[frame="14 98"]الحاجز*[/frame]
قصة بقلم : نبيل عودة
تعكّر الجو منذ بداية هذا اليوم، عندما كان أحمد في طريقه الى عيادته، اعتراه شعور من القنوط والتهيّب الذي لم يعرف له سبباً.حاول ان يعود بذاكرته الى اللحظة التي فتح فيها عينيه هذا الصباح... علّه يجد جواباً لما يعتريه الآن وهو يقود سيارتة.. ساعة استيقاظه هي نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة منذ فتح عيادته... حتى ايام الراحة يستيقظ تقريباً في نفس الوقت، مع فارق بسيط انه يتأخر في خلع البيجاما.. الا اذا طُلب لعيادة مريض ما.. ولكن منظر الشوارع المألوفة والمعروفة له منذ نعومة أظفاره يجعله قانطاً ومتهيباً من شيء مجهول. اغتسل وارتدى ملابسه.. زوجته واصلت النوم كعادتها.. سخَّن الماء، أعدَّ كوب شاي بالنعنع، ارتشفه ببطء وهو يسمع نشرة الأخبار، رطَّب وجنتيه وعنقه ببعض الكولونيا.. شدَّ ربطة عنقه، تناول حقيبته وخرج وزوجته لا تزال تغطُّ بالنوم، تفاصيل روتينية يكرِّرها كل يوم.. اذن ما الباعث لشعور القنوط والتهيب؟! شغَّل محرك السيارة لعدة دقائق.. ثم انطلق في الاتجاه المعتاد الذي الفته عيناه.
*************
الأحداث في القطاع انفجَّت منجديد. عدد مجهول من القتلى وعشرات الجرحى. هذا ما فهمه أحمد من المكالمة التلفونية، حيث طلبوه في المستشفى للمساعدة. هذا الطلب بحدِّ ذاته يشير الى العدد الكبير من الإصابات الصعبة. بعد ذلك فهم الحادث بالتفصيل.. "بداية" الحادث ان دورية عسكرية اعترضت مجموعة من التلاميذ المتوجهين للمدرسة، وأمروهم بالتفرق وعدم السير الجماعي نحو المدرسة.. ويبدو ان التلاميذ لم يبلعوا الاستفزاز هذه المرة. فالتراكم يولد الانفجار، هذا مفهوم، أحمد نفسه كاد ينفجر مرات أمام الحواجز... ولكنه يبلعها في اللحظة الأخيرة، المؤكد ان التلاميذ لا يملكون ضوابط كالكبار. والمؤكد أيضا ان الانفجار سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد... انما هي سلسلة متواصلة من الإهانات اليومية المتكررة.. ان تعيش تحت طقطقة الأعقاب الوحشية، ان تعيش طفولتك وشبابك أمام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة.. ان تعيش كل يوم في انتظار الفرج الذيلا يبدو انه قريب.. ان تعيش حالماً بالفرح الانساني، بينما واقعك مليء بالترقّب لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط له. ربما قاعدة الحياة صارت تختلف. ساعات الهدوء في القطاع والضفة هو الشذوذ. بينما الانفجار يكاد يتحول الى قاعدة. هذه الافكار راودت أحمد خلال توجهة السريع الى المستشفى. كانت تتنازعه شتى المشاعر والاحاسيس، ويحاول ان يضعها في إطار منطقي.