ألكسندر سرغييفتش بوشكين Aleksandr Sergeyevich Pushkin شاعر وكاتب روسي، يعد مؤسس الأدب الروسي الحديث، وأعظم شاعر أنجبته روسيا. ولد في موسكو في 6 يونيو سنة (1799)، وتوفي شابَّاً في بطرسبرغ في 10 فبراير سنة (1837) عن ثمان وثلاثين عاماً.
واعتُبر عصره العصر الذهبي للشعر الروسي، وعصر التقارب بين الأدب الروسي من جهة والآداب الشرقية من جهة أخرى.
** ** ** **
كان أبوه شاعراً بارزاً، ينتمي إلى أسرة نبيلة عريقة. وأمه ناديجدا أوسيبوفنا Nadezhda Osipovna حفيدة الفريق الأول (الجنرال) أبراهام هانيبال، سليل أسرة نبيلة من إريترية، اشتراه بطرس الأكبر (ت: 1725 م) من إستانبول ورعاه وأعتقه وجعله من بطانته، ولذلك كانت الملامح الشرقية ظاهرة في ملامح بوشكين وسلوكه؛ فكان أجعد الشعر، غليظ الشفتين، بارز الصدغين. كما أنَّ ذلك يفسر سعة اطلاعه على التقاليد الشرقية التي أخذها عن جدته لأمه. وقد كتب بوشكين قصة عن حياة جده ولم يتمها سمَّاها: «مولى بطرس الأكبر» Arap Petra Velikogo يحكي فيها قصة هذا الجد الذي تم إهداؤه إلى القيصر بطرس الأول، وأصبح من المقربين إليه. وتعد هذه الرواية من أعظم الروايات التاريخية الواقعية في تاريخ الأدب الروسي.
** ** ** **
وفي أملاك الأسرة قرب موسكو نشأ بوشكين مع أخيه وأخته بإشراف جدتهم لأمهم
ومربيتهم أرينا ياكوفلفنا. وأتقن الفرنسية في سن مبكرة، وتعرَّف على ثقافتها من مكتبة أبيه الغنية بالمراجع الفرنسية. فالاهتمام بالثقافة الفرنسية أحد مظاهر الأسر النبيلة الروسية في القرن التاسع عشر.
ووقتما نضج، واحتك بالمجتمع، قرأ الأدب الإنجليزي، وتأثر ببيرون Byron (ت: 1824) وشكسبير Shakespeare (ت: 1616) الذي نحا نحوه في مسرحياته مع احتفاظه بالطابع الروسي.
** ** ** **
وفي عام (1811) درس في بلدة تسارسكويه سيلو Tsarskoye Selo (وأطلق عليها اسم بوشكين فيما بعد)، في معهد «الليسيه» Дворянский Институт وهو معهد النبلاء للتعليم الثانوي والعالي، لست سنوات. أنشأه "ألكسندر الأول" (ت: 1825) لتهيئة شباب الأسر العريقة لتولي المناصب الهامة في دائرة الحكومة القيصرية.
فكتب، وهو مازال طالباً، نحو 120 قطعة شعرية وقصيدتين طويلتين في سنوات (1811-1817)، كانت جميعها على نهج المدرسة الاتباعية (الكلاسيكية)، تناول فيها جميع أنواع الشعر التي كانت معروفة. فنشر في مجلة «الرسيل الأوربي» Vesting Evropy سنة (1814) رسالة شعرية سمَّاها: «إلى صديقي الشاعر»، وشرع في كتابة أول أعماله الكبيرة «رسلان ولودميلا» Russlan i Ludmilla، وهي قصيدة عاطفية بأسلوب روائي، استقى أحداثها من الأدب الشعبي، تصوّر البطل الروسي التقليدي ومغامراته ومعاناته في سبيل إنقاذ حبيبته، وتصف مآسي الشعب الراسف في أغلال الرق والعبودية. خرج فيها عن النمط السائد في الأنواع الشعرية المعروفة أنذاك، وأتمها ونشرها عام (1820)، فأكسبته شهرة واسعة. فالعهد الذي عاش فيه بوشكين عُرف بالاستبداد الاجتماعي؛ وكانت السلطات تنحصر بين القيصر والنبلاء؛ وكان بوشكين الذي انحدر من أسرة نبيلة يعبر عن انحلال وسطه، ويطالب بحرية الشعب، بوصفه المرجع الأول والأخير للسلطة. فكان أول من دعا إلى الحد من سيادة النبلاء في روسيا، ناقماً على مجتمعه، مطالباً بتقييد الحكم القيصري وإعلاء شأن النظام الديمقراطي بين الناس، والقضاء على حق استرقاق الفلاحين. لكن ما يؤخذ عليه أنه حصر بعض آماله في الحصول على بعض الحريات السياسية والثقافية.
** ** ** **
وبعد تخرجه من الليسيه عُيّن في إدارة السلك الخارجي في بطرسبرغ، وكان ذاع صيته شاعراً وأديباً، فانضم إلى منتدى الأديبة أرزماس Arzamas (1814-1818) التي أسسها بعض أصدقاء عمه، وكانت تنادي بالتجديد، وتتبنى منهج الإبداعية (الرومانسية)، وتناهض الأدب الكلاسيكي.
وعندما تحوَّل المنتدى في سنة (1818) إلى جمعية سرية تدعو إلى التحرر والقضاء على الاستبداد، وصار اسمها: «المصباح الأخضر»، وصار أعضاؤها يعرفون باسم الديكابريين Dekabrists، وكانوا ممن شارك في اضطرابات سنة (1825) = تحوَّل عنهم، وقال إنه لم ينضم إليهم قط، لكن قصائده السياسية صارت ملهماً لدعاة التحرر في أرجاء روسيا، ممَّا أثار مخاوف القيصر، وكانت سبباً بإبعاده عام (1820) إلى يكاترينوسلاف / دنيبروبتروفسك Dnepropetrovsk جنوب البلاد، فألمَّ به مرض شديد، فانتقل برفقة الجنرال رايفسكي (أحد أبطال حرب 1812) وأسرته إلى شمالي القفقاس، ثم إلى القرم، فمدينة كيشينيوف Kishinyov في مولدافيا، ومنها إلى أوديسا، فظل في منفاه حتى سنة (1824)، فكتب قصائد كثيرة سمَّاها «مجموعة الجنوب». وفي هذه المدة اتصل بأبرز أعضاء «جماعة الجنوب» الثورية.
ومع أن القصائد التي نظمها في منفاه رسخت مكانته شاعراً رائداً في الأدب الروسي الإبداعي (الرومانسي)، إلاَّ أنه لم يكن راضياً عن أسلوبه فيها، ونشد التغيير. وفي سنة (1823) بدأ بكتابة ملحمته الشعرية «يفغيني أونيغن» Yvgeny Onegin أنجزها، على نحو متقطع، بما يقارب التسع سنوات، وأتمَّها عام (1833)، رسم فيها صورة شاملة للحياة الروسية بكافة طبقاتها: من فلاحين، وأشراف، وصناع، وحرفيين، وأعيان، ونبلاء. فاعتُبرت أول رواية شعرية واقعية، وسُميَّت بـ "موسوعة الحياة الروسية".
كما تُعتبر رسائله التي أرسلها إلى أصدقائه في هذه الحقبة أول مجموعة نثرية كتبها، وهي ثروة أدبية، عبَّر فيها عن معاناته وضجره من بقائه منفياً، وعن حنينه إلى موطنه.
وفي منفاه كان يمضي قسماً كبيراً من وقته في المغامرات الغرامية اللاهية العابثة والصيد والشراب، وتورط في علاقة عاطفية مع زوجة الحاكم العام للإقليم، وخاض أكثر من مبارزة انتقامية.
