الذكريات
[frame="10 98"]
[align=justify]
الأيام تهرب من بين الأصابع، تتسرب كما قطرات الماء.. أرفع يدي.. أحدق في الساعة.. الواحدة بعد منتصف الليل.. السكون ضاغط.. الجوّ مشحون بالكثير من الذكريات، كانوا هنا، تحدثوا طويلاً عن الشوارع والهواء والشبابيك والبيوت.. كل واحد منهم أخذ يروي قصة عشقه للبيت هناك.. وبعدها انسحبوا.. الذكريات أثارت مواجعهم.. بعضهم دارى الدمع بيد مرتعشة.. السنوات عصفت بكل واحد منهم.. طويلاً حكوا للأولاد والأحفاد عن شجر وصور وأحلام.. وزعوا الوعود بأن يرقصوا أمام البيوت هناك.. وكان الأولاد والأحفاد يسمعون.. يحفظون التفاصيل ويشربون العمر ذكريات مقطرة صافية.. وهاهي فناجين القهوة مازالت على الطاولة أمام عيني.. كل واحد منهم شرب قهوته وتنهد.. نظر في الفنجان ووضعه مقلوباً على الصحن.. كنا من قبل نقرأ الفنجان بمرح.. أما الآن.. فبقيت الفناجين مقلوبة تنتظر اليد التي ترفعها، والعيون التي تقرأها.. ولكن من يريد مثل هذه التسالي الآن..
أبو العبد اشترى ناياً وأخذ يعزف.. قال "المجوز أفضل بكثير".. تذكر أيام كان شيخ الدبيكة في فلسطين.. كان معروفاً في كل مكان.. يستدعونه من آخر الدنيا.. يعزف ويدبك فتشتعل الأمكنة والأزمنة والحكايات.. كان مسكوناً بحب عائشة بنت الباشا.. ولم يكن أبوها باشا ولا يحزنون.. لكنه بهذا اللقب عرف واشتهر.. أصرّ أبو العبد على الزواج منها، حتى كان له ما أراد.. ويومها ـ أقسم أبو العبد ـ رقصت فلسطين كلها في عرسه.. يتذكر ويفتل شاربيه المعقوفين.. وصلنا الليل بالنهار.. أيام امتدت.. وهات يا فرح ويا رقص.. وتشرد عيناه، عائشة أم العبد ماتت في الغربة.. تركته وحيداً بعد أن تزوج الولد ورحل إلى بلد عربي آخر..
أبو منصور تمنى أن يموت هناك.. أن يدفنوه في مقبرة القرية.. وأخذ يحكي عن الغربة.. عن الشجر الذي يطال غيوم السماء.. عن البرتقال الذي لا يشبهه أي برتقال آخر.. الطعم غير طعم.. الرائحة غير رائحة.. هناك نكهة مميزة.. "يا حضرات والله ما عرفت طعم الحياة بعد أن تركنا القرية".. يمدّ لسانه ويمسح شفتيه.. يتناول أبو يوسف الحديث.. يقاطعه أبو إبراهيم.. كل واحد يريد أن يقول.. وتمتد الساعات.. تندلق أمواج الذاكرة، وتتوهج الحكايات.
الثانية بعد منتصف الليل.. الفناجين مقلوبة على الصحون.. زوجتي تمدّ صوتها من الغرفة الأخرى.. "ألا تريد أن تنام يا رجل ما بك" وتعود إلى نومها.. الهواء ثقيل.. ترتسم وجوه الأولاد.. كل واحد منهم ذهب إلى مكان.. تزوجوا.. البنات والشباب.. عدنا وحيدين كما كانت البداية.. أحياناً تبدو الحياة مضحكة.. تذكرت أيامي الأولى مع وعد.. حب طويل، الزواج.. أحلام كثيرة.. صور وحكايات.. ثم كانت دورة الحياة.. دورة الأيام.. جاء الأولاد.. كبروا.. توزعوا في الأرض.. كثيراً سألوا.. كل واحد منهم حمل زوادة من الحكايات عن الوطن.. البيت.. الشوارع.. وعد تحكي.. وأحكي.. نصف الأشياء الصغيرة والكبيرة.. وتمتد الضحكة طويلة، طويلة، حين نحدثهم عن حبنا.. زواجنا.. البيت الذي ملأناه دفئاً وأملاً هناك في فلسطين.
الثالثة بعد منتصف الليل.. الفناجين مقلوبة.. أتناول واحداً منها.. أقلبه.. تنغرس عيناي داخله.. الخطوط غائمة.. عيناي دامعتان.. في الفنجان صورة بيت وشجرة وشارع.. يرتفع صوتي "أمامك طريق يمتدّ.. أمامك وطن.. أمامك بيت" يرتفع صوتي أكثر.. عيناي تغيمان.. يدي ترتعش.. أصرخ "أمامك .. بيت.. وطن.. بيت" يختنق صوتي بالدموع.. ويأتي صوت زوجتي من البعيد.. البعيد.. يكبر الفنجان في يدي.. يضحك الشارع.. وينهمر المطر من عيني غزيراً..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|