كثير من المسائل لا يستطيع قبولها اي منطق. مثلاً، مسألة القتل اليومي.. القتل بمفهومه المباشر.. ان يطلق جندي ما رصاصة فيسقط فلسطيني. او القتل بمفهومه الانساني، باستمرار الوضع القائم.. الحياة تحت أعقاب البنادق وتحت أحذية الجنود،ومواجهة عملية الإذلال والبطش اليومي؟! القتل بمعناه المباشر قد يبدو أكثر انسانية من مواصلة الحياة تحت حراب الجند وأحذيتهم.. القتل يعني نهاية المعاناة. هل تكون عملية تخليص شعب من معاناته، بقتله، بتصفيته جسدياً؟! قد تبدو هذه الفكرة إنسانية في هذا الزمن الرديء.. "ام الزمن العربي لوحده الرديء في هذا العصر؟!" سأل نفسه واستطرد مفكراً: -الدول العربية لا تحرك ساكنا لفضح الواقع المأساوي لشعب صار القتل حادثاً يومياً في حياته.. حتى رد فعل بسيط معدوم، مع انهم يدّعون ان فلسطين قضيتهم الاولى؟! شيء يثور في أعماقه، يتمرد، يتضخم ويكاد ينفجر. صراخ غاضب يشعر به محبوساً في صدره، يهزه من الداخل فيضغط على نفسه ويضغط. وتشده أفكاره مرة اخرى: -يجب ألا نسمح بتحويل قتْلنا الى عادة.. الى روتين يومي. الدول العربية.. لتذهب الى الجحيم.. انها لا تفعل سوى ان تهتم بدعم مجموعة من زلْمها.. ان تكون من جماعة دولة ما لذلك ثمن تقبضه، حتى الدين صار له ثمن. ان تطلق لحيتك، وتتبع فئة معينة، لذلك اجرة معينة، ليس عند ربك، بل فئة لها مصلحة في ابتعادك عن مشاكل مجتمعك. صرنا نعيش في جحيم التفاهات، وهي للحقيقة تتلاءم مع زمن تسيطر عليه قيم وأخلاق التفكير الاقطاعي، ومثل ورموز عصر النفط، الا الفلسطيني... لا ثمن له. الانسان لا ثمن له!! هل يفقد ثقته؟! كان منطلقاً بسيارته نحو المستشفى يعبر الشوارع شبه الفارغة الا من بقايا الحجارة المقذوفة... وهنا وهناك لا تزال المناوشات مشتعلة. ودوريات تزعق في شتى الاتجاهات.. والرصاص يعوي كما كلب.. تارة يشتد عواؤه وتارة يخفت.. والدخان يتعالى من عدة نقاط في المدينة المتمردة... ربما هذا التمرد هو ما يعطي لهذا الشعب هذه القدرة على الاستمرار وتحدي المعاناة.. المعاناة قد تكون سببا للقنوط، الواقع المأساوي قد يكون سبباً للقنوط، انتظار ما هو أسوأ هو سبب أكيد للقنوط.. ومن المؤكد ان الانفجار يحمل في طيّاته الرفض للتفاهات التي نمارسها دون اقتناع... نمارسها لاجل الثمن المدفوع. يثلج الصدر ويخفف الواقع الاجتماعي ان الأجيال الجديدة تواصل التحدي، رغم الليل الذي يحيكه مِن حولهم بعض ذوي القربى والأعداء، رغم تباين المواقع، يواصلون التحدي في الشوارع، رغم الجند المدجَّجين بالسلاح.. يواصلون التحدي في الشوارع.. ويرفضون الصَّمت على مضاضة. يؤلمهم الصمت الرسمي للأشقاء العرب.. ولا ينتظرون حسنة من أحد. يدفعون دمهم ثمناً لصمودهم. استمرار الهيجان يخفف من عبء القنوط.. يتخيل الجثث الشابة المقتولة.. والأجساد المشوهة.. فيزداد أحمد قنوطاً وألماً داخلياً. أمام الحاجز لم تنفع إشارة الطبيب الملصقة على السيارة... أنزلوه وأجروا عليه تفتيشاً وفحصاً لأوراقه وسيارته، بحثوا عن أسلحة يحملها، ربما حجارة.. فتحوا حقيبته الطبية وأفرغوا محتوياتها على مقعد سيارته.. وجسّوها بتأنٍّ خوفاً من إخفاء حجرٍ او ربما تعويذةٍ مضادة للاحتلال. أصوات طلقات غزيرة.. وبعض الحجارة تكاد تصل للحاجز من الشوارع المحاذية.. ومع زخات الحجارة يرعد اسم فلسطين بآلاف الحناجر.. مئات البالونات لوَّنت بأعلام فلسطين طُيِّرتْ في الفضاء.. أثارت عصبية الجنود فأمطروها بعشرات الطلقات.. ولكن السماء تمتلئ بأعداد متزايدة من البالونات الملونة بلون العلم الفلسطيني..