وفي عام (1824) ضبطت الشرطة السرية رسالة له تتحدث عن شروعه في حضور دروس في الإلحاد، فسُرّح من الخدمة، ونُفي مرة أخرى إلى أملاك والدته في بلدة ميخائيلوفسكويه Mikhaylovskoye في الطرف الشرقي من روسيا. فأمضى فيها نحو عامين في عزلة تامة، عانى فيها شعور مرارة الاضطهاد، لكنها ـ في المقابل ـ كانت من أوفر أعوامه إنتاجاً، فدرس تاريخ روسيا، وتعرَّف على أحوال الفلاحين وتسجيل أخبارهم وحكاياتهم وأغانيهم، واتجهت كتاباته نحو الواقعية، فصار الحديث عن المعالم الروسية ومظاهر الحياة فيها سمة مميزة في شعره ونثره، مزج فيها بين لغة الأدب الرفيع وبين اللغة الدارجة، مخالفاً أسلوبه الإبداعي (الرومانسي) في مجموعة «أشعار الجنوب». فولعه بالرواية الشعرية والقصص الشعري، واقتباسه من الأساطير الشعبية السائدة في زمانه، أفرز هذه القصائد والروايات التي استطاع أن يرتقي بها درجة سامية من الخيال المجنح، راسماً في ثناياها صوراً مبتكرة عن صميم الحياة الروسية، ومضمناً إياها نفحات من السخرية المرة والنقد اللاذع المبطن الموجه إلى النظام التعسفي الذي يرزح المجتمع في ظله.
وفي خريف عام (1826)، بعد القضاء على ثورة الديكابريين، سمح القيصر الجديد نيقولا الأول (ت: 1855) لبوشكين بالعودة إلى موسكو، ووضْعِه تحت رقابته المباشرة، لاقتناعه بعدم انتمائه إلى أي من الجماعات السرية، وطمعاً في استغلال قلمه في مصلحة السلطة.
فقرر مهادنة السلطة لقناعته أن الإصلاح لن يتأتى إلاَّ من الأعلى، إن كان القيصر
صادق النوايا في الإصلاح. فكتب قصيدته «القرية» Derevnya، ومجموعة أشعار سماها «مقطوعات» Stansy شبَّه فيها نيقولا الأول بسلفه بطرس الأكبر، واصفاً إياه بـ «القيصر المربي»، وتابع نهجه هذا في قصديتيه: «بولتافا» Poltava، ونشرت عام (1828)، وفي قصيدته: «مولى بطرس الأكبر» التي نشرت عام (1837).
لكن بعد عودته من المنفى وجد نفسه في موقف أصعب من الأول، إذ صارت رقابة القيصر عليه أشد من رقابة رجال الأمن في منفاه، وكانت حريته الشخصية مقيدة تماماً. فمُنع من السفر إلى القفقاس كي لا يتصل برفاقه من الديكابريين، لكنه في سنة (1829) تمكن من مرافقة القوات الروسية التي أرسلت لحرب الأتراك في أرضروم في شمال شرق تركيا.
كما كانت سمعته السياسية وصراحته في نقد السلطة عائقاً أمام طموحاته وأفكاره، فكان موضع نقد الفئات المحافظة وتجني رجال البلاط. وبالمقابل لم يسلم من لوم أصدقائه والمعجبين به لظنهم أنه خان مبادئه، وهذا ما دفعه سنة (1828) إلى نظم قصيدته «إلى الأصدقاء» Druzyam.
وفي أعوام (1827-1830) انعكس شعوره بالعزلة وحنينه إلى الحرية في قصائد كثيرة، منها قصائد خص بها الشعراء، متحدثاً عن معاناتهم ومكانتهم في المجتمع، أهمها: «الجمهور» Tolpa، و«الشاعر والجمهور» Poet i tolpa، و«الشاعر» Poet، و«إلى شاعر» Poetu، وغيرها.
