الريشة والحلم
[frame="10 98"]
[align=justify]
حاول في البداية أن يرسم عصفوراً، فأبت ريشته أن تستجيب.. كان مسكوناً بحب الطبيعة والفضاء الواسع.. يخرج صباحاً إلى الشوارع ويتأمل كل شجرة أو زهرة.. يعب الهواء بتلذذ وكأنه يتذوق طعم شيء يعشقه.. يزرع خطواته بهدوء، ويكاد يصافح كلّ يد يراها.. عرفه المخيم وتآلف معه فأصبح رسام المخيم، أو هكذا أحب أن يكون..
زوجته تناديه، فتشرد الريشة وتسقط.. يضع يده على رأسه ويضغط بأصابعه على الجبين.. يأتيه صوتها من جديد، فيضحك.. هناك بحة في الصوت تعيده إلى أيام حبهما الأولى.. كان مولعاً بتفاصيل وجزئيات صوتها.. ومرة رسم لوحة غريبة لتدرُّجِ صوتها.. بدت الألوان متداخلة، والخطوط في عناق ووئام.. لم تفهم شيئاً من اللوحة.. ولكنها استطاعت أن تلامس الكثير من الدفء والحنان.. قالت: غريب أن تنقل صورة الصوت بهذا الشكل)) قال "في عالم الفن لا يوجد مستحيل".. بالريشة يرسم.. بالفرشاة يرسم.. بأعواد الكبريت المحترقة يشكل لوحة ما..
لماذا تهرب الخطوط وتستدير.. قالها بحرقة.. ناولته الزوجة فنجان القهوة ورأت في عينيه حزناً وألماً وتمزقاً.. قالت "غداً سترسم.. الفن إلهام.. فلماذا تصر على جلد نفسك مادمت لا تستطيع الرسم الآن.." قال: "غريب أن تهرب الخطوط بهذا الشكل.. شهران وأنا أحاول.. تسقط الألوان وتذوب في الفراغ.." وضعت كفها على كتفه الأيمن وشدت بحنان، لوى عنقه وضغط بخده على يدها وكأنه يستمد القوة والأمل والقدرة على متابعة الطريق.. ابتسمت.. وابتسم..
الطبيعة الساحرة تهزأ من ريشته وألوانه.. الوجوه تمد ألسنتها وترفض أن تجلس أو تسبح في هذه المساحة من البياض.. شعر بالاختناق.. أخذت الأشكال تتزاحم وتتراقص أمام عينيه.. صور كثيرة متنوعة ومليئة بالدفء تقفز وتملأ الجو أمامه.. ولكن الريشة اللعينة تأبى أن تلين.. الوقت يمر.. صوت الزوجة ابتعد بعد أن غطّت في نومها.. هدأ المخيم وانسحبت الطبيعة لتنام.. كان يشعر أن هناك شيئاً ما لا يستطيع فهمه يقف في وجه ريشته.. لا يمكن له أن يتوقف كل هذه المدة عن الرسم دون سبب.. يصارع النعاس ويفتح عينيه بإصرار..
فجأة طار الحجر وشق ظلمة الليل.. اقترب منه أحد الأطفال وطبع قبلة على الجبين.. خرج المخيم وأخذ يصارع الاحتلال.. سقط أحد الأولاد جريحاً، حمله وركض به.. في المشفى فارق الحياة، ولكنه قبل لحظات صاح "تحيا فلسطين.. تحيا الانتفاضة".. شده إلى صدره وبكى.. حمل حجراً ورماه.. طار الحجر وأخذ يطلق حجارة في وجه الاحتلال، كل حجر منها كان ينقسم إلى حجارة وحجارة.. الحجارة تملأ الفضاء وتضرب الظلمة.. جنود الاحتلال يركضون بذعر.. لكن الحجارة تطاردهم.. يضحك الأطفال ويرفعون شارة النصر.. الحجارة ترسم علم فلسطين.. الأطفال يحملون الشوارع والبيوت والمآذن والأشجار على الأكتاف ويرقصون.. يأتي النهار بهيئة رجل ويشدّ على يده مهنئاً.. يضحك الرسام ويعانق الرجل.. العصافير تحمل الشمس بمناقيرها وتغطي بها سماء فلسطين.. تمتلئ المساحة كلها.. تنتهي الألوان.. تركض الخطوط ولا تعرف التعب.. تسقط الريشة بعد أن تراخت الأصابع.. أغمضَ عينيه ونام.. تسلل الأطفال إلى حلمه.. ضحكوا.. ركضوا.. ضربوا الحجارة في وجه الاحتلال.. فابتسم.. عندما استيقظت زوجته صاحت "يا الله ما أروعها" وأخذت تنظر بإعجاب إلى لوحة حملت كل دفق الانتفاضة وجمالها..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|