لاول مرة منذ هذاالصباح يتحرّر من قنوطه. كم يودُّ ان يقذف حجراً، ان يركض مع آلاف الشباب.. وان يجهده العرق.. وان يطيِّر بالوناً ملوناً بالعلم الفلسطيني، وان يصرخ بأعلى صوته باسم فلسطين. يتلذَّذ وهو يسمع الصدى الرهيب لتساقط الحجارة وأصوات الطلقات وصرخات الجنود المتفاجئين من هذا المطر المؤذي... ينظر نحو الضابط ذو الأصابع المنتفخة.. الذي يلوك سيجارته بحقد، ونظراته تحمل الكراهية خلقة... ويتهادى في مشيته كأبطال الكاوبوي الأمريكيين... ويكزّ على أسنانه مع كل زخَّة فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة.
أجل لماذا القنوط ؟! حبس ضحكة كادتْ تفلت منه عندما اعترته رغبة مجنونة ان يمدّ ذراعه اليمنى مبرزاً إصبعه الأوسط نحو وجه الضابط... وليكن ما يكون، ولكنه زجر رغبته الطبيعية، واكتفى ان يتزوّد من وجه الضابط المضحك المثار كلما دوَّى اسم فلسطين، أقوى من الرصاص والعساكر... استغرق تفتيشه على الحاجز لدقائق قليلة ولكنها متوترة قاسية. وربما لاول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلاً. احساس من القوة يتسرّب اليه، وتأخذه أفكاره بعيداً... قال لنفسه: - نحن أقوى منهم ... هذا لا شك فيه... ان تواجه قاهري كل العرب ببعض التلاميذ، وبعناد لا يعرف نهاية ولا رادع، وبإصرار على الحق لا يهتز...
- سع ( سر بالعبرية ) أمره عسكري، فانتشله من أفكاره. أراد ان يقول "تودا رباه" ( شكراً ) كما تعود ان يكون لطيفاً، وهو يعرف انه يقولها مجبوراً مقهوراً... ولكنْ، ولسبب ما، بدت له هذه المرة قذارة لا يستطيع التفوُّه بها. وهو في مثل هذا الموقف. هل يشكرهم لانهم احتلوا وطنه ؟! هل يشكرهم لانهم شردوا شعبه؟! هل يشكرهم لانهم يقتلون شعبه منذ أربعين عاماً؟! هل يشكرهم لانهم يحولون حياة من بقي في الوطن من شعبه الى جحيم؟! وهل.. وهل.. عشرات الأسئلة تنهال عليه.
ينظر اليهم نظرة كراهية، شاعراً انه جزء من الشباب الذين يواجهون عساكر الاحتلال بالحجارة والأعلام الطائرة، وبدويّ اسم فلسطين الرهيب الوقْع على أسماعهم،والأقوى من كل جبروت الاحتلال المرئية والمخفية.
لا، لن يخيفوا شعباً يتمسك بوطنه!
شغَّل موتور السيارة.. ألقى نظرة على الكاوبوي الثخين، ذي النظرة التي تحمل الكراهية خلقة.. وبدأ يتحرك نحو الأمام.. حين اجفلتْه ضربة الحجارة.. وأصوات طلقات نارية وقنابل غاز.. فتحول الحاجز الى "حيص بيص".. والارض امتلأت بالحجارة وزجاج القناني.. وبزجاج سيارته والسيارات العسكرية.. تسمَّر في مكانه ظانَّاً للوهلة الاولىان عساكر الحاجز يهاجمونه... التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكاوبوي منبطحاً في منتصف الشارع ينزف دماً، ويكاد يكون بلا حراك...احتار ان ينطلق بسيارته مبتعداً ام يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دماً.. كان زجاج سيارته الخلفي قد تحطَّم تماماً، وتركت الحجارة معالمها الواضحة على جسم السيارة..
