الصراع في تاريخ الحركات العلمانية و الإسلامية يشمل مواضيع شهيرة تتصل بالتصور السياسي و الأخلاقي و الأديولوجيا بصورة شاملة لنمو المجتمعات الإنسانية و سموها على مختلف المشكلات التي تعاني منها. رغم أن الصراع العلماني الإسلامي في بعده التاريخي الموضوعي مستهجن و مفسر بالأخطاء التأويلية فإن كتابة مقال عن هذه القضية العتيقة تتطلب استرجاع بعض الأحداث التاريخية التي وضعها كلا الفريقين في مستوى جدالي معقد يذيب محاولة المصالحة في دعم أحد الفريقين المتنافرين دون الآخر.
كلنا نحقق مقدار الفهم الأدنى لتجليات الخلاف الأخلاقي في أفكار العلمانيين و الإسلاميين و لن نخاطر بإعادة مناقشته و إنما يجب أن يفهم الفريقين أن للتصادم الأخلاقي الذي تتسم به دعوتيهما المتباينتين حدودا يرسمها المواطن. جميع الكتابات التي تناولت الصراع العلماني الإسلامي تعتبره قضية للمتابعة الفكرية المتأنية، و كما أوردت في الفقرة الأولى فإننا لن نقدم مجددا مقاربة إلى هذا الصراع المتجذر، ما يهمنا أن يبقى في إطاره العلمي الذي تتنافس فيه الأطروحات و النقد البناء. لكن الباعث على التدخل و الإدلاء بالرأي هو خروج هذا الصراع عن دائرته الملائمة و تأثيره على الحقوق الشخصية للإنسان و من بينها:"اللباس" الذي أصبح نقطة عراك محتدم بين الحركتين المشكلتين للسياق العام للفكر العربي.
في تركيا، أفلح الحزب الإسلامي في اكتساح ملاحقيه السياسيين في الإنتخابات التشريعية و الرئاسية، و كان واضحا أن الشعب أدلى بكلمته الفيصلية، أدى المهمة الديمقراطية الوطنية الموكولة إليه من خلال مشاركته الفاعلة و الواسعة في إنجاح الإنتخابات التي تعبر الملتقى الديمقراطي المحدد لعصرية الدولة و تطورها. و قد أفضت إرادة الشعب إلى اختيار قيادة جديدة تتناقض مرجعيتها الأيديولوجية مع الموجود السياسي الذي استلزمه التاريخ، فالأتراك العلمانيون يتخوفون من أن ينقلب الفوز البارز للإسلاميين بالسلطتين التشريعية و التنفيذية إلى تدمير تدريجي للعلمانية التي أرساها نضال كمال أتاتورك. إن التخوف الذي أعرب عنه الإصطفاف العلماني في تركيا يتعارض مع الغاية الديمقراطية التي رفعها العلمانيون شعارا لنشاطاتهم في العالم بأسره و ليس في تركيا فقط. الصندوق الإنتخابي الذي يعتبر رمز الديمقراطية الحديثة أوصل الإسلاميين إلى الحكم و لا يوجد أي مبرر لممارسة الخناق على النظام الجديد بواسطة المؤسسة العسكرية، نقد سياسات النظام السياسي و تقييم أدائه يتحقق باستخدام التظاهرات الجماهيرية المنظمة و استخدام الإعلام و ليس بالتركيز على مسائل غير منتجة كالخبر الغريب الذي تداولته الفضائيات الإخبارية مؤخرا عن وجود معارضين أتراك لإرتداء السيدة الأولى لبلدهم الحجاب. لقد لاحظت كما لاحظ كثيرون أن اللباس أصبح المظهر الصراعي الجديدللخلاف العلماني الإسلامي و هو ما يدعو إلى التأكيد على أن المسائل السجالية في العلاقة المتبادلة بين العلمانيين و الإسلاميين تتحول تدريجيا إلى سخرية و تهكم على المواطن الذي يقول كلا الفريقين أنهما يكافحان من أجل رفاهيته. ما الذي يربط المواطن بنوع اللباس؟ هل يريد العلمانيون أن يفهمونا أن المرأة التي لا ترتدي الحجاب أكثر ذكاء و وطنية من المرأة التي ترتديه؟ و هل يريد الإسلاميون أن يفهمونا أن المحتجبة سيحميها الله و سيرعاها أكثر من غير المحتجبة؟ متى كان الحجاب معيارا للمفاضلة الإلهية و الإنسانية بين النساء؟ معيار المفاضلة هو الكفاءة الوطنية في مغزاها العظيم. أ لم نقرأ عن تلك الروائية الأمريكية-الصينية العظيمة(غير المحتجبة) التي أحبها المسلمون قبل المسيحيين لوفائها للقضايا الإنسانية دون تمييز؟أ لا يسرد علينا التاريخ السيرة التالدة للسيدة أنديرا غاندي؟ أ لا يقف المسلم و غير المسلم مقدرا لهذه المناضلة الهندية الخالدة؟ و المرأة العربية، التي تستهدفها الكتابات الظلامية و المتطرفة من كلا الفريقين حتى أن الإستهتار بحقوقها المدنية المقدسة دفع بعض من يسمون بالفقهاء إلى أن يخيطوا لها اللباس الملائم في اعتباراتهم الهزلية، كما دفع الحرص على تكيف المرأة العربية مع مستجدات العهد المستحدث وزير الثقافة المصري و هو علماني متشدد إلى القول بأن الحجاب مؤشر على التخلف. المرأة العربية هي التي تحدد مطالبها و هي صاحبة المشروعية الأقوى من التحجر الإسلامي أو التطرف العلماني، سواء المحتجبة أو غير المحتجبة أ ليست ذخيرتنا الأخلاقية و الوجودية التي لا تنضب؟ كيف يسمي نفسه مثقفا إسلاميا أو علمانيا من يتجاوز الهدف من التفكير و المختزل في ابتكار مقاربات ترقى بمجالات الإنتاج و الإبداع الإنسانيين ليجادل في مسائل خاملة؟ سواء في تركيا أو في منطقتنا العربية التي تتلاحق عليها الإلتهابات العرقية و المذهبية.
من اختار الرهبانية و الإعتكاف و التصومع فيعد مسيئا لمسيرته التعبدية المحترمة أن يسقط توجهاته على الناس و قبل كل شيء على أسرته و أقربائه، فليغادر المدينة، و ليرحل عن القرية، ليأوي إلى مكان سحيق و لينعزل عن الحضارة و لينقطع عن الجدلية التاريخية، إلى مكان مهجور، و ليتصومع كيفما شاء، و لو اختار العيش وسط الذين يريد التسلط عليهم فإنهم لن يمقتوه و لن ينبذوه، لأنه بالنسبة إليهم، شكل من أشكال عديدة و متنوعة من جمال الطبيعة....من جمال الله. أتمنى أن لا تؤثر مسرحية الحجاب الهزلية على تصوراتنا الإنسانية المرتكزة على المواطنة القومية المبدعة و الحركية، فهي مسرحية تنتقص من العقل العربي و هو يعي خمولها الموضوعي فقد أخرجها متطرفون اسلاميون و علمانيون. هذا من منطلق موضوعي، أما من المنطلق الشخصي البحت فإنني ألقي بالمسؤولية كاملة إلى المرأة، هي وحدها من يقرر ارتداء الحجاب أو التخلي عنه، في كلا الخيارين، فهي امرأة لها حقوق و عليها واجبات و تعيش داخل مجتمع له خصوصية ثقافية