وفي حقبة الأعوام (1829-1836) بلغت عبقريته أوج إشراقاتها، واتخذ أدبه أبعاداً فتحت صفحة جديدة في تاريخ الأدب الروسي. ففي خريف العام (1830) سافر إلى نيجني نوفغورود Nizhny Novgorod / غوركي اليوم للاستجمام مع أفراد أسرته، فكتب أربع مآس قصيرة هي: «الفارس النهم» Skupoy rytsar، و«موزارت وساليري» Mozart i Salieri، و«الضيف الحجري» Kamenny gost، و«وليمة في زمن الطاعون»Pir vo vremya chumy . وعدداً من القصص من بينها: «قصة بلدة غوريوخين»Istoriya sela Goryukhina (شرع في كتابتها عام 1830 ولم يتمها، ونشرت عام 1837).
وفي سنة (1831) كتب نثراً خمس حكايات قصيرة، تختلف كل واحدة منها عن الأخرى من حيث البناء والفكرة، جمعها باسم «قصص الراحل بلكين»Povesti pokoynogo I.P.Belkina.
وكتب مأساته التاريخية الرائعة «بوريس غودونوف»Boris Godunov، عالج فيها (تاريخياً، وسياسياً، ونفسياً) العلاقة بين الطبقة الحاكمة، على رأسها القيصر إيفان الرهيب (1548)، وبين الجماهير المحكومة المضطهدة، في زمن ساده الاضطراب والعنف. فاستطاع الجمع بمهارة بين العامل النفسي والسبك المسرحي الدرامي بلغة معبرة موجزة، جعلت منها ظاهرة ثورية في تاريخ المسرح الروسي. وكانت نقطة فراقه مع الاتباعية الجديدة، بتبنيه منهج شكسبير في الأدب الشعبي وفي المسرح الذي لا يتقيد بأحكام خاصة في بناء النص المسرحي.
وإبان هذه المدة افتتن بفتاة جميلة تُدعى نتاليا نيقولايفنا غونتشاروفاNatalya Nikolayevna Goncharova واستطاع الزواج منها بعد تمنع ومماطلة من أسرتها، واستقر في بطرسبُرغ، لكنه اضطر تحت إلحاح الحاجة المادية إلى الالتحاق مجدداً للعمل في إدارة السلك الخارجي، ومُنح إذن الاطلاع على محفوظات «الأرشيف الحكومي» لرغبته في كتابة تاريخ بطرس الأكبر، لإيمانه أن مراجعة تاريخ روسية وإبرازه هو مفتاح الحل لإصلاح الأوضاع الاجتماعية والسياسية وسبيلها إلى المستقبل.
فكتب في سنة (1832-1833) «دوبروفسكي» Dubrovsky، صوَّر فيها الحياة الروسية في بداية القرن التاسع عشر: استبداد النبلاء واسترقاق الفلاحين، من خلال قصة شاب هارب من إحدى طبقات النبلاء.
وكتب في سنة (1833) قصيدته «الفارس النحاسي» Medny vsadnik، عن
بطرس الأكبر، ولمَّا عرض مخطوطتها على القيصر، أبدى عليها القيصر ملاحظات كثيرة طالباً تعديلها، لكن بوشكين لم يوافق على تلك الملاحظات، فظلت القصيدة طي الأدراج حتى نشرت بعد وفاته عام (1837).
وفي نفس العام (1833) كتب «البنت البسطوني» Pikovaya dama، وبدأ بكتابة «ابنة الضابط» Kapitanskaya dochka وأنجزها بعد ثلاثة أعوام في سنة (1836) ـ وتعد كلتا الروايتين من كتبه الهامة. فإلى جانب شعره تأتى له أن يسهم في ميدان القصة والرواية، ويبدع فيه، وعُدَّت «ابنة الضابط» من أكمل ما ألف في هذا الباب، فهي طرفة أدبية رائعة، تجمع إلى جمال العبارة جمال الأسلوب وحسن انتقاء الكلمات وبساطة السرد، مقتصراً على الوصف اللماح من دون إيراد صفات مرادفة أو مكررة، ومستصفياً ألفاظه إلى أبعد حد على نحو يعجز فيه القارئ الناقد أن يحذف جملة أو كلمة من دون أن يتقلقل بناء الرواية.