استمر أحمد في حيرته :
- هل أسعف ذلك الكاوبوي الثخين؟! تردَّد مرة اخرى هذا السؤال، ورد على نفسه:
-انه عدوٌ حاقد..
- انه مجرد إنسان ينزف..
- أنت ضعيف امام منظر الدم البشري ؟
- أكرهه كعدو.. لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟
- ليذهب الى الجحيم.
- ليس ذنبه انه وحش.. مساعدة إنسانية قد تغيره.
- وهل يتحول الذئب الى شاة؟
- لا تخلط.
- التلاميذ الجرحى بالشوارع.. الدم المسفوك في المخيمات.. أحذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم.. أطفالنا المقتولون بلا رحمة..
- الوقت لا يسمح بالجدال.. أسعفه ثم نرى.
- هل كانوا هم يسعفوني لو كنت انا المصاب؟
- انت طبيب والطب مهنة انسانية!
- ولكني فلسطيني.. والحديث هنا عن عدو.. وليس مجرد عدو.. أربعون عاماً ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا!!
- كفى كفى!! سنعالج قضية فلسطين فيما بعد، انه ينزف ولا تنسَ انه بشر مثلنا.. إنسان!!
- إنسان..؟! كم يضحكني هذا الوصف.
- الوقت لا يسمح بالسخرية.. أنقذ الانسان الذي فيه..
- لو كان فيه بقية إنسان لرفض الاحتلال.لرفض ان يمارس العنف ضد شعب مشرَّد أعزل؟
- ليس ذنبه...
- وهل ذنبنا اننا نطالب بحقنا؟
- لا تفقد إنسانيتك.. تذكَّر ان قوَّتنا في إنسانيتنا
. - أعرف.. ولكني لاأستطيع ان أنسى انه عدو شرس، لا يرحمنا، وما يحدث الآن يثبت ما اقول.
- انت طبيب وهو مجرد جندي مأمور..
- بأي وجه سألاقى زوجتي.. بأي يدين سأرفع إبني.. ماذا أقول لجيراني.. ماذا اقول لمن ثكلوا عزيزاً عليهم..؟
- إنسانيتنا هي قوّتنا، اذا فقدناها فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا.
- وهل يصحّ لهم ما لا يصح لنا؟
- لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي.
- الانسانية الزائدة تتحول الى هبل!
- نتجادل فيما بعد.. انت طبيب، وهو ملقى ينزف دماً، لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الالام.
-أعرف ذلك.. وأعرف أكثر انه عدو لا يرحم. يضحكه لون دمي. جراحي تزيد شراسته.عذابي يثير هزأه.. وفلسطينيتي تثير أدنى مشاعر الساديّة في نفسه.
- الجدال الآن عقيم. تبقى حقيقة واحدة كبيرة.. لن نسمح لاحد ان يسرق منا إنسانيتنا.. واثبت ذلك الآن.
أسعفه !!
