غدير شامة
غديـــــــــــر شامـــــــــة
كأنما انتظرت دهرا لتوقظها الزغاريد المجلجلة المنبعثة من بيت شيخ القبيلة من غفوتها التي طالت ربما أكثر من اللازم .. شملتها رعشة عنيفة ولمعت عيناها ببريق غريب لم تنتبه إليه إلا من لازمتها من رفيقاتها وهن يندبن صباح مساء حظها العاثر ، ثم ابتسمت لمرور المنادي بين طرقات البلدة مهيبا بالأهالي القدوم لتهنئة شيخ القبيلة بازدياد حفيد له وحضور حفل العقيقة بعد أسبوع . شامة تبتسم ؟ هذا نذير شؤم ولا شك .. ذاك ما تفوه به فقيه البلدة الذي كان أول من حذر من مغبة ما تعرضت له شامة من ظلم .. شامة تبتسم .. بل وتدمع عيناها اللتان تحجرتا يوم كان الكل ينتظر منها نحيبا وعويلا ..
شامة – لمن لا يعرفها – كانت مضرب المثل في كل شيء .. الجمال والكياسة و الأدب .. الجميع كان يحب فيها تلك الروح المرحة وكل شيء فيها كان ينطق بالحيوية والطيبة .. إلى جانب ذلك ، حوت الفتاة مزايا قل من تتصف بها من بين قريناتها وهي في مقتبل العمر .. كانت تحسن التطبيب ببعض الأعشاب وتشفي الجروح معتمدة على وصفات ورثتها عن جدتها .. وكثيرا ما كان يتندر البعض قائلا إن المريض يكفيه النظر إلى عيون شامة ليشفى قبل أن يسري مفعول الدواء في جسده ..
شامة أحبت .. لكن حبها اصطدم برغبة ابن الشيخ في الزواج بها أو ربما فقط في الاستمتاع بها ردحا من الوقت ما دامت صبايا كثيرا تزوجن به عن طواعية أو مكرهات ، ليجدن أنفسهن كما كن من قبل وسط الحقول ، يعملن طول النهار ولا يرينه إلا لماما ، فتضطر أغلبيتهن إلى ملازمة بيت والديهن رفقة رضيعهن .
شامة أعلنت صراحة رفضها رغم نصيحة الكل بالتروي و المماطلة أو الهروب إن اقتضى الحال ..
- لن أماطل ولن أهرب .. من يكون ؟ .. فرعون زمانه ؟
فتزيد كلماتها من تأجيج رغبة الفتى المدلل وثورته ، ويقسم أمام الملأ أنها لن تكون لغيره حتى ولو اضطر لحرق البلدة بمن فيها .. وصار يتربص بها عائدة من المرعى عند الغدير وهو على جواده دون أن يجرِؤ على فعل شيء .. كان يكفي أن تتوقف وتنظر إليه مقطبة ليلوي عنان فرسه ويركض بعيدا .. فتجلس على حافة الغدير ساهمة وترمي بحجيرات على صفحة المياه الراكدة ..
في ذلك المساء الحزين .. عادت البقرات من المرعى في موكب تسير شامة في مؤخرته وهي تجر رجليها جرا .. وكأن البقرات أحست بمعاناتها وكانت شاهدة على ما حدث عند الغدير ..
تنزوي شامة في ركن مظلم من بيت النار .. تلاعب جمرات الكانون بقضيب حديدي وكأن الجمرات تستمد لهيبها مما يعتلج في نفسها وهي تتخيل الأدغال القريبة من الغدير حيث كانت تستحم في نشوة وبقراتها تنظر إليها حين تعلو ترنيمتها :
- العايلة مد يدك مدو
بالحناني ردو
العزيزة عليا
ثم ينتفض قلبها لرؤية قامة فارعة الطول وهي تنتصب أمامها وهي وحيدة مع بقراتها .. و الشمس تميل نحو قمة الجبل لتغوص في فيبدو كفوهة بركان .. لكن القامة الفارعة تحجب عنها كل شيء من حولها .
من ذا الذي يستطيع إقناع الشيخ بفعلة ابنه ؟ ومن ذا الذي يقدر على النيل من سمعته والانتخابات على الأبواب والكل يعلم باستحالة ذلك لما لكلمته وقراراته من وزن . فمن يريد الفوز ، عليه أولا بإرضاء الشيخ بكل شيء.. بالمال.. بالعرض.. بكل ما يشير به شيخ القبيلة .