كذا قال تلميذه نيقولاي فاسيليفتش غوغول N.V.Gogol (ت: 1852) ومعاصره الناقد الروسي الكبير فيساريون غريغوريفتش بلِنِسكي V.G.Belinsky (ت: 1848) الذي وضع دراسة نقدية حول أعمال بوشكين ما تزال تعد إلى اليوم من أفضل ما كتب في هذا الباب.
كما كتب في نفس العام «قصة بوغاتشوف» Istoriya Pugachova وهي دراسة تاريخية لثورة الفلاحين التي قادها الزعيم القازاقي إيميليان إيفانوفتش بوغاتشوف عام (1773-1775).
كما نظم قصيدة ساخرة عن الحياة اليومية للطبقة الدنيا من الناس بعنوان «بيت صغير في كولومنا» Domik v kolomne. إضافة إلى كثير من القصائد الغنائية المختلفة أسلوباً وموضوعاً، وعددٍ من المقالات الساخرة والناقدة المثيرة للجدل.
وفي سنة (1835) كتب «مشاهد من أيام الفروسية»Stseny iz rytsarskikh vremen، نشرت بعد وفاته.
وكتب سنة (1837) مجموعته غير الكاملة «ليال مصرية»Egipetskiye nochi كما اهتم آنئذ بالقرآن الكريم وسيرة سيدنا محمد ﷺ، فكتب قصيدة من تسعة مقاطع مختلفة الطول بعنوان «محاكاة القرآن»، وقصيدة «النبي»، وسنتناولها بشئ من التفصيل. فأثناء زيارته للقرم والقوقاز تأثر بالمحيط الإسلامي، وتعلم اللغة العربية، وقيل: بل قرأ القرآن بترجمته الفرنسية أو بترجمة ميخائيل فيريوفكين (ت:1795) التي طبعت عام (1790) في العاصمة سانت بطرسبورغ، وهذا هو الأقرب.
** ** ** **
ملاحظة
كان العلّامة الكبير الشاعر ميخائيل لومونوسوف (ت: 1765) قد دعا إلى تواصل روسيا بالشرق، وتوثيق العرى الثقافية والاقتصادية مع شعوبه، بإقامة أكاديمية للاستشراق في روسيا. ومن جرَّاء ذلك، تأسس قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ، فبدأت تتأسس معه معرفة منهجية للمبدعين الروس بكافة جوانب الحضارة العربية الإسلامية وإبداعاتها على مر العصور.
** ** ** **
وفي سنواته الأخيرة واجه بوشكين مشاكل كثيرة أثَّرت في مجرى حياته، إذ كانت زوجته الجميلة موضع تملق رجال البلاط وإعجاب القيصر الذي سمح لها أن ترتاد القصر متى أرادت، وأسند إلى بوشكين وظيفة المشرف على «مخدعه» Kammerjunker، وما راق ذلك لبوشكين على الإطلاق، وظل على خلاف دائم مع كبار رجال الحاشية.
ومع أنه لم يحظ بالراحة والطمأنينة في بيته أو في عمله، ولم تُجد محاولاته الإفلات من القيود التي فرضت عليه بالاستقالة والتقاعد إلى الريف والتفرغ لأدبه، إلاَّ أنه واصل الكتابة والنظم بلا انقطاع.
وفي 27 كانون الثاني سنة (1837) خاض مبارزة بالمسدسات مع ضابط كبير من
مرافقي القيصر من أصل فرنسي اسمه جورج دانتس G.Dantes دفاعاً عن الشرف، وكان شهَّر بزوجته بتحريض من بعض رجال البلاط، فأصيب بوشكين في المبارزة بجرح قاتل قضى عليه بعد يومين.