فتح أحمد باب سيارته، ونظر الى الكاوبوي الثخين الملقى بلا حركة منذ لحظات، كانت آلاف العوامل المتناقضة تصطرع في نفسه، تحرّك مكرها نحو الانسان الملقى.. فحصَه فحصاً سريعا، وفوجىء ان نبضه غير محسوس. دويُّ الرّصاص في أذنيه والحجارة تتساقط حوله، وهو يُجري تنفساً اصطناعياً للضابط الملقى.. إنسان.. عدو. تشربكت المفاهيم في دماغه، ولم يعد يفكر الا بأنه يواجه صراعاً مع الموت، وعليه ان ينتصر للحياة ضد الموت، كان يضغط عدة ضغطات قوية على صدر الضابط.. ثم يعطيه نفساً من الفم للفم.. ويعاود الضغط الرتيب، وإعطاء النفَس، والجنود حوله يطلقون النار بلا وازع.. وهو، حين تعاوده الأفكار يشعر بالحيرة، او الضياع في حيرته ومتناقضاته. لا يعرف.. هل يعبّر بذلك عن إنسانيته ؟.. ام عن هزيمته كإنسان؟.. ويكاد يتيقن انه يواجه انشطاراً في شخصيته، بين فلسطينيته ومهنته. لأوّل مرة يعتريه شعور القرف من مهنته. لماذا يسمّونها مهنة إنسانية؟ هل ما يقوم به هو عمل إنساني ؟ام هزيمة إنسانية؟ ومع ذلك يقاتل لاعادة النبض والحياة لهذا الضابط ذي النظرات الحاقدة خلقة. يرتسم في خياله ابنه، يحاول ان يرفعه بيديه فيهرب الطفل رافضاً اليدين اللتين أنقذتا عدواً. حتى زوجته الهادئة ترفض ان يضمّها بذراعيه.. يشعر بدمعتين في مقلتيه.. يواصل الضغط بعناد.. محاولاً التخلّص من أفكاره، مبتعداً عن مشاعره المتضاربة ومتناسياً تناقضاته وعذاباته. انه يساعد عدواً بينما عشرات أبناء شعبه ملقون ينزفزن دماً.. ليس الآن وقت هذه الافكار. ونبض الضابط لا يتحسّن. يواصل الضغط الرتيب على الصّدر وإعطاء التنفّس فماً لفم. يفحص حدقتي العينين، ويواصل القتال ضدَّ الموت. كم تمنَّى قبل لحظات ان يمدَّ كفه بإصبعه الأوسط في وجه الضابط الملقى الآن بلا حول.. وها هو يقاتل لاعادته للحياة، ماذا يقول لجارته التي فقدت ابنها قبل اسبوعين؟ ماذا يقول لزملائه ومعارفه؟ هل يفتخر انه انقذ عدواً؟
شيء من الهدوء ساد حوله، وركض نحوه أحد الجنود مستفسرا ان كان يستطيع ان يساعده بشيء.. طلب منه شيئاً مرتفعاً ليضعه تحت الرقبة.. وما هي الا لحظات حتى كانت بطانية مطوية توضع وراء رقبة الضابط.. ليتدلَّى رأسه الى الخلف أكثر.. واصل أحمد الضغط الرتيب بعناد أشدّ، شالاًّ كل صراعاته الفكرية مع نفسه، طارداً التخيلات المقلقة، مُجهداً نفسه بعناد لاعادة التنفّس الى الشخص المسجّى على الأسفلت. لا يعرف كم استغرقه من وقت،لكنه كان في منتهى درجات الإجهاد.. ولا يستطيع ان يحكم على نتيجة تصرفه... ويعرفتماماً انه سيتعذب ويتصارع مع نفسه.
وصلت سيارة إسعاف عسكرية، شكره مَن فيها!! يا للمهزلة، يشكرونه على أمر هو نفسه لا يستطيع إدراك صوابه، شعر ان القنوط يعاوده من جديد، يحاول ان يطمئِن نفسه.. فلا يدري كيف يطمئِنها.. تعاوده الأفكار المتباينة.. فلا يكتشف نفسه الا وهو في المستشفى. فيغرق في عمله مدركاً ان الإجهاد والإرهاق أفضل طريقةلراحة الدماغ.
******
عذّبته تلك الحادثة.. وكان خبَرُ ما فعله مع الضابط قد انتشر، صحيح ان ابنه وزوجته بقيا على نفس الحب والتعلق، حتى جارته الثاكل تبتسم له وتتمنى له كل خير. ينظر بوجوه الناس، فلا يجد الملامة، انما الحب الذي تعود عليه, لشدّ ما كان يجهل حقيقة شعبه، ولشدّ ما يزداد حبه لهذا الشعب. ان تكون طيبا لهذه الدرجة، ان تكون متسامحاً إلى هذا الحد، ربما في ذلك بعض التهلكة. ربما هو سببُ ضياعنا كل هذا العمر.. أو يكون سبب تحكُّم الأرذال برقابنا، ناتج عن طيبتنا وتسامحنا؟ الحرب خدعة ولكنهم يلعبونها واضحة كضوء الشمس في الظهيرة.
ايام واحداث كثيرة مضت، والهدوء في السنة الاخيرة بات شبه نادر.ولكن شعبه يواصل الحياة بعناد، والنساء تواصلن الإنجاب، والشوارع ملأى بالصغار، والشهداء يكرَّمون بشتى الوسائل،.. أسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة تسمّى بأسمائهم، والمواقع تسمّى بأسمائهم، عالَمٌ كامل ولد ويولد عبر الصمود.. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية... ولكن أحمد، رغم ما مر عليه، لا يستطيع ان يضع ما فعله في إطار واضح مقبول. بقي شيء غريب يستفزه كلما اختلى الى نفسه من مشاغله. يستفزه ويعيده الى صراعاته الفكرية. يحاول ان يفلسف تصرفه اعتماداً على تقبل الناس. ولكن شيئا يتمرّد في داخله ويرفض. عندما يقرر بينه وبين نفسه انه أخطأ، تثور في نفسه عوامل مضادة تثبت له انه تصرّفَ كطبيب وإنسان. ما كان من المعقول ان يتخلى عن إنسانيته. يلتبّس عليه الموقف ويؤرقه.. ربما دافع مجهول أورده هذا الموقف؟يعاود محاورة نفسه.. ثم يغرق في العمل. صار يُكثر من التأمل والتفكير، ولا ينسى حادثته الا أحياناً، خاصة عندما يغرق بملاعبة ابنه الصغير.. ضحكات الطفل العذبة تنسيه صراعاته الفكرية. ترى هل عند ذاك الضابط ارتباطات عائلية مثله؟ هل له طفل كهذا، يضحك بعذوبة، ويدخل السعادة لصدر والديه؟ وهل تبقى الكراهية في نظرات الضابط وهو يلاعب طفله؟!
في عصر أحد الأيام انطلق أحمد ترافقه زوجته في طريق العودة الى البيت، يحملان بالسيارة ألعاباً وحلويات، فاليوم عيد ميلاد الصغير.. لذا أنهى أحمدعمله باكراً، ورافق زوجته للتبضّع، وهاهما الآن في طريق العودة الى البيت. يستمع أحمد من زوجته لنوادر الصغير، ويبتسم ناسياً ما يعذبه من أفكار، سارحاً في عالم الطفولة الجميل، وزوجته اللّبقة، وصاحبة الخيال الواسع، تعرف كيف تنقل له الحديث بتفاصيله، بحيث يبدو وكأنه يحدث الآن أمامه.
وإذ اقترب من أحد الحواجز العسكرية المنتشرة كالسرطان في الشوارع لمح ضابطاً أثار انتباهه.. وسرعان ما اكتشف انه الضابط نفسه، الكاوبوي المنتفخ، ذو النظرات التي تحمل الكراهية خلقة. تسمّرت عيناه فوق وجهه.. أكيد هو، نظراته لم تتغير، السيجارة يلوكها، وأسنانه صفراء..لا يعرف ان كان يسعده ذلك ام يخجله. الضابط يتجاهل نظراته، ويعطي اشارة السماح بالمرور دون تفتيش، يبدو انه اعتراف بالجميل.. ولكنه جميل مرفوض. يريد ان يفتشوه كما يفتشوا غيره. يرفض هذا الشكر والاعتراف بالجميل. لم ينقذه لانه ضابط، بل لانه إنسان..آه.. ما أسخف هذا التعبير أحياناً.