فقيه البلدة وحده من أخذ بيد شامة بعد أن رفضت الأم التقدم بشكوى .. سأل الفتاة عما جرى فلم تجب سوى بإشارة بأصبعها نحو بيت الشيخ .. طرق الباب بعصاه الغليظة فانبرى الخادم بسحنته البليدة يسأله عما يريد ، ثم أطل الشيخ بجلبابه الفضفاض الذي يخفي كرشه المنتفخ وقد بدت على وجهه ملامح الانزعاج ..
تبادل الرجلان كلاما لم تفقه منه شامة شيئا . كانت كمن يعيش في عالم آخر ..عينان زائغتان وفم فاغر وشعر أشعث لم تتعهده بالعناية ككل صباح .
- هكذا إذن ؟ لم يمس ابنك شعرة منها.. ويتهمها ظلما بمعاشرة غيره .. ألا فلتعلم يا سيدي الشيخ أن الفتاة قد تفقد عقلها إن لم تكن قد فقدته فعلا بسبب ما حدث .. هي لم تبك لحد الآن و لم تصرخ .. لكنها سوف تفعل ذلك يوما ما .. بل ستفعل عكس ذلك .. سوف تبتسم وتضحك .. وحين يحدث هذا ، فإنه سيكون نذير شؤم عليكم ..
شامة تبتسم اليوم والزغرودة تجلجل من بيت الشيخ لتنطلق الاحتفالات والأفراح ليلا ونهارا .. غناء ورقص وسكر وأكل حتى الهزيع الأخير من الليل ليغط الجميع في النوم بينما صوت الفقيه يتعالى مؤذنا لصلاة الفجر .. لكن الآذان هذه المرة تصاحبه صرخة حادة تشق عنان السماء ، فيهرع الأهالي شبه نيام وينتشر خبر اختفاء الرضيع كالنار في الهشيم ويبدأ البحث في كل مكان ..
عند الأصيل .. وهناك على الجرف السحيق يتوقف الشيخ و ابنه وثلة من أهله في حالة يرثى لها من التعب والهلع .. يتطلعون بضراعة إلى شامة التي احتضنت الطفل وهي تنظر إليهم بتشف ..
- أهلا بشيخ القبيلة و ابنه البطل .. هل جئتما لتخليص ولي العهد ؟
فيجيبها الشيخ بصوت واهن مرتعش :
- كوني عاقلة يا شامة .. أنت تعرفين عاقبة فعلتك .. وأعدك ألا أحد يصيبك بسوء إذا عدت لرشدك و ناولتني الصبي ..
قهقهت شامة حتى تردد صدى ضحكتها بين الجبال وقالت :
- أنت خائف ؟ .. حقا .. ما سأفعله خطير .. أليس كذلك ؟ .. أنت تحب حفيدك .. وذاك التعس .. لم يفرح به كفاية ..يعز علي ذلك ..
- شامة ..
يتقدم فقيه المسجد وهو يشق الجمع وسط همهمة و نحيب تتبعه نظرات الرجاء والأمل ..
- شامة .. تعالي ابنتي .. لا تغضبي الله .. الصبي بريء .
- وهؤلاء ؟
سكت قليلا ثم أجاب :
- سيتولى الله أمرك .. اطمئني ..
- حسنا .. فلتعلن الحقيقة الآن و أمام الجماعة ..
ساد الصمت وتبادل الشيخ و ابنه النظرات ثم تقدما نحوها ، فتراجعت نحو حافة الهاوية .. عندئذ تعالت الشهقات وأغمي على زوجة الشيخ و كنته .. - ليست لديكما الشجاعة لقول الحقيقة .. الشجاعة والرجولة فقط للاعتداء على فتاة ضعيفة مثلي .
تميل الشمس للمغيب و تزيد صفرتها من وحشة المكان .. و تتأمل شامة الرضيع برهة ثم ترفع رأسها قائلة في حزم :
- مع أخر شعاع للشمس سأكون هناك في الأسفل مع هذا الصبي .
- شامة ابنتي .. الله يرضى عليك .. لا تكوني مجنونة ..
- مجنونة ؟..حتى أنت يا سيدي الفقيه ؟
أجهشت بالبكاء وقد خنقتها العبرات ..
- حسنا .. أنا الفاعل .. و اعترف أمام الجميع .. ماذا تريدين أكثر من هذا ؟ أنا على استعداد لدفع ما تريدين .. الآن هاتي الطفل .. وكفى من العناد .
سرت همهمة بين الحشد والعيون تتطلع إلى ابن الشيخ ثم إلى الفقيه وهو يتقدم بحذر نحو شامة ثم يتوقف قائلا :
- شامة ابنتي ..يكفي الآن .. هل هذا ما كنت تريدين سماعه ؟ أعطيني الصبي ..
يسود الصمت من جديد بينما تنظر شامة خلفها ، ربما لتتأكد من المسافة التي تفصلها عن الهاوية السحيقة .. وفجأة تأخذها نوبة من الضحك الهستيري حتى تدمع عيناها ثم تقول وهي لا تزال تضحك :
- حقا .. ما أجمل الشهامة و المروءة والتضحية .. هنيئا لك يا شيخ بهذا الابن البار ، لكن ..
يغوص قرص الشمس شيئا فشيئا وراء قمة الجبل ، وتضع شامة يدها اليسرى فوق عينيها ثم تقول :
- هيه يا شيخ .. ما بك ؟ .. ألا تعلن الحقيقة وتتحلى بالشجاعة مثل ابنك ؟
- أية حقيقة يا بنتي ؟ – يسأل الفقيه ممتعضا – لا شك أنك جننت ..
- لا يا سيدي الفقيه سيجن الشيخ حين يعلن فعلته ..
في تلك اللحظة و الأنظار تنظر إليها بذهول ، هجم الشيخ نحوها ، لكن يد ابنه امتدت تمنعه من ذلك ..
- سيدي الفقيه .. ليعلن الشيخ فعلته معي ..و أنا أسلمك الطفل .. وإذا أنكر أعطيتك الدليل ..
الشيخ في أوج ثورته يرغي ويزبد .. لكنه لا يستطيع الإفلات من قبضة ابنه ..
- الفاجرة بنت الفاجرة .. سوف ترين ما سيحل بك وبأهلك الأنجاس .. عن أي دليل تتحدثين أيتها اللقيطة ؟
- أنا أشرف منك ومن رهطك أيها الوحش .. أما الدليل فهو الخال الذي بجانب سرتك ..
- عيب يا بنتي .. عيب .. هذه ليست تربية والديك ..
- عفوا سيدي الفقيه .. لا تظلمني - ردت شامة منتحبة – لست أقل منك حرجا وحياء .. لكن لا بد من دليل على اعتداء هذا الوحش علي .. أعذرني سيدي فهذه ساعة الحقيقة . اسأله ..هل ينكر أم أضيف دليلا آخر أكثر وضوحا رغم خدشه للحياء ؟
ويطول الانتظار .. حتى يتسرب الملل و الإعياء إلى النفوس .. فتصيح شامة :
- يا أهل الجماعة . هذا هو شيخكم بوقاره و جلاله و كبريائه .. لم يجد إلا فتاة ضعيفة ليفرغ فيها نزوته وشهوته الحيوانية . وكان علي انتظار هذا المولود كي تظهر الحقيقة . أمي ماتت قهرا بسبب ذنب لم أقترفه . هل تحسون بمدى آلامي ؟ ها هو أمامكم .. هو وابنه .. من طينة واحدة .. أفيقوا وانظروا إلى أنفسكم كيف بهدلها الخنوع والذل، وكيف صارت بناتكم سلعة تباع و تشترى .. الآن أطلب منكم الانصراف ..لن تروني بعد اليوم .. فالوحش سيتربص بي .. ليبق سيدي الفقيه كي أسلمه الوليد ..
حتى الآن لا يعرف أحد أين اختفت شامة وأين تعيش .. الأقوال تتضارب .. البعض يؤكد سماع ضحكتها عند مرورهم بالغابة القريبة من البلدة .. و آخرون يشكون في التجائها إلى الكهوف المجاورة .. أما رفيقاتها فيظللن ساعات طويلة عند الغدير يتحدثن عنها بأسى ، ناظرات بين الفينة و الأخرى إلى المياه الراكدة و قعر الغدير الحالك ..غدير شامة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|