وقد وصف الشاعر ميخائيل يوريفيتش ليرمنتوف Михаи́л Ю́рьевич Ле́рмонтов (ت: 1841) مشاعر الحزن والأسى التي عمت البلاد لدى تلقيها نبأ مقتله في قصيدة جميلة عنوانها «موت شاعر»Smert poeta
** ** ** **
لقد تبوأ بوشكين مكانته الأدبية عن جدارة، واعترف به معاصروه شاعراً وطنياً عظيماً وهو ما يزال على قيد الحياة، وكان كتاب القرن التاسع عشر المتأخرون يعدُّونه ملهمهم، ومبدع اللغة الأدبية الروسية، ورائد الأدب الروسي، وشاعر الواقعية. ويصفه مكسيم غوركي Максим Горький (ت: 1936) بحجر الزاوية في الأدب الروسي أو «بداية البدايات».
وغدا جزءاٌ لا يتجزأ من الحياة الثقافية والروحية للشعب الروسي، وكان له أثره الكبير في كثير من مناحيها، وخاصة المسرح والأوبرا. فعلى الرغم من قصر فترة حياته، فقد ترك أمثلة لكل نمط أدبي تقريباً في زمنه: الشعر الغنائي، والشعر القصصي، والرواية، والقصة القصيرة، والمسرح الدرامي، والمقالة النقدية، وحتى الرسائل الشخصية.
وقد نشرت جميع أعماله الكاملة وغير الكاملة، وتُرجم قسم كبير منها إلى كثير من لغات العالم، ونقل سامي الدروبي (ت: 1976) روايته «ابنة الضابط» إلى العربية.
++++++++++++++++++
قصيدة النبي
ظامئاً قلبي الوحيد.
مُضناة بالظمأ رُوحي.
بالكاد أجرُّ أقدامي،
وأنا في عتمة البيداء، أجوب القفر الكئيب متعثراً وحدي.
قطعتُ الأراضي البور القاحلة، والصحاري الموحشة،
فوجدتُ أمامي سيرافيم الأثير، المجنَّح، بأجنحته الست.
صامتاً، منتصباً،
على مفترق الطريق ينتظرني.
فوضع برفق أصابع رشيقة كالحلم
على عيوني الطينية العمياء
لامساً قرَّة عيني
فانفرجت مقلتاي النبويتان
كعيني أُمّ نسر مذعور
فُتحتا وراقبتا الأرض والسماء.
لمس أذني، ثم الأخرى
وملأهما حركة ورنيناً وضجيج حياة.
فسمعتُ رعدة السماء
ورفرفة أجنحة الملائكة في الأعالي
وسريان حركة أغوار البحار
ونمو الكرمة النائية بعيداً في الوديان
واضحة متميزة، وهي تغوص في الأرض، وترتفع إلى نحو مسارب النور.
وشاهدتُ أهوال أعماق البحر
وانزلقتُ في الماء كالأسماك.
فانحنى الملاك ثانية، بيده اليمنى على فمي المشدوه، واعتصرَ لساني الخامل الآثم الثرثار، وانتزعه بيد دامية، ووضع لسان الأفعى الحكيم.
ثم مال فوقي بآلية، وبين شفتيَّ الهامدتين
دسَّ ناب أفعى.
ثم غارساً سيفه اللامع، ببطء،
شقٌ صدري،
واقتلع قلبي المرتعش، المعتم الكالح،
وغرس بعزمٍ في فجوة صدري المفتوح
جمرة جذوة سرت مع اللهيب.
فانطرحتُ هناك، جثة هامدة،
فناداني صوت الرب:
انهض، يا نبي، أيها الحكيم، أبصرْ
ولب إرادتي.
جب البحار والأراضين
والهبْ بقولك قلوب الناس.
