الفيتوري : في هذا الزمن الساقط يسقط حتى الشعراء
حالتنا الشعرية : " تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام (قول لماركس)
بقلم : نبيل عودة
[align=right]
كثرت الاجتهادات الشعرية في الأداب العالمية لتفسير معنى الشعر ، أو لأعطاء مقاربة تكشف المضمون الحقيقي للشعر . ولو اني لست من المهتمين بهذة التفسيرات وأرى فيها انشغالاً غير مجد ، الا أن بعض التفسيرات تظهر المستوى المتدني للوعي الشعري ، وللأسف اصحابها يرفلون بملابس أدبية ونقدية أوسع كثيراً من حجم اجسامهم وأكثر امتداداً من ارتفاع قاماتهم ، والاساسي في الموضوع ، أن ما يطرحونه من تفسيرات ، سطحي ومتيبس في نظرته ومضامينه ، ويعتمد احياناً على دلالات تراثية ، جميلة بحد ذاتها ، ولكنها لا تخرج عن كونها صيغة جمالية ، بعيدة عن التفسير الحضاري والعقلاني لمفهوم الشعر وماهيته وهذا يؤكد سطحية التفكير ورعونته ، والابتذال في الفهم الجمالي ، الأمر الذي يحط من القيم الروحية للأنسان ، ويهبط الى مستويات من الفهم المحدود ، السوقي الضيق .
إن الابتذال في الفهم الأدبي ، هو من أخطر الأجتهادات الثقافية ، ويقود الى التستر بالأقوال الطنانة ، المنمقة على الغالب، أو التستر بالحكمة الكاذبة ، ويجيئني قول لكارل ماركس عن الاجتهادات الثقافية المماثلة التي عملياً لم تتوقف منذ بدأ العقل البشري مسيرته الفكرية ، إذ وصف ماركس الابتذال في التفكير بـ "تفاهة الأعمال وعظمة الأوهام" وهذا ما يفسر الكثير من مجريات حياتنا الثقافية اليوم ، ابداعاً ونقداً.
مثلاً وصف احدهم الشعر " بأنه يعبر عن احاسيس الإنسان الداخلية"
المفهوم العلمي للأحاسيس ، أنها صيغة أخلاقية تتعلق بالجانب الإنفعالي العاطفي للأنسان وهي تمثل الجانب الذاتي للفرد (الاندفدوال) ، أي انها ليست ظاهرة متشابهة في نتائجها لدى جميع البشر . إذن النقطة الأولى , لو كان مفهوم الشعر هو فقط التعبير عن أحاسيس الإنسان الداخلية ... لأصبحنا كلنا شعراء . الأحاسيس لها قيمة ذاتية قد تضيف لجمالية التعبير وللتجربة الذاتية ، ولكن من المبتذل إعتماد هذه الصيغة لتفسير ظاهرة ادبية هامة مثل الشعر ... لأن الأحاسيس يكتسبها الأنسان غريزياً ، ولا يمكن للغرائز أن تصبح التفسير المعتمد الواعي لمفهوم الشعر ، حسب ما قرر البعض انطلاقاً من ذاتيتة وقصور وعيه وشيخوخة تفكيره .
وهناك من يستشهد ببيت شعر كلاسيكي لمحمد الفراتي ، يقول فيه :
ما الشعر الا شعور المرء يرسله
عفو البديهة عن صدق وإيمان
لو استعرضنا الشعر الذي يكتب في هذه الايام ، لما وجدنا البديهة ولا حتى شعور ، ومن نافل القول الحديث عن الصدق والايمان ، أنما كتابة من خارج الذاتية الفردية والأنسانية ، ومن خارج المشاعر ، ومن خارج الصدق والمصداقية الادبية والفنية - أي بغياب لأبسط شروط الأبداع ، لأي أبداع ادبي كان وليس الشعري تحديداً .
رأيت من المفيد في هذه المداخلة ، المطروحة ( بلا شك ) للنقاش الفكري والتطوير ، أن أطرح ما قاله احد شعراء العربية الكبار ، وأجزم أنه لا خلاف على شاعريته ومكانته الشعرية في الثقافة العربية المعاصرة ، وأقصد الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري ... صاحب دواوين شعرية لا تنسى " عاشق من أفريقيا" و "أغاني افريقيا" و"أحزان افريقيا" ومنذ فترة غير بعيدة أصدر ديوانه الشعري الجديد.
يقول الفيتوري :"نحن كشعراء في هذا العصر ، فقدنا أنفسنا وفقدنا علاقتنا بالواقع الاجتماعي ، وفقدنا قيمنا الانسانية ، ولم نعد نمثل شيئاً على الأطلاق ، لذلك بعض المدعين ،الذين يزعمون انهم شعراء .. هم مجرد ضباب ومجرد فراغ ، يسيرون في الهواء الطلق بدون ماض ، وبدون مستقبل"
لو قرأت هذا التقييم بدون اسم الفيتوري ، لظننت ان كاتبه اديب محلي ( من العرب في اسرائيل ) يقلقه ما يدور في ثقافتنا العربية داