث المشـتركة في موضوعٍ واحد، فكانت تقسيماته إلى كتب بلَغ عددها ٩٧ كتاباً، وقسم هذه الكتب إلى أبواب بلَغ عددها ٣٤٥٠ باباً، وكان أول كتابٍ هو كتاب بدء الوحي، ثمَّ كتاب الإيمان، ثمَّ كتاب العلم.. وهكذا تتوالى الكتب المتعددة، المختلِفة باختلاف موضوعات الأحاديث نفسها.
وقد اعتنى العلماء ببيان ذلك، حتى ألَّف بعضهم كتباً مستقلة في شرح أبواب البخاري، وبيان فقهه فيها، وذلك أمر معروف مشهور لا يخفى على عالم أو طالب علم.
معلقات البخاري في الصحيح
الحديث (المعلق) ـ وأشرنا إليه قبل قليل ـ هو ما حُذف من مبتدأ إسناده راوٍ أو أكثر. كأنْ يُحذف جميع الإسناد، فيقال مثلاً: (قال رسول الله ﷺ)، أو أن يُحذف جميع الإسناد إلاَّ الصحابي، أو التابعي، سواء أكان المحذوف واحداً أم أكثر على التوالي، ولو إلى آخر السند، كقول الشافعي: قال نافع، أو قال ابن عمر، أو قال النبي ﷺ.
وأول من أطلق هذا الاصطلاح هو الحافظ الدارقطني (ت: 385 هـ)، ثم اشتهر على لسان المحدثين، ويقع هذا كثيراً عندهم، فهم يحذفون السند أحياناً ويقصدون به الاختصار، أو يذكرون حديثاً تقوية للاستدلال على موضع الباب ولا يكون على شرط المصنف (مقدمة ابن الصلاح 10).
وسُمّي (المعلق) بهذا الاسم؛ كأنه مأخوذ من تعليق الجدار أو الطلاق؛ لاشتراكهما في قطع الاتصال، ولم يستعملوه فيما سقط وسط سنده، أو آخره لتسميتهما ذلك النوعين بالمنقطع والمرسل، كما لا يستعملونه في غير صيغة الجزم مثل أن يقال: يروى عن فلان، ويذكر عنه، وشبه ذلك.
والبخاري أورد الحديث (المعلق) كثيراً في "صحيحه"، وهي فيه أقسام:
- منها ما يوجد موصولاً في موضع آخر، فيكرره مختصراً في الإسناد خشية التطويل. ويدخل في هذا ما لم يحصل عنده مسموعاً، أو سمعه وشك في سماعه له من مشايخه، أو سمعه من شيخه مذاكرة.
- ومنها ما لا يوجد فيه إلاَّ معلقاً، وهو على صورتين: إمَّا أن يورده بصيغة الجزم، وإمَّا أن يورده بصيغة التمريض. فالصيغة الأولى يُستفاد منها الصحة إلى من علّق عنه، وإنما أورده معلقاً لأن رجال ذلك الحديث، منهم ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق. أو أن يكون الحديث في إسناده ضعف أو انقطاع لكنه يكون منجبراً: إمَّا بمجيئه من وجه آخر، وإمَّا بشهرته عمن قاله.
وأمَّا ما كان بصيغة التمريض فلا يوجد فيه ما هو على شرطه إلاَّ القليل، وفيه الصحيح والحسن والضعيف. والضعيف يبين ضعفه ويصرح به، حيث يورده في كتابه. وإنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات؛ بغرض الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها خلاف بين الأئمة. وقد وصل هذه المعلقات ابن حجر في "تغليق التعليق"، ذكر فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة، وذكر من وصلها بأسانيده إلى المكان المعلق (النكت على كتاب ابن الصلاح 1 / 325).
نُسَخ صحيح البخاري
تناثَرتِ الأسانيد المتصلة إلى الإمام البخاريِّ في كل حدب وصوب؛ بحيث نجد اليوم مئات الألوف المُجازِينَ في الصحيح مِن قارَّات الدنيا الخمس. لاهتمام المحدثين بالصحيح، والعناية به عناية خاصة تليق بمكانته الكبيرة في نفوسهم. وقد تجلت أولى مظاهر هذا الاهتمام في كثرة المتلقين لهذا الكتاب عن مصنفه. فهو مرويٌّ بالتواتر: رواه جمعٌ كثير عن جمعٍ كثير، يُعَدون بالألوف في جميع طبقات الإسناد إلى الإمام البخاري. قال محمد بن يوسف الفَرَبْرِيُّ (ت: 320 هـ) تلميذ البخاري، المحدث الثقة: سمع كتاب الصحيح تسعون ألف رجل، وفي رواية سبعون ألف رجل (تاريخ بغداد 2 / 9، التقييد 1 / 131، معجم البلدان 4 / 246). ولعل أشهر روايات المغاربة لـ (الجامع الصحيح) هي التي ذكرها الإمام محمد بن خير الإشبيلي (ت: 575 هـ) في كتابه فهرست ابن خير (94 ـ 98).
نسخة اليونيني وطبعات الكتاب
تعد نسخة الإمام الحافظ، محدث الشام عليّ بن أحمد اليُونِيني (ت: 701 هـ) من أحسن النسخ وأدقها. قال الذهبي (ت: 748 هـ): استنسخ صحيح البخاري وحرره، وحدثني أنه قابله في سنة واحدة، وأسمعه إحدى عشرة مرة، وقد ضبط رواية الجامع الصحيح، وقابل أصله الموقوف بالمدرسة الأقبغاوية في القاهرة المعزية بأصل مسموع على الحافظ أبي ذر الهروي، وبأصل مسموع على الأصيلي، وبأصل الحافظ مؤرخ الشام أبي القاسم ابن عساكر، وبأصل مسموع عن أبي الوقت، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي ابن مالك (ت: 672 هـ) صاحب الألفية في النحو.
وحرر الإمام اليونيني نسخته أحسن تحرير، وكان ابن مالك حضر المقابلة، وكان إذا مرَّ بلفظ يتراءى له أنه مخالف لقوانين العربية قال لليونيني: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه.
وفي سنة (1311 هـ / 1893 م)، صَدَر الأمر السلطاني إلى مشيخة الأزهر بالقاهرة من قِبَل السلطان عبد الحميد الثاني بطباعة هذه النسخة، فقامت لجنة بتحقيق النص وضبطه على عدة نسخٍ مضبوطةٍ مصحَّحة، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن حال الأصول التي اعتمدوها. فعاود بعض المحققين من العلماء إعادة النظرَ ـ بين المدة والأُخرى ـ في ضبط نصها، أو ضبط رموز الروايات التي لا تخلو من وقوع بعض الاشتباه في قراءتها، أو في تحديد مواطن ورودها، أو إبداء بعض الملاحظات وتوجيه بعض الانتقادات إليها، بالاعتماد على نسخ جديدة وقفوا عليها لم يكن محققو السلطانية قد اعتمدوا عليها، أو لم يروها وقت مباشرتهم العمل، كما في الطبعة التي أشرف عليها الشيخ أحمد محمد شاكر، أو معتَبِرين لبعض الفوائد العلمية المتممة لجهود محققي السلطانية والتي لا دخلَ لها بضبط اليونينية؛ كالإحالة إلى مَن وافق البخاري في تخريج الحديث مِن باقي أصحاب الكتب الستة، أو ربط الكتاب بأهم شروحه، كما هو الحال في الطبعة التي قدَّم لها الشيخ محمد زهير الناصر، أو مراعِين لتنسيق فصول وتقاسيم الصحيح (الكتب والأبواب) مما أخلَّ به مَن سبقهم إلى تحقيق الصحيح، كما في الطبعة التي قدَّم لها العلامة عبد الغني عبد الخالق.
ثم ارتأت دار الكمال بالرياض إعادة العمل في تحقيق النسخة اليونينية، لوقوفها على بعض فروع اليونينية العالية الجودة والبالغة الدقة والفائقة الضبط والإتقان، بالاعتماد على أصل خطي نفيس، مُعتنى به، عليه قراءات كِبار أئمة العلم؛ منهم: أبو حيان النحوي، وابن التركماني، وابن سيد الناس، والحافظ العراقي، والبُلقيني، وابن الملقن، والهيثمي، وأبو زرعة العراقي، والدجوي، والأشموني، والأديب المؤرخ أحمد بن عبد الوهاب النويري. وبالوقوف على أصول تُقارب الأصول التي اعتمدها الإمام اليونيني نفسه في ضبط نسخته.
ولعل أقدم نسخة من الصحيح معروفة حتى الآن القطعة التي نشرها المستشرق منجانا في كمبردج عام 1936م، المكتوبة عام 370 هـ، برواية المروزي عن الفربري (تاريخ التراث لفؤاد سزكين 1 / 228).
الأحاديث التي انتقدها الدارقطني في العلل على الصحيح
انتقد الإمام الدَّارَقُطني (ت: 385 هـ) في كتابه العلل على صحيح البخاري، ستةً وثلاثين حديثاً، ردها الحافظ ابن حجر العسقلاني في (هدي الساري 347)، ومعنى انتقاده لتلك الأحاديث، أنها لم تبلغ في الصحة الدرجة العليا الـتي التزمها البخاري في كتابه، وأمَّا صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحدٌ فيها، لوروده من جهات أخرى صحيحة سالمة من العلل.
فمن الأحاديث التي انتقدها الدَّارَقُطني حديث عبد الله بن مسعود، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، قال: أتَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أنْ آتيه بثلاثة أحجار، فوجدتُ حَجَرَيْن والتمستُ الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس.
ووجه انتقاد الإمام الدَّارَقُطني لهذا الحديث: الاختلاف الشديد على أبي إسحاق السَّبِيعي، فصار الحديث بهذا الاختلاف مضطرباً. وقد أعله أيضاً الإمام الترمذي في سننه فقال: وهذا حديث فيه اضطراب، وسألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا؟ فلم يقض فيه بشيء (سنن الترمذي 1 / 25).
والجواب: أن ظاهر سياق رواية زهير بن معاوية يشعر بأن أبا إسحاق كان يرويه أولاً عن أبي عبيدة عن أبيه، ثم رجع عن ذلك وصيره عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، فهذا صريح في أن أبا إسحاق كان مستحضراً للسندين جميعاً عند إرادة التحديث، ثم اختار طريق عبد الرحمن وأضرب عن طريق أبي عبيدة، فإمَّا أن يكون تذكر أنه لم يسمعه من أبي عبيدة أو كان سمعه منه وحدث به عنه ثم عرف أنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فيكون الإسناد منقطعاَ، فأعلمهم أن عنده فيه إسناداً متصلاً. وإذا تقرر ذلك لم يبق لدعوى التعليل عليه مجال؛ لأن روايتي إسرائيل، وزهير لا تعارض بينهما إلاَّ أن رواية زهير أرجح؛ وبه يظهر نفوذ رأي البخاري وثقوب ذهنه. وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة ما يشهد لصحة حديث ابن مسعود فازداد قوة بذلك. قال ابن حجر: فانظر إلى هذا الحديث كيف حكم عليه بالمرجوحية مثل: أبي حاتم وأبي زرعة وهما إماما التعليل، وتبعهما الترمذي وتوقف الدارمي وحكم عليه بالتدليس الموجب للانقطاع، ومع ذلك فتبين بالتنقيب والتتبع التام أن الصواب في الحكم للبخاري بالراجحية (هدي الساري 472). ومعلوم أن مجرد الخلاف لا يعني الاضطراب في الحديث وهذا لا خلاف عليه بين المحدثين، قال الحافظ العراقي (ت: 806 هـ): وإنما يسمى مضطرباً إذا تساوت الروايتان المختلفتان في الصحة بحيث لم تترجح إحداهما على الأخرى، أمَّا إذا ترجحت إحداهما بكون راويها أحفظ، أو أكثر صحبة للمروي عنه، أو غير ذلك من وجوه الترجيح؛ فإنه لا يطلق على الوجه الراجح وصف الاضطراب ولا له حكمه، والحكم حينئذ للوجه الراجح (شرح التبصرة والتذكرة 1 / 240).
وبنحوه: حديث سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى.
قال الدارقطني: اختلف فيه على سعيد المقبري، واختلف عن المقبري فقال: عن أبي هريرة.
والصحيح أن للمقبري فيه إسناد آخر، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من رواية صالح بن كيسان، عن سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة، وإذا تقرر ذلك عرف أن الرواية التي صححها البخاري أتقن الروايات (هدي الساري 476).
وبنحوه أيضاً: حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة.
قال الإمام الدارقطني، أن سعيد المقبري رواه مرة عن أبيه عن أبي هريرة، ومرة عن أبي هريرة ولم يدخل أبيه، فأشكل أن سعيداً لم يحفظ الحديث.
والجواب عن هذا الاختلاف إن سعيداً المقبري سمع من أبيه عن أبي هريرة، وسمع من أبي هريرة، فلا يكون هذا الاختلاف قادحاً. وقد اختلف فيه على مالك فرواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث بشر بن عمر عنه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وقال بعده: لم يقل أحد من أصحاب مالك في هذا الحديث عن سعيد عن أبيه غير بشر بن عمر. وقد أخرجه أبو عوانة في صحيحه من حديث بشر بن عمر أيضاً وصحح ابن حبان الطريقين معاً (هدي الساري 478). قال ابن حجر: ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب، فإنَّ جميعها وارد من جهة أخرى (هدي الساري 469).
** ** ** **
انتقاد لُكْع أقزام المعاصرين لصحيح البخاري
انتشرت في أيامنا شبهات كثيرة حول أحاديث البخاري، وقد أضربتُ صفحاً عنها في البدء لابتعادها عن البحث الجاد، وتناولها متون الأحاديث من باب (الرفض العقلي)، أو تعارضها مع ثورات علوم العصر، دون دراسة أسانيدها، أو فهم مدلولات متونها. لكنني ـ مع اشتداد أوار تلك الهجمة اليائسة لزعزعة ثوابت السنة النبوية الشريفة ـ أحببت إعادة قراءة تلك الأحاديث، لإزالة اللبس عنها، بهدف الوصول إلى راحة اليقين لطالبي الحقيقة، دون بهرجة، أو ضجيجٍ، أو هوى، أو حقدٍ، أو دهاءَ أزرقَ أرعن، أو لجاجةٍ، أو خبْطٍ وخلْطٍ وأشياء أخرى. مع ملاحظة أن الأحاديث التي أوردوها ليست هي من التي انفرد بها البخاري، فبان بذلك أنهم يريدون هدم السُّنة بتمويه غبي. قال السيوطي (ت: 911 هـ): الحديث الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم مسلم، ثم على شرطهما ولم يخرجه واحد منهما، ثم على شرط البخاري، ثم مسلم، ثم صحيح عند غيرهما مما أخرجه الأئمة الذين التزموا الصحة (تدريب الراوي 64).
= فمن الأمور التي شنع بها بعض مُدَّعي العلم على الإمام البخاري ذكره لبعض الأقوال الفقهية في كتاب النكاح تحت باب ما يحل من النساء وما يحرم. والعلماء إنما يذكرون في كل باب ما يتعلق به من أحكام، فما أغرب بعض العقول التي تجهل حتى بدائه الأمور! فيقال لهؤلاء المستنكرون: هل تستنكرون على البخاري إيراد هذه الأقوال الفقهية في صحيحه، أم تستنكرون هذه الأقوال نفسها؟
فإن قالوا بالأول قيل لهم: إن ذلك ليس بمستنكر، ولا عيب على الإمام البخاري أن يذكر في صحيحه إلى جانب أصل موضوعه وهو إيراد الأحاديث الصحيحة ما تيسر من فتاوى الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، إمَّا على وجه الاحتجاج أو على وجه التضعيف والرد، ويجعل كتابه جامعاً للرواية والدراية، حتى إنه اعتنى بشرح غريب ألفاظ القرآن والحديث، وكل ذلك واضح لا يلتبس على أحد، فالأحاديث النبوية واضحة، وأقوال الصحابة والتابعين واضحة، لا يلتبس هذا بذاك، فأي إشكال على الإمام البخاري في ذلك!
فإن قالوا: إننا نستنكر إيراد هذه الأقوال نفسها سواء ذكرها البخاري أو غيره، فيُقال لهم: إن مشكلتكم إذن ليست مع الإمام البخاري، بل مع العلماء كافة، وإنه لعجيب منكم أن تمنعوا العلماء والفقهاء من بيان الأقوال الفقهية ومناقشتها وبيان الراجح فيها والمرجوح! فما دور العلماء إذن؟!
فالعلماء في سائر الميادين عندما يتناولون المسائل فإنهم يتكلمون عنها وفق ما يقتضيه المجال والسياق والجزئية التي هم بصددها فيتناولون أبواباً عدة ومسائل متنوعة، فيتناولون أحكام الطهارة والصلاة وبقية العبادات والمعاملات والنكاح وغيرها، فيذكرون في كل باب ما يتعلق به من أحكام، فقول الفقيه مثلا في كتاب الصلاة: إن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة، لا يستلزم منه أن الغصب عنده عمل مباح! وإنما هو يتكلم هنا فقط عن صحة الصلاة من عدمها، لأنه يتحدث عن أحكام الصلاة! والكلام على الغصب وبيان جرمه وإثمه له باب خاص به، وهكذا كلام العلماء في أبواب المحرمات من النساء، وفي سائر الأبواب، إنما يتناولون الأحكام المتعلقة بهذه الأبواب، كما هو شأن علماء الدين والدنيا في كل الميادين.
** ** ** **
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين. فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلَّى (صحيح البخاري 608، 1222، صحيح مسلم 389).
فعابوا ـ وبهم العيب لأنهم لا يفهمون الكلام ـ قوله صلى الله عليه وسلم:" أدبر الشيطان له ضراط"، مع أنه دلالة لجواز التصريح وعدم الكناية عن ألفاظ المعايب المستقبح سماعها إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى التصريح بها.
و(الشيطان) غيبٌ، وأحواله أيضاً غيب، مثل حقيقة صورة الملائكة والجنة والنار.. والعقل البشري محدود، لن يُدرك كنه الشيطان، وأحواله، إلاَّ بالخبر الصحيح، مع أنه صعبٌ، حتى بالخبر الصحيح نقل ماهية حقيقة الصورة. قال ابن عباس: ليس في الجنة شيءٌ مما في الدنيا إلاَّ الأسماءُ (الجامع الصغير 7614 وإسناده صحيح)، لذلك اختلف العلماء في شرح الحديث: هل يحمل على ظاهره وأنه ضراط حقيقة، أم هو ليس حقيقة وإنما كناية عن شدة هربه وخوفه عند إدباره. قال ابن رجب (ت: 795 هـ): ضراط الشيطان محمول على ظاهره عند كثير من العلماء، ومنهم من تأوله، ولا حاجة لذلك (فتح الباري لابن رجب 5 / 215).
والفائدة من الحديث الدلالة على فضل الأذان وعلو قدره، وعظيم أثره حتى أن الشيطان يلحقه منه هول كبير في حاله حين يفر وله ضراط، وذلك لشدة كلمة التوحيد عليه وإظهار شعائر الإسلام فيدبر بعيداً (عمدة القاري 5 / 112)، وفهم بعض السلف الإتيان بالأذان ولو بدون صلاة عند الخوف من الشياطين، مع أنَّ ليس في الحديث ما يدل صراحة على ذلك.
والفائدة الثانية: أن من أسباب السهو في الصلاة، وسوسة الشيطان للعبد، ومشروعية سجود السهو عند الشك في عدد ركعات الصلاة.
والفائدة الثالثة: حرص الشيطان على الإخلال بصلاة العبد وذهاب خشوعه بتذكيره مالم يذكر، وبالتلبيس عليه حتى لا يدري كم صلى.
والفائدة الرابعة: الزجر عن خروج المرء من المسجد لغير حاجة حال الأذان وبعده لئلا يشابه الشيطان الذي يفر عند سماع الأذان، وجاء النهي فيه صريحاً في صحيح مسلم من حديث أبي الشعثاء قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة رضي الله عنه فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة رضي الله عنه بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة رضي الله عنه:" أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ".
= وبنحوه حديث عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنه (صحيح البخاري 1144، 3270، صحيح مسلم 774). فقد اختلف في معنى بول الشيطان في أذن النائم عن الصلاة هل هو حقيقة، أم إنه كناية وليس حقيقة، قال ابن حجر في فتح الباري: واختلف في بول الشيطان، فقيل: هو على حقيقته. وقال القرطبي، وغيره: لا مانع من ذلك؛ ولا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح، فلا مانع من أن يبول.
وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، فيملأ سمعه بالأباطيل، ويحجب سمعه عن الذكر.
وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به.
وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه، واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول؛ إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه.
وقيل: هو مثل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم، كمن وقع البول في أذنه، فثقل أذنه، وأفسد حسه، والعرب تكني عن الفساد بالبول، قال الراجز:
بال سهيل في الفضيخ ففسد
والنجم سهيل ربط العرب ظهوره بالسماء بتراجع فصل الصيف، فعند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ، وهو من النُّجوم اليمانية. والفضيخ: عصير العنب، فكنى ببول سهيل عن طلوعه؛ لأنه وقت إفساد الفضيخ، فمع طلوعه ينقطع ويذهب البسر ويصير رطباً، فيفسد الشراب.
وفائدة الحديث هي التنفير من هذا الفعل الذي يفوت على المسلم الخير الكثير.
** ** ** **
وشككوا في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم (صحيح البخاري 644، 2420، 7224، صحيح مسلم 651).
فهل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحرق بيوت الناس؟ والجواب: إن الحديث ورد في المنافقين، فليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر، والمراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء. ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلاَّ منافق " رواه مسلم. والحديث حث على الصلاة في الجماعة مع المسلمين في بيوت الله وهي شعار الإسلام، فالواجب على كل مكلف أن يعتني بذلك وأن يبادر ويسارع إلى إقامة الصلاة في الجماعة مع المسلمين، وأن يتباعد عن مشابهة أهل النفاق.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بوجوب الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها. والجمهور على أنها سنة. وعلى كلّ حال فالغلظة ليست مطلقاً مذمومة، فقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ ـ التوبة ۷۳ ـ، فقد كان صلّى الله عليه وسلم مأموراً بالغلظة مع المنافقين، وأمر بذلك. فالغلظة لها موقعها واللين والرأفة لهما موقعهما، ولا إفراط ولا تفريط، ولكلّ موازين وموارد.
** ** ** **
كما شككوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أما يخشى أحدكم أو ألا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار (صحيح البخاري 691، صحيح مسلم 427).
قال: الباجي (ت: 474 هـ): معنى الحديث: الوعيد لمن رفع رأسه وخفضه في صلاته قبل إمامه، وإخبار عنه أن ذلك من فعل الشيطان، وأن انقياده وطاعته إياه في المبادرة بالخفض والرفع قبل إمامه انقياد لمن كانت ناصيته بيده، وهو الشيطان. وقال النووي (ت: 676 هـ) في شرح مسلم لهذا الحديث: هذا كله بيان لغلظ تحريم ذلك.
وقال المباركفوري (ت: 1353 هـ / 1934 م): في تحفة الأحوذي: يحتمل أن يرجع إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام.
** ** ** **
وذكروا الاختلاف في حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وعن حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة (صحيح البخاري 645، صحيح مسلم 650) وأن ذلك تناقض في الحديث.
والصحيح أن لا منافاة بينهما؛ فإن أقلَّ فضلٍ لصلاة الجماعةِ على صلاة الفذِّ هو خمس وعشرين درجةً، وقد تزيد إلى سبع وعشرين، وإلى ما شاء الله عز وجل، بحسب كثرة الجماعة، أو فضل المكان، أو إتقان الصلاة، أو غير ذلك. ويستفاد من ذلك: فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ، وصحةُ صلاة الفذِّ.
** ** ** **
واستنكروا خبر رجم القرود للقرد الزاني.
والبخاري لم يرتب كتابه عشوائياً، فهو يرتب الأحاديث لغرض مقصود لذاته: فعندما وضع مثلاً أبواب الحج قبل أبواب الصيام، كان ذلك لاعتماده حديث: «بني الإسلام على خمس..»، وفيه: « والحج وصوم رمضان»، فقدم معظم رواة الحديث الحج على الصوم، وليس الصوم ثم الحج آخراً كما يعتقد الكثير من الناس، فرتبه البخاري على ذلك.
أمَّا خبر رجم القرود للقرد الزاني، فأخرجه البخاري باختصار، والإسماعيلي مطولاً،
وإسناد المختصر أصح من المطول. فحكى فيها عمرو بن ميمون مراقبته لمجموعة قرود، وكيف أن قردة زنت بقرد آخر غير زوجها الذي كانت تنام بجواره، فشمها زوجها، فعلم أنها خانته، فصاح بها، فجاء قطيع القرود فرجموها بالحجارة، فرجمها عمرو معهم.
وعمرو بن ميمون إنما يصف حالة رآها بعينه أيام جاهليته، وذاك مراد البخاري من عبقريته في التبويب، ومن فقهه بالأخبار، فكل الأحاديث التي قبل هذا الأثر، كانت شرحاً لصفات للناس وما كانوا يفعلونه قبل الإسلام. وعليه فالأبواب هي لأيام الجاهلية، توطئة لأبواب "مبعث النبي صلى االله عليه وسـلم ومجيء الإسلام"، فبعد أن ينتهي من وصف أيام الجاهلية وما كان عليه الناس، وما بُعث به محمد صلى االله عليه وسلم، وما جاء به الإسـلام من أشياء خالف فيها ما كانت عليه الجاهلية، وأشياء أخرى أقرها، أتى بالأثر للاستدلال بالكلمة الأخيرة منه: فرجموها فرجمتها معهم. فليس مراده الاستدلال على حكم الرجم في الزنا بفعل القرود، وإلاَّ لوضع الأثر في أبواب الزنا، فالقرود غير مكلَّفة، ولا يصح الاستدلال بمثله، لكنه أراد أن يقول: إن العرب في الجاهلية كانوا يقحمون أنفسهم حتى في شـؤون الحيوان، والإسلام لم يأمر بهذا، بل كرَّم الإنسان ونزهه عن مثل هذه الأفعال: فكيف يُقحم الإنسان نفسه في تصرف الحيوانات وسلوكها ليكون كواحد منهم؟ فهذا ليس من العقل في شيء، ولا من الإسلام في شيء.
فالأثر ـ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام أحد من أصحابه، وعمرو بن ميمون الأودي توفي سنة (74 هـ)، أدرك الجاهلية والنبوة وأسلم، لكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فعداده من المخضرمين من كبار التابعين. ومعلوم أن السنة النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي يجب الإيمان بها والتسليم بما جاء فيها، أما ما يحكيه أحد التابعين عن مشاهدته فلا يرتقي إلى منزلة السنة النبوية بأي حال من الأحوال. فلا حرج على من تشكك في توهم عمرو بن ميمون في وقوع الرجم على السفاد بين القردة، لأنه لم يكن يفهم منطق القردة، وإنما ظنَّه، وذلك يمكن مخالفته فيه، وعدم التسليم به. قال ابن قتيبة (ت: 276 هـ): إن حديث القرود ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، وإنما هو شيء ذُكر عن عمرو بن ميمون.. وقد يمكن أن يكون رأى القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها زنت، وهذا لا يعلمه أحد إلاَّ ظناً؛ لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن، هذا ظن، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه، فإن القرود أزنى البهائم، والعرب تضرب بها المثل فتقول: أزنى من قرد، ولولا أنَّ الزنا منه معروف ما ضربت به المثل، لكن ليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج والغيرة منه، والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض، ويعاقب بعضها بعضاً، فمنها ما يعض، ومنها ما يخدش، ومنها ما يكسر ويحطم، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان، فإنْ كان إنما رجم بعضها بعضاً لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد، وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضاً ببعيد، لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة، وأقربها من بني آدم أفهاماً (تأويل مختلف الحديث 255). وقال ابن عبد البر (ت: 463 هـ): هذا عند جماعة أهل العلم منكر: إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1206).
وقال ابن حجر (ت: 852 هـ): لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا، والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة، وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان (فتح الباري 7 / 160).
** ** ** **
وطنطنوا في رضاع سالم مولى أبي حذيفة (ت: 12 هـ) من زوجة أبي حذيفة وهو كبير، وأجنبي، وكيف جاز أن يكون الرَّضاع بعد الحولين.
ونص الحديث أخرجه الإمام مسلم (ت: 261 هـ)، من حديث السيدة عائشة (ت: 57 هـ)، قالت: جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دُخول سالم وهو حليفه ! (وكان سالم يقضي لهم الحوائج ويدخل عليهم ويكلمهم، وقد بلغ ما يبلغ الرجال وعلم ما يعلمونه، فلما بطل التبني كأنه صار في نفس أبي حذيفة شيء)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرْضعيه». قَالتْ: وكيف أُرْضعُه وهو رجل كبير؟ فتبسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قَدْ علمتُ أنه رجلٌ كبير (أرضعيه تحرمي عليه)». وزَادَ عَمْرٌو في حديثه: وكان قد شهد بَدْراً. وفي رواية محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني (ت: 243 هـ): فضَحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام مسلم في صحيحه، من حديث السيدة أم سلمة هند بنت أمية المخزومية (ت: 61 هـ) زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، أن سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أبين أَنْ يُدْخِلْنَ عليهن أحداً بتلك الرَّضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلاَّ رُخْصة أَرْخَصها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لسالم خَاصَّةً، فما هُوَ بداخِل علينا أَحدٌ بهذه الرَّضاعة ولا رائينا.
فإرضاع سالم هي واقعة عين لا عموم لها، ولا تصلح إلاَّ في نفس ظروفها.
وجعله كثيرٌ من أهل العلم منسوخاً، لما دلَّت على خلافه آية الحولين، والأحاديث الموافقة لها، كالحديث الصحيح المتفق عليه: «إنما الرضاعة من المجاعة»، أي لمن اشتد جوعه. قال مالك بن أنس (ت: 179 هـ): الرَّضاعة، قليلُها وكثيرُها إذا كان في الحولين تحرِّم. فأمَّا ما كان بعد الحولين، فإن قليله وكثيره لا يحرِّم شيئاً، وإنما هو بمنزلة الطعام (الموطأ 604، الاستذكار 18 / 257)، وهو قول عبد الله بن مسعود (ت: 32 هـ)، وعلي بن أبي طالب (ت: 40 هـ)، وعبد الله بن عباس، (ت: 68 هـ)، وعبد الله بن عمر (ت: 73 هـ)؛ ومن التابعين: عروة بن الزبير (ت: 93 هـ)، وسعيد بن المسيَّب المخزومي (ت: 94هـ)، ومجاهد بن جبر المكي (ت: 104 هـ)، وطاوس بن كيسان اليماني (ت: 106 هـ)، والحسن بن يسار البصري (ت: 110 هـ)، وعطاء بن أبي رباح (ت: 114 هـ)، وغيرهم. عمدتهم قوله تعالى: ﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة﴾ - النساء: 23 - فعُلِّق التحريم بالإرضاع من غير تقدير بقدر معين، ولم يُخص قليل الرَّضاعة من كثيرها، فيُعمل به على إطلاقه.
ورجح ابن حزم (ت: 456 هـ) حديث سالم على غيره باعتبار المتن، لتضمُّنه حكماً
زائداً. ومال إلى ذلك ابن تيمية (ت: 728 هـ) فجمع بين الأحاديث من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ، ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلَّت عليه الأحاديث (سبل السلام 1 / 170)، وعليه فمن كان في مثل حالة سالم جاز له ذلك، رغم استحالة حدوثه، وذلك لبطلان التبني في الإسلام.
الطريقة التي رضع بها سالم
الرضاعة في اللغة تحتمل طريقتين: إمَّا التقام الثدي، أو إمَّا شرب اللبن بالقدح بعد حلبه من الثدي.
فقصْرُ معنى الرضاعة على (التقام الثدي) فقط هو قول خاطئ؛ قال عمر بن الخطاب في حديثه: «اللبن لا يموت». يعني أن الصبي إذا رضع من لبن امرأة ميتة حرم عليه من ولدها وقرابتها ما يحرم عليه منهم لو كانت حيَّة؛ وقيل معناه: إذا فصل اللبن من الثدي وأسقيه الصبي فإنه يحرم به ما يحرم بالرضاع، ولا يبطل عمله بمفارقة الثدي. فإن كلَّ ما انفصل من الحي ميت إلاَّ اللبن والشعر والصوف لضرورة الاستعمال (مصنف عبد الرزاق رقم 8784، لسان العرب: موت). وروى محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري (ت: 157 هـ)، عن أبيه عبد الله بن مسلم قال: كانت سهلة تحلب في مسعط قدر رضعة فيشربه سالم في كل يوم، حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها، رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة (الموطأ 626، بإسناد فيه الواقدي)، والواقدي: متهم، ولا يهم ضعف الإسناد ها هنا، إذ لا يعارض الحديثُ الحديثَ الصحيح، وهو للاستئناس لا للاحتجاج.
وقال القاضي عياض بن موسى الأندلسي (ت: 544 هـ) في قوله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه»: لعلها حلبته، ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما. ويحتمل أنه عفي عن مسه للحاجة، كما خص بالرضاعة مع الكبر (شرح صحيح مسلم للإمام النووي 10 / 31).
ومن هنا يكون الحكم عاما لعدم تقيده بشخص سالم، وهو في نفس الوقت خاص بمثل
الضرورة التي كانت في حالته الشرعية، فيكون رضاع الكبير ليس حكماً مجرداً، إنما هو مسألة فتوى.
حقيقة الخلاف بين السيدة عائشة وأمهات المؤمنين
ومسألة إرضاع الكبير في كتب التفسير والحديث والفقه وردت في سياق تفسير آية سورة البقرة: ﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة﴾ - البقرة: 233-؛ وآية سورة النساء: ﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة﴾ - النساء: 23 -
والخلاف بين السيدة عائشة وأمهات المؤمنين، إنما مداره على معنى كلمة (كبير) الواردة في الأحاديث والروايات:
فالرضاع عند السيدة عائشة قسمان: الرضاع في حادثة سالم، وهو إرضاعه بعد أن كان رجلاً، ثم دخوله على سهلة؛ أي بعد تجاوزه السن الشرعي للرضاعة (حولين). وبالتالي، فكلمة (كبير) في حديث سالم تعني (رجلاً)، وتعني تجاوز السن الشرعي للرضاعة، وهو خاص بسالم.
والمعنى الثاني: تجاوز مرحلة المهد، وبه كانت السيدة عائشة تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحببن أن يراهن ويدخل عليهن، وإن كان كبيراً، وحددت ذلك بخمس رضعات ثم يدخل عليهن.
وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع في المهد (انظر: مسند أحمد بن حنبل 57 /193، ومستخرج أبي عوانة 9 / 179)؛ ففي حديث نافع مولى بن عبد الله بن عمر (ت: 186 هـ) في الموطأ، أن سالم بن عبد الله بن عمر (ت: 107 هـ) أخبره أن السيدة عائشة أم المؤمنين أرسلت به - وهو رضيع - إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ. قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات، ثم مرضت فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتمَّ لي عشر رضعات.
فالسيدة عائشة كانت ترغب في دخول سالم بن عبد الله عليها، ولذلك أرسلت به إلى أم كلثوم لترضعه. لكن أم كلثوم لم تتم رضاعته، فلم يدخل عليها. ولو كان الأمر هو جواز إرضاع الرجال لجعلت إحدى بنات أخيها ترضعه، لكنه لما كبر وصار رجلاَ لم يكن ليدخل على عائشة.
وأصحاب الشبهة يقولون: إن عائشة أرسلت سالم بن عبد الله لترضعه أم كلثوم، دون أن يذكروا أنَّ سالم بن عبد الله كان طفلاً رضيعاَ كما جاء في الحديث. يوهموا أن أم كلثوم كانت ترضع رجلاَ كبيراً !
فطلبُ السيدة عائشة بالإرضاع كان لأطفال صغار، وما ذكر في الرواية (فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال) هو اعتبارٌ لما سيكون منهم بعد أن يصبحوا رجالاً. ودليله أن سالم بن عبد الله بن عمر (ت: 106 هـ) أخبره أن السيدة عائشة أرسلت به وهو رضيع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ. تريد أن يدخل عليها بعد أن يكبر، وليس هو رضيع. ولذلك وافقتها السيدة حفصة (ت: 41 هـ): ففي حديث صفية بنت أبي عبيد الثقفية أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع ففعلت فكان يدخل عليها (الموطأ 2 / 603)، أي بعد أن كبر.
وجاء هذا المعنى بوضوح أكثر في أحكام القرآن لأحمد بن علي الجصاص (ت: 370 هـ)، فروى عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر (ت: 108 هـ) التابعي الثقة، وأعلم الناس بحديث السيدة عائشة أم المؤمنين، أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالاً (أحكام القرآن 3 / 25).
والسيدة عائشة إنما كانت تحب أن يدخل الصبيان عليها بعد أن يصيروا رجالاً، لتعلمهم
أمر دينهم لحرصها على تبليغ دين رب العالمين وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاختلاف أمهات المؤمنين مع السيدة عائشة ليس في إرضاع الكبير أو إدخال رجال عليها بهذا الإرضاع، فذلك لم يحدث منها أصلاً؛ واعتراضهن إنما كان لإرضاع الصغار بقصد الدخول، سواء كان الرضاع قبل حولين أو تجاوزه بقليل. ففي حديث زينب بنت أم سلمة المخزومية، وهي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وأخت عمر، أن أم سلمة قالت للسيدة عائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة حسنة ؟! إنَّ امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إنَّ سالماً يدخل عليَّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه حتى يدخل عليك».
والغلام الأيفع: هو من لم يتجاوز الحلم، يقال: أيفع الغلام فهو يافع: إذا شارف الاحتلام. فاحتجاج السيدة عائشة بحادثة سالم كان: "الإرضاع بقصد الدخول" ولم يكن الاحتجاج برضاعة من بلغ من الرجال مثل سالم.
وأورد أصحاب الشبهات عبارات جاءت في الروايات يجب التنبيه عليها: مثل عبارة «رضيع عائشة» التي أوردها مسلم: عن أبي قِلابة عبد الله بن زيد الجرمي (ت: 105 هـ) عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري - رضيع عائشة - عن عائشة (صحيح مسلم 6 / 144)، فزعموا أن السيدة عائشة كانت ترضع رجلاً كبيراً ! ولم يعرفوا أن كلمة «رضيع عائشة» تعني: أخوها من الرضاع، ففي القاموس المحيط: رضيعك: هو أخوك من الرضاعة (رضع: 1 / 932)، وعبد الله بن يزيد كان تابعياً، وأمه أرضعت السيدة عائشة، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم فولدته، فقيل له لذلك رضيع عائشة (عمدة القاري 20 / 97، تحفة الأحوذي 4 / 98).
ومثل عبارة: (فمكثت سنة أو قريباً منها لا أحدث به رهبة له)، فقيل: إنها من كلام سهلة - زوجة أبو حذيفة - وأنها ظلت في خجل من إرضاع سالم ولم تخبر به إلاَّ بعد عام !
والصواب أنَّ العبارة هي من كلام ابن أبي مليكة عبد الله بن عبيد الله (ت: 117 هـ) راوي الحديث، شيخ الحرم، التابعي المتقن. قال يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ): هذا قول ابن أبي مليكة.. وقوله: (ثم لقيت القاسم) عطف على (فمكثت)، فهو من مقول ابن أبي مليكة أيضاً (شرح النووي لصحيح مسلم 2 / 1076)، يؤكد ذلك قول القاسم الذي روى عنه أبو مليكة: (حدث به ولا تهابه)، ولو كان الكلام لسهلة لكان: (حدثي به ولاتهابيه).
والرواية بتمامها: أخبرنا حميد بن مسعدة، عن سفيان - وهو ابن حبيب - عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: جاءت سهلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علينا وقد عقل ما يعقل الرجال وعلم ما يعلم الرجال قال: «أرضعيه تحرمي عليه بذلك»، فمكثت حولاً لا أحدِّث به، ولقيتُ القاسم فقال: حدِّث به ولا تهابه.
** ** ** **
وتكلموا عن حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما اتفق عليه الشيخان، فأخرجه البخاري في صحيحه (3095، 5430، 5432، 5433، 5716، 6038، ومسلم في صحيحه 2189).
وقد اختلف أهل الفقه فيه، فقال أبو جعفر محمد بن جعفر الأستراباذي (ت: 324 هـ) من الشافعية، وأبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت: 370 هـ) من الحنيفية، وابن حزم علي بن حزم الظاهري (ت: 456 هـ)، وطائفة، هو تخييل فقط، ولا حقيقة له.
مع أن العقل لا يُنكر أن يكون السحر علماً له خصائص في تركيب أجسام، أو مزج بين قوىً على ترتيب مخصوص لا تُعرف ماهيته، لاختلاط الشعوذة ـ وهي الصفة الغالبة عليه اليوم ـ، وعلم السحر الذي ورد في الكتاب والسنة. ونظير ذلك ما يقع من حُذَّاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضارُّ منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعاً. قال القرطبي (ت: 671 هـ): السحر حيلٌ صناعية يُتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلاَّ آحادُ الناس. ومادته الوقوف على خصائص الأشياء، والعلمُ بوجوه تركيبها وأوقاته. وأكثرها تخييلاتٌ بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت، فتعظم عند من لا يعرف ذلك. وقال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيراً في القلوب، كالحب، والبغض، وإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان: بالألم والسقم. وإنما المنكر (الذي لا تقبله النصوص ولا العقل) أن الجماد ينقلب حيواناً أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك (المفهم 5 / 568).
وقال محمد علي المازري (ت: 536 هـ) إمام المالكية: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وتجويز هذا يُعدم الثقة بما شرَّعه صلى الله عليه وسلم من الشرائع، إذ يُحتمل على هذا أن يُخيَّل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يُوحى إليه بشئ ولم يُوح أليه بشئ. وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلّغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأمَّا ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعَث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر، كالأمراض ونحوها. فغير بعيد أن يُخَيَّل إليه في أمرٍ من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، فالسحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده، فلم يُنْقَل عنه في خبرٍ من الأخبار أنه قال قولاً فكان بخلاف ما أخبر عنه (المفهم 5 / 568)، فسحر النبي صلى الله عليه وسلم كان من جنس ما كان يناله من ضررِ سائر الأمراض: من ضعفٍ عن الكلام، أو عجزٍ عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول، وهذا دليل بشريته. واستدل ابن القصار (ت: 397 هـ) شيخ المالكية، على أن الذي أصابه كان من جنس المرض، بقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «أمَّا أنا فقد شفاني الله». قال القرطبي (ت: 671 هـ): وقول السيدة عائشة: «حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَيَّل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فَعَله»، قد جعل هذا بعضُ أهل الزيغ مطعناً في النبوة. وإذا انتهى الحالُ إلى هذا لم يُوثق بقول من كان كذلك. والجواب: إن هذا صدر عن سوء فهم وعدم علم. أمَّا سوء الفهم، فلأنها إنما أرادت أنه أُخِذ عن النساء، فكان قبل مقاربة الجماع يُخيَّل إليه أنه يتأتى له ذلك، فإذا لابَسَه لم ينهض لغلبة السحر عليه. وقد جاء هذا المعنى منصوصاً في غير كتاب مسلم: «قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» (صحيح البخاري 5432). وأمَّا عدم علم الطاعن فقد سلبه الله تعالى العلم بأحكام النبوات وما تدل عليه المعجزات. فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر، وأنهم يجوز عليهم من الأمراض، والآلام، والغضب، والضجر، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك، ما يجوز على البشر. لكنهم معصومون عما يناقض دلالة المعجزة من معرفة الله تعالى، والصدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ. فمن حيث البشرية: يجوز عليه ما يجوز عليهم. ومن حيث الخاصة النبوية: امتاز عنهم، وهو الذي شهد له العلي الأعلى، بأن بصره ما زاغ وما طغى، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحي يوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى (المفهم 5 / 568).
وقال النووي (ت: 676 هـ): اعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من ترك ما أُمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه. وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته (شرح مسلم 4 / 171).
** ** ** **
وشككوا في حديث سجود الشمس تحت العرش، وهو في صحيح البخاري (3199، 4802، 7424)، وصحيح مسلم (159)، وسنن الترمذي (2186، 3227).
والسجود تحت العرش إنما هو أمر غيبي لا يعلم كيفيته إلا الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر سبحانه وتعالى عن سجود جميع المخلوقات له، فقال عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ ـ الحج 18ـ
وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ ـ الرعد 40ـ ولا يعلم أحد عن كيفية هذا السجود ووقته وحقيقته إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وهكذا أيضاً حديث أبي ذر، لا يختلف عن الآية من قريب أو بعيد، وليس فيه ما يستنكر.
قال الخطابي (ت: 388 هـ): لا ينكر أن يكون لها استقرار تحت العرش، من حيث لا ندركه ولا نشاهده، وإنما هو خبر عن غيب، فلا نكذب به، ولا نكيفه؛ لأنَّ علمنا لا يحيط به (أعلام الحديث شرح صحيح البخاري 1893).
كما أن هذا السجود لا يعني التوقف عن الجري، فمن الممكن أنها تسجد، وهي تجري وتدور، وإذا قلنا إنها تستقر فلا يلزم من ذلك طول الاستقرار والسجود حتى يلاحظه الناظرون إليها، ولا يلزم من سجودها تحت العرش أنها تغيب عن أنظار جميع الناس. فهي تغرب عن عيننا وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه.
ورجح ابن عاشور أن محل سجودها أمر مجهول لا قبل للناس بمعرفته.
** ** ** **
وقالوا: ثبت على وجه اليقين أن الجنين يتكوَّن من حيوان منوي وحيد يخترق بويضة المرأة، وهو الذي تنشأ عنه الذكورة والأنوثة، فليس لماء المرأة دخل في هذا، فالأنوثة لا تنشأ من علو ماء الأنثى على ماء الرجل.
ونقول: حديث ماء الرجل وماء المرأة حديث صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه (3151، 3723، 4210)، ومسلم في صحيحه (311، 315). لكن قبل الكلام عن إعجاز هذا الحديث، وأنه من دلائل صدق الوحي الإلهي، سنعرض لما زعم بعضهم أن ما ورد من أحاديث صحيحة في أبواب الطب وغيرها من أسباب المعاش ـ عدا الأحكام ـ فإنما هي من شؤون الدنيا التي يقول فيها النبي ﷺ بعلمه لا بالوحي ـ أي هي كلام قابل للخطأ والصواب، مبنية على علوم ومعارف أهل زمانه ﷺ، وهو زعم قديم قاله ابن خلدون (ت: 808 هـ)، وتابعه غيره من محدثي اليوم، كالشيخ عفيف طبارة في كتابه روح الدين الإسلامي 469، وعلي الطنطاوي في كتابه تعريف عام بدين الإسلام 140، ومحمد الغزالي في السنة النبوية 204 ، وتلقفها عنهم صبيان اليوم.
قال ابن خلدون: وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض، إلاَّ أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج، وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كَلَدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، ليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمرٌ كان عادياً للعرب ووقع في ذكر أحوال النبي ﷺ من نوع ذِكْرِ أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل.
فإنه ﷺ إنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلاَّ استُعمل على جهة التبرك وصدْق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع (مقدمة ابن خلدون 3 / 1143).
فابن خلدون يصف الطب النبوي بأنه من قبيل طب البادية، المبني عن مشايخ الحي وعجائزه. فنقول: إنَّ كون رسول الله لم يُبعث معلماً للطب، لا يعني أنه يقول في الطب وفي غيره من العاديات بجهل، فما ينطق عن الهوى. فالرسول ﷺ لم يقر إلاَّ الصحيح في أمور الدين والتشريع وفي أمور الدنيا. وتعاليمه جميعها وحيٌ إلهي، فإن أخطأ، ـ وهو في حديث تأبير النخل لم يُخطئ ـ لأنه لم يقرر حكماً ـ فالوحي يُصحح له سلوكه ويقوّمه. قال الشيخ أحمد محمد شاكر(ت: 1377 هـ / 1958 م): حديث تأبير النخل مما طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوربا فيه، من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا، يتمسكون برواية أنس: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن، في قرارة نفوسهم، ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يُخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة: الكتاب والسنة، مع ما درسوا في مصر أو في أوربا، لم يترددوا في المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، فَضَّلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربته قلوبهم. ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك، أو ينسبهم الناس إلى الإسلام.
والحديث واضح صريح، لا يُعارض نصاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن، لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى، فكل ما جاء عنه فهو شرع وتشريع، ﴿وإن تطيعوه تهتدوا﴾، وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم: «ما أظن ذلك يغني شيئاً»، فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنة، حتى يُتوسع في هذا المعني إلى ما يُهدَم به أصل التشريع، بل ظن، ثم اعتذر عن ظنه، فقال: «فلا تؤاخذوني بالظن»، فأين هذا مما يرمي إليه أولئك؟ (شرح مسند ابن حنبل 2 / 364، وانظر كلام القرطبي في المفهم 6 / 167 ففيه فوائد).
وقد قلنا مراراً: إن الأحاديث الصحيحة تصحح مسارات العلم ونتائجه، ونحن نقبل الحديث الشريف الصحيح بثقة واطمئنان، وإنَّ ما لم يتوصل إليه العلم هو حافزٌ للمتخصصين لدراسته.
أمَّا حديث «ماء الرجل وماء المرأة»، فقال د. مأمون شقفة: الحديث يقرر حقيقتين: الأولى: إنَّ صفات الكائن تتعلق بعوامل محمولة في ماء الأب وماء الأم، وهذا بحد ذاته إعجاز. فالعلماء لم يتأكدوا من حقيقة الحيوان المنوي والبويضة واشتراكهما في الخلق الجديد إلاَّ حديثاً، بعد اكتشاف المجهر، وبعد اكتشاف وزرع الكروموزمات. والثانية: هي أن أحد الماءين يسبق الآخر، أو يعلو على الآخر، فيُورث الولد الشبه. أي أن الماءين ـ بما يحملانه من الصفات ـ يتسابقان في تقرير مواصفات الكائن الجديد. فالمواصفات التي استطاعت مورثات المرأة تقريرها، استلمتها ونفذتها، ووقفت الموروثات المشابهة من الرجل دون عمل، لأنها سُبقت إلى ذلك. أمَّا المواصفات التي تستطيع مورثات الرجل تقريرها، فإنها تستلمها وتنفذها، وتبقى المورثات المشابهة من المرأة دون عمل لأنها سُبقت إلى ذلك. وفي هذا تقريرٌ دقيق لقوانين مندل عن الصفات القاهرة والمقهورة. فالمسألة مسألة تسابق بين المورثات على تنفيذ ما تحمل من وراثة، ومسألة علو وسيطرة لإحداهما على الأخرى (القرار المكين 179).
قال الشيخ محمد الغزالي (ت: 1416 هـ / 1996 م): إن إنكار المروي من سنن الآحاد لمحض الهوى عصيانٌ مخوف العاقبة. واتهامُ حديثٍ ما بالبطلان ـ مع وجود سند صحيح له ـ لا يجوز أن يدور مع الهوى، بل يخضع لقوانين فنية محترمة. هذا ما التزمه الأئمة الأولون، وهذا ما نرى نحن ضرورة التزامه. لكن المؤسف أن بعض القاصرين، مما لا سهم له في معرفة الإسلام، أخذ يهجم على السنة بحمق ويردها جملة وتفصيلاً، وقد يسرع إلى تكذيب حديث يقال له، لا لشئ إلاَّ لأنه لم يرقه أو لم يفقهه (ليس من الإسلام / المقدمة).
** ** ** **
وادَّعوا بوجود الإسرائيليات في الصحيحين. وفرية احتواء صحيح البخاري على إسرائيليات لاكها بغباء: صالح أبو بكر في كتابه (الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)، ومحمد حمزة في كتابه (الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث 232)، وجمال البنا (في مقاله في صحيفة (المصري اليوم) بتاريخ 15 / 8 / 2007، بعنوان: إسرائيليات في البخاري)، وعدنان ابراهيم الذي قال: سآتيكم بأحاديث في البخاري ومسلم وعن عودة عيسى وعن الدجال وغير الدجال وأريكم أصولها من اليهود والنصارى، كلها عقائد يهودية نصرانية أُدخلت الإسلام وهي عكس روح القران تماماً:
https://www.youtube.com/watch?v=vQOzkEA1ivE وغيرهم الكثير من أزلام الجهات المُبالغ ببهرجتها وضجيج اتجاهاتها.
وعمدة شبهتهم: ذكر المتشابهات بين نصوص الأحاديث النبوية وبين ما هو موجود عند اليهود والنصارى، ومحاولة جر هذه المتشابهات لجعلها من قبيل الإسرائيليات، وبالتالي إثبات وجودها في السنة. وبهذا يكونون قد أدخلوا في السنة ما ليس منها، وإثبات قاعدتهم التي بنوها على قناعات مسبقة!
** ** ** **
و(الإسرائيليات) نسبة إلى إسرائيل نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبو الأسباط الإثني عشر، وإليه يُنسب اليهود، وورد ذكرهم في القرآن الكريم منسوبين إليه في مواضع كثيرة. وتُطلق للدلالة على القصص التي تُروى عن مصادر يهودية، وهي عند علماء التفسير والحديث تُطلق على كل ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة منسوبة في أصل روايتها إلى أصل مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما، وتوسع بعضهم فعدُّوا (الإسرائيليات) ما دسَّه أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم على التفسير والحديث من أخبار لا أصل لها في مصدر قديم، وإنما هي أخبار من صنع الديانات الأخرى، وضعوها بخبث نواياهم، ودسوها على المسلمين، ليفسدوا بها عقائدهم، ويضللوهم عن الإسلام، كقصة الغرانيق، وكقصة أم المؤمنين زينب بنت جحش وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيت زيد بن حارثة، فرأى زينب زوجته جالسة وسط حجرتها تسحق طيباً بفهرها، فلمّا نظر إليها، قال: سبحان خالق النور، تبارك الله أحسن الخالقين. فرجع، فجاء زيد، فأخبرته الخبر، فقال لها: لعلكِ وقعتِ في قلب رسول الله، فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك الرسول؟ فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني. فجاء إلى رسول الله فقال له: أريد أن أطلق زينب. فأجابه بما نص عليه الله تعالى (تفسير الألوسي 22 / 23)، وامتنع الطبري وابن كثير وفخر الدين الرازي عن ذكر هذه الرواية، وقال ابن كثير: ذكر أبو حاتم ههنا آثاراً عن بعض السلف أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها، فلا نوردها (تفسير ابن كثير 3 /491)، وهذه القصة إنما وضعها يوحنا الدمشقي (ت: 131 هـ / 749 م) في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ليُدلل أن معنى الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب في حال أثارت عشقه، فعشقها، وأراد زواجها. وراجت تلك الفرية بين تابعي التابعين، ونُسبت زوراً إلى التابعي قتادة بن دِعامة السدوسي (ت: 118 هـ)، وما عُرفت هذه النسبة في شيء من الكتب بطريق مقبول (راجع: مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش: زاهري الألمعي 29).
وقد ثبت عن بعض الصحابة الأخذ عن بعض من أسلم من أهل الكتاب، والرجوع إليهم وسؤالهم عما في كتبهم، كأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم، كما ثبت أن عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منها (مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية 26)، لكنهم كانوا من أعرف الناس في أمور العقيدة والأحكام، ولذلك كان لهم منهج سديد في التحري والدقة والحذر الشديد أكثر من غيرهم، فما كانوا يسألون من أسلم من أهل الكتاب، إلاَّ لمعرفة شئ من القصص وحوادث الزمان، وما ثبت على الإطلاق أنهم رجعوا إليهم يسألونهم في أمور العقائد والأحكام، كما لم يسألوهم إلاَّ بعد أن استقرت أصول الشريعة ورست قواعدها.
وإنكار الرسول ﷺ، وإنكار الصحابة على من يرجعون إلى أهل الكتاب، إنما كان في بدء الإسلام، قبل استقرار الأحكام. قال ابن حجر (ت: 852 هـ): وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية، خشية الفتنة، ثم لمَّا زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار (فتح الباري 7 / 415).
** ** ** **
أمَّا المشابهة في ذكر بعض القصص والوقائع وأخبار الأمم قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فليست من قبيل النقل من الإسرائيليات، ومن أسبابها:
أولاً: إن التشابه الحاصل بين بعض النصوص النبوية التي وردت على لسان نبينا ﷺ، وبين بعض نصوص أهل الكتاب كانت من قبيل اتحاد المصدر الأول وأصول المعلومات. والمقصود باتحاد المصدر هو أن أصلها واحد من عند الله تعالى، والتحريف الذي أصابها، والضياع الذي حل بها، لم يغير كل كلمة وحرف فيها.
نعم، لقد وقع فيها خرافات، وشركٌ بالله، لكن بقيت موضوعاتها الرئيسة موجودة، والله تعالى أشار إليها في قوله: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ ـ الأعراف 157ـ، فلو لم يكن في هذه الكتب حقٌ لَما أخبر تعالى بوجود علامات النبي الأمي في التوراة والإنجيل، والأدلة في هذا الباب كثيرة جداً: منها أيضاً قوله تعالى ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ﴾ ـ الأنعام 20ـ، فلو أن كتبهم لم تشتمل على حق لما أخبر الله بمعرفتهم النبي ﷺ كمعرفتهم أبناءهم. فلا غرابة أن يكون في الحديث النبوي ما يُحدث بمعناه أهل الكتاب أو موجوداً في كتبهم.
ثانياً: لو افترضنا – جدلاً - احتواء صحيح البخاري على إسرائيليات، فما كان في هذا مطعن فيه، لأنَّ الإسرائيليات المعمول بها والمحتج فيها عند العلماء تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما وافقت فيه الشريعة، وهذا ظاهر جداً فيما سبق من بيان وجه اتحاد نقل الخبر.
الثاني: ما لم تخالف فيه الشريعة، وهو من قوله ﷺ: «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (صحيح البخاري 3461)، فكونها أخباراً كقصص أو ما سواه مما ليس له أثرٌ على الأحكام الشرعية، ولا تتعارض معها: كتسمية ابني آدم بـ (قابيل وهابيل)، إلى غير ذلك من الأخبار التي ذكرها جمعٌ ممن يؤمن قولهم على دين الله، من الصحابة والتابعين فضلاً عمّن سواهم.
فالقول بتكذيب الأخبار المسماة (بالإسرائيليات) مطلقاً لا يتفق مع مضمون التاريخ البشري بشكل عام؛ لِما فيه من أخبار الأمم السابقة التي كانت قبل الإسلام، فضلاً عن أخبار أهل الكتاب مما يخص أمورهم وأحوالهم، وأحوال الأنبياء المبعوثين فيهم قبل ظهور دعوة النبي ﷺ.
** ** ** **
أمَّا الأحاديث التي في صحيح البخاري وأثير حولها الشبهات، فهي:
1 الادعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ما ذُبح على الأصنام، وأن هذا الحديث من الإسرائيليات. ففي حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَحَ قبل أن ينزل على النبي ﷺ الوحي. فقدمت إلى النبي ﷺ سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلاَّ مما ذكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكارا لذلك، وإعظاما له (صحيح البخاري 3826).
والجواب: أين ما يدل في الحديث أن النبي ﷺ أكل من هذه السفرة؟ فليس في الحديث أنه ﷺ أكل منها، وغاية ما في الحديث أن السفرة قدمت للنبي ﷺ ولزيد ولم يأكلا منها. ولم يكن زيد بأفضل من النبي ﷺ، كما أنه ليس في روايات الحديث أن الشاة ذُبِحت للأنصاب، ولا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أكل منها.
2 الادعاء أن رسول الله ﷺ يعترف بأنه أقل منزلة من النبي يونس، مع أنه هو أشرف الخلق على الإطلاق. واستشهدوا بحديث أبي هريرة، قال: أنا خيرٌ من يونس ابن متَّى فقد كذب (صحيح البخاري 4604).
والجواب: أنه ليس لبشر أنْ يُفاضل بين أنبياء الله تعالى إلَّا بما فضَّلَ اللهُ به بعضَهم على بعض. وفي هذا الحَديثِ ينهى النبي ﷺ أنْ يمتدحه أحدُهم، أو أنْ يُفضِّلَه على نبي الله يونس بن مَتَّى عليه السلام؛ وإنَّما خَصَّ يونس، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يَذْكُرْه في جُملة أُولي العَزْم مِن الرسل. فحثَّ ﷺ على معنى التواضع، فيونس هو دونَ غيره مِن الأنبياء مِثلَ إبراهيم ومُوسى وعيسى، فإذا كان ﷺ لا يحِبُّ أنْ يفَضَّلَ على يونس، فكيف غَيرُه ممَّن هو فَوقَه مِن أُولي العَزْم مِن الرُّسُل؟!
وغايةُ ما في الأمرِ أنَّ الله لمَّا ذَكَر أُولي العَزْم مِن الرُّسُل، أَثنى على صبرهم، وذَكَرَ النَّبيَّ يونس بنَ مَتَّى عليه السلام، وأنَّه ضاق بقومه لعدم استجابتهم لدعوته؛ فقال تعالى لنبيِّه: ﴿ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ ـ القلم 48ـ، فخصَّه ﷺ بالذِّكر لِما يُخْشى على مَن سَمِع قِصَّتَه أنْ يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالَغَ ﷺ في ذِكرِ فضْلِه لسَدِّ هذه الذريعة. وهذا النَّهيُ مِن النبي ﷺ يُحمَل على عدم تفضيله على أي نبي آخر للمباهاة والفخر، وإلَّا فإنَّه في الحقيقة أفضلُهم على الإطلاق، فقد قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أنا سيد وَلَد آدَمَ ولا فخر»، وهذا مِن باب ذِكْرِ كرامته ﷺ على ربه بلا فخر منه ولا تكبُّر، في أعْلى درجات التواضع.
3 ادعاء غضب الرسول ﷺ من صحابي صفع يهودياً حين قال: والذي اصطفى موسى على البشر. مع العلم بأن رسول الله ﷺ وهو خاتم الأنبياء، وهو المصطفى من الله. واستشهدوا بحديث أبي هريرة: بينما يهودي يَعْرض سِلْعة له أُعْطي بها شيئاً، كَرِهه، قال: لا، والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر. قال: فَسَمِعه رجلٌ مِنَ الأنصار فلطم وجهه، قال: تقول: والذي اصطفى موسى عليه السلام علَى البشر ورسولُ الله ﷺ بين أَظْهُرِنا؟ قال فذهب اليهودي إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا أبا القاسم إنَّ لي ذِمَّة وعهداً، وقال: فلانٌ لَطَم وجهي، فقال رسولُ الله ﷺ: لِمَ لَطَمْت وجهه؟ قال: قال، يا رسول الله، والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر وأنت بيْنَ أَظْهُرِنا، قال: فَغَضِب رسولُ الله ﷺ حتَّى عُرِف الغضبُ في وجهه، ثم قال: لا تُفَضِّلوا بين أنبياء الله، فإنه يُنفَخ في الصُّور فَيَصْعَق مَن في السماوات َمَن في الأرض إلَّا مَن شاء الله، قال: ثم يُنفخ فيه أخرى، فأكونُ أول مَن بُعث، أَوْ في أَوَّل مَن بُعِث، فإذا موسى عليه السلام آخِذٌ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطُّور، أَوْ بُعِث قبلي، ولا أقول: إنَّ أحداً أفضلُ مِن يونس بن مَتَّى عليه السلام (صحيح البخاري 3414، 3415، صحيح مسلم 2373)، واعترف ابن حجر بأن الحديث يدل على فضيلة موسى على النبي ﷺ وقال: فإن كان أفاق قبله فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله فلم يصعق فهي فضيلة أيضاً.
وقالوا: لا شبهة لمسلم في أن النبي الخاتم ﷺ أفضل الأنبياء وأشرفهم في الدنيا والآخرة، وشريعته خاتمة الشرائع وناسختها، أكَّدت ذلك جميع الفرق الإسلامية. فليس هناك نبي أفضل منه عليه أفضل الصلاة والسلام. وهذه الأحاديث تقلل من قدر الرسول، وما هي إلاَّ من الإسرائيليات.
والجواب: أن النهي هنا المراد به منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر، فخصلة النبوة واحدة لا تفاضل فيها، لأنهم متساوون فيها، وإنما التفاضل بالخصائص والمحن ونحوها، ُتوهِم النقص في المفضول، أو الغض منه، والازدراء به، والإزراء ببعضهم، فربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم. وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم.
** ** ** **
وخلاصة ما سبق:
أنه لا يوجد في صحيح البخاري إسرائيليات، وأن الزعم بوجودها مجرد خرافة يستهلكونها للطعن في قدسية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الطعن في صحيح البخاري بحجة احتوائه على إسرائيليات، يلزم منه الطعن في القرآن، وما هو إلاَّ نابتة مارسها بعض مشعوذي الألفاظ من المستشرقين ومَن سايرهم؛ ممن يضخمون المصطلحات ويعوّمونها ليؤدوا خدماتهم لأعداء الإسلام بالطعن في مصادر الشريعة.
والبخاري لم يكن من آحاد العلماء المجتهدين في علم الحديث فقط، بل كان من أفذاذ الأمة وأفراد العالم مطلقاً، وليست صحةُ أحاديث كتابه مأخوذةً من تسميته لها بالصحة تسميةً مجردة ! بل لأنه طبق عليها قواعد النقد، وأصولَ التصحيح والتضعيف بدقّةٍ متناهية، وهي قواعد مأخوذة في أصلها من الكتاب والسنة. قال أبو بكر الإسماعيلي - وقد ذكر كتب الحديث التي اعتنت بانتقاء الأحاديث الصحيحة: وكلٌّ قصد الخير وما هو الصواب عنده، غير أنّ أحداً منهم لم يبلغ من التشديد مبلغ أبي عبد اللّه (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ١ / 46)، وقال أبو جعفر العقَيلي: لمَّا ألَّف البخاري كتاب الصحيح عرضه على : أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم؛ وكلُّهم قال له : كتابك صحيح إلاَّ أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة (فهرست ابن خير 83، وانظر هدي الساري 7).
قال قتيبة بن سعيد البلخي (ت: 240 هـ): «جالست الفقهاء والزهاد والعباد؛ فما رأيت
منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة»، وسئل قتيبة عن طلاق السكران فدخل محمد بن إسماعيل البخاري، فقال قتيبة للسائل: «هذا أحمد ابن حنبل وإسحاق ابن راهويه وعلي بن المديني قد ساقهم االله إليك» وأشار إلى البخاري.
وقال أحمد بن نصر الخفاف (ت: 299 هـ): محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق ابن راهويه، وأحمـد ابن حنبل وغيرهما بعشرين درجة.
وقال الحافظ السخاوي (ت: 902 هـ): ومَنْ تأمَّلَ اختياراتِه الفقيهة في جامعه عَلِمَ أنه كان مجتهداً، مَوَفَّقاً مُسَدَّداً، وإنْ كان كثيرَ الموافقةِ للشافعي.
(انظر: تاريخ الإسلام ٦ / ١٥٣، تقييد المهمل وتمييز المشكل ١ / ٣١، تهذيب التهذيب ٩ / ٤٦، سير أعلام النبلاء ١٢ /٤٣٦، تهذيب الأسماء واللغات 1 / ٧٠، سير أعلام النبلاء ١٢ / 432، هدي الساري ٤٨٩).
وقال ابن تيمية (ت: 728 هـ) متعقّباً بعض من غمز في صحة بعض ما في الصحيحين: ومثلُ هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديثَ التي في البخاري ومسلم إنما أُخِذت عـن البخاري ومسلم، وأن البخاري ومسلماً كان الغلطُ يروج عليهما، أو كانا يتعمدان الكذب، ولا يعلمون أن قولنا: (رواه البخاري ومسلم) علامةٌ لنا على ثبوت صحته، لا أنه كان صحيحاً بمجرد رواية البخاري ومسلم، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما مـن العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلاَّ االله، ولم ينفرد واحد منهما بحديث، وإنما قولنا: (رواه البخاري ومسلم) كقولنا: (قرأه القراء السبعة) والقرآن منقـول بالتواتر، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه (منهاج السنة النبوية ٧ / ٢١٤ ـ ٢١٦).
وأخيراً لا بد من التنبيه على أمور:
الأول: الأحاديث المنتقَدة على البخاري يسيرةٌ جداً، وغالب انتقادات العلماء ترجع إلى
أسانيدها دون متونها، وكثير من هذه الانتقادات متوجه إلى ما هو خارج عن شرط البخاري في كتابه؛ مثل الآثار غير المرفوعة، أو الأحاديث المعلقة، وهي في مآلها ليست نقداً مستقيماً.
الثاني: يجب أن يفرق بين انتقادات العلماء المبنية على النظر العلمي المنضبط، والبحث الصحيح، وبين غَمزِ المستشرقين، وتلبيس أعداء السنة، وطعونات الملاحدة والمنافقين، فهذا لون، وذلك لون؛ الأول محلُّ مناقشة وبحث ومدارسة وترجيح، والثاني لا يجوز الالتفات إليه ولا التعلُّق به، بل يتعين رده وعدم قَبوله.
الثالث: العبرةُ في كلّ فن بكلام أهله المختصين به دون غيرهم، فالمرجع في علم الحديث إلى علماء الحديث، وفي الفقه إلى الفقهاء، وفي النحو إلى اللغويين، وهكذا، ومن طعن في صحة البخاري أو بعض أحاديثه أو انتقد بعضها وليس هو من أهل الحديث المختصين بمعرفته ولو كان منتسباً إلى العلم؛ فإنَّ كلامه غير مقبول، ويجب تقديم كلام أهل كلّ فن على كلام غيرهم في ذلك الفن الـذي اختصوا به. قال ابن القيم الجوزية (ت: 751 هـ): الاعتبار في الإجماع على كلّ أمرٍ من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلّا العلماء بها دون المتكلّمين والنحاة والأطباء، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلّا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلّدين بأقوال متبوعيهم (مختصر الصواعق المرسلة ٤ / ١٥٠٢). فهل يضر أرسى الجبال ثرثرة الجهال؟!
الرابع: إن أحكام الشريعة لها صورتان من ناحية إمكان النظر العقلي وهما: الحكم التوفيقي بإدراك الحكمة من بعض قضايا التشريع وأسراره بواسطة العقـل المجرد، والحكم التوقيفي الذي يتوقف العقلُ عن الخوض فيه حتى يأتي المشرع ليبينه: إمَّا تخصيصاً أو تقييداً أو نسخاً أو رخصة أو عزيمة وما إلى ذلك، مما هو مذكور في أصول الفقه وعلوم التفسير.
فنسأل بعض من لا يستحيون من جهلهم: هل تدركون التمييز بين الطهارة الشرعية
المتعلقة بأحكام المني والودي والحيض وما إلى ذلك، وكذلك أنواع المياه لإزالة النجاسات من البدن والثوب والمكان أو ما يعرف بطهارة الحدث والخبث، وبين النظافة العامة، هذا إذا أضفنا موضوع التيمم في باب الطهارة وموازنة حكمه بحكم الغسل الذي يكون بالماء؟
هل للعقل المادي فيه مدخل لتبيين حكمته؟ وهل هو يدخل في باب النظافة العامة بمجرد لمسة أو ضربة باليد؟
أم هل التيمم مسألة تعبدية توقيفية؟
إنه لولا الأحاديثُ الصحيحة المبينة لأحكام الطهارة والحياء لكان متفلسفو زماننا ما زالوا يبولون على أعقابهم، ولكانوا مـا زالوا يأكلون الفئران والصراصير ويغتسلون بالنجاسات ويلحسونها كما هو شـأن كثير من الشعوب غير المسلمة.