أصرَّ العسكري عليه ان يواصل السير.اعترتْه للحظة فكرة مضحكة في غرابتها.. يطلقون عليه النار، ويعلن الناطق العسكري ان سيارة رفضت الامتثال للأمر بالتوقف عند الحاجز.. فأُطلقت عليها النار!! هل يمكن ان يكون الاعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز عن تصور ذلك. ألقى نظرة اخرى عبر المرآة على الضابط، فشاهد كرشه الممتلئ والمدكوك داخل البنطال العسكري عنوة. واصل ابتعاده عن الحاجز وهو يوضِّح لزوجته ان الضابط اياه هو نفس الضابط الذي أسعفه وأنقذه من موت مؤكد. وحاول ان يعترف أمامها بحقيقة ما يتنازعه من مشاعر وأفكار حول تصرفه.. لقد صدمته رؤية الضابط وأطارت من رأسه نشوة الحديث عن الصغير ونوادره، ووجد نفسه مضطراً ان يوضح لأقرب الناس اليه حقيقة مشاعره مما حدث. علَّه بذلك يتخلص مرة والى الأبد من عذابه وتناقض مشاعره وضغط أفكاره.
فجأة اهتز كل جسده.. ارتعد من أصوات طلقات حادة تخترق زجاج سيارته، داس على الفرامل هارباً في الوقت نفسه لاقصى اليمين، ملتفتاً في الوقت نفسه نحو مصدر النار. كان الضابط إياه يقف أمام الحاجز، شاهراً مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية.. أثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما يحدث.. ربما أطلقت في بداية الحدث صوتاً ما.. لا يذكر.. التفت اليها وصعق.. توسّعتْ حدقتا عينيه لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته... تنازعتْه شتى صنوف الألم والحقد، يرفع ابنه الصغير بين يديه، فيبصق الصغير بوجهه.. يحاول ان يضم زوجته فيصدُّه دمها المتفجر... يبحث عن صوته ليطلق صرخة، فلا يخرج من فمه الالهاث متقطِّع، تنخرّس الكلمات، وطفله يركض وراء نعش ينادي بأعلى صوته: "ماما". لغمٌ ينفجر بالصغير فيرتقع عمود دخان.. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي، يبحث عن طفله فلا يجد الا بقايا قدم بحذاء طفولي ممزّق. يرتمي عاجزاً فوق مقود السيارة، متخبطاً في موقفه.. يخبط رأسه بالمقود حتى يشعر بالألم والدم يتفجر من رأسه.. ينظر نحو زوجته المقتولة.. وفجأة يعود اليه صوته فيصرخ بأقوى ما يستطيع.
يشغِّل موتور السيارة، ويأخذ المقود الى اقصى اليسار.. ينطلق بسيارته مشتَّت الذّهن ودمه يسيح على وجهه.. نظراته مسمّرة نحو الحاجز.. والألم يكاد يمزقه من الداخل، والضابط الكاوبوي أمامه.. صلعته امامه.. صدى الاصوات تتكرر في ذهنه.. ساقٌ في حذاء ممزق.. طفله يضحك.. ومع ضحكاته يتدفق الدم.. تعابير عقيمة تتصارع في ذهنه.. زوجتهلا تزال تبتسم.. وكأنما تقول له: هذا ما جنيتَه علي.. يضغط برجله على دواسة الوقود، حتى يجعلها تلامس أرضية السيارة.. يداه تتسمَّران فوق المقود.. ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط.. الكاوبوي الذي يلوك سجائره.. النظرات التي تحمل الكراهية خلقة.
الناصرة – 1978 – 12 – 12
*هذه اولى القصص ( وعلى الأغلب أول قصة ) التي كتبت عن الانتفاضة البطولية للشعب الفلسطيني – شعبي – ضد الاحتلال ، والتي اشتهرت باسم انتفاضة الحجارة . اعيد نشرها اليوم على الشبكة العنكبوتية ، وكلي أمل أن تنهار الحواجز التي يبنيها أبناء شعبي ضد بعضهم البعض ، متناسين الحاجز الوحيد الذي لا بد من قلعه .