تقدم على الأرض، نبيٌاً، لافحاً قلوب الرجال
بكلمة الحق.
+++++++++++++++++++++++
لمحة عن القصيدة
تمثل قصيدة النبي نصاً إبداعياً، بتشكيلها الفني، وبنائها القصصي، عبر محاولة إيجاد فضاء مسرحي تتعدد فيه الأصوات: (صوت الراوي النبي ﷺ، وصوت الملاك سيرافيم seraph, pl seraphim من خلال وجوده الفعلي، وصوت الله تعالى ـ القوة الفوقية ـ من خلال الأمر بتنفيذ مشيئته)، مما يكسب النص روحاً درامية، مبنية على الحوار التفاعلي، والتكامل لا الصراع، إضافة إلى وجود مشاهد تصويرية شفافة تُفصح عن معادلات موضوعية لخواء الروح البشرية وإحساسها الدائم بقفر الحياة المادية وكآبة الوجود البشري حين لا يهتدي إلى الطريق الصحيح: فوحيداً جاب القفر متعثراً، يعذبه ظمأ روحه، وعند مفترق الطريق اعترضه الملاك سيرافيم بأجنحته الست.
فتصوير الخواء والفراغ الروحي، الذي وصلت إليه الحضارة الغربية في عصر العلم الحديث، تناولها أيضاً، لاحقاً، ت. س. إليوت (ت: 1965) بقصيدته: الأرض الخراب The Waste Land
ولا شك أن صورة الملاك الخارجية مستقاة من أثر التصور المسيحي للملاك المجنّح، امتزجت بصورتها الكليّة، وتكوينها، بمرجعية إسلامية، واقتراب من الحقيقة النورانية للملاك في الثقافة الإسلامية. في حين يرى الناقد الروسي (نيزيلينوف) أن الأثر التوراتي هو الذي قاد بوشكين إلى فكرة هذا النص، وهو خطأ كبير، فحادثة شق الصدر لم تذكر في أسفار العهدين القديم والجديد على الإطلاق؛ لأنها حادثة إسلامية خاصة بالرسول ﷺ، كما أن صورة ظهور جبريل على الرسول ﷺ وإصابته بالهلع، الذي رسمه الخيال الشعري لبوشكين في صورة (النسر المذعور) استقاها من كتب السيرة التي تروي أن رسول الله لمَّا جاءه جبريل وهو في غار حراء، في أول ظهور للوحي، رجع الى زوجته السيدة خديجة يرجف فؤاده، فقال: زملوني زملوني. ثم حكى بوشكين عن التغيير الذي حدث مع الرسول ﷺ بعد أن أوتي النبوة، فتكشفت له أسرار العالم، وما وراء الطبيعة، الذي لا يدركه العاديون من البشر. وعن نهوضه بعبء الرسالة التي بُعث من أجلها، والتي سيسري نورها عبر البحار والأراضي ليخترق لهيبها قلوب الناس.
** ** ** **
فتناول بوشكين للمرحلة المبكرة من النبوة إنما هي محاولة تقديم تصور موضوعي عن النبي ﷺ.
** ** ** **
مراجع
الموسوعة الثقافية. مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة - نيويورك 1972
الغجر وأعمال أخرى: ألكسندر بوشكين. ترجمة: رفعت سلام. القاهرة 2010.
Edmonds, R., Pushkin, the queen of spads,Penguin Classics, Great britain 1962
The New Encyclopædia Britannica, Micropædia,H.H. Berton Publisher,1973-1974
The New Encyclopædia Britannica, Macropædia,H.H. Berton Publisher,1973-1974
- Pushkin, Polnoe Sobranie Sotchinenie, Under The Redaction of U.G Oksman and M. A Tsyavlovski, 1-10 v, Moskow (1956-1958).
- Shegolev P.E., Pushkin. Isledovaniya i Materiali 1-27, Moskow, Leningrad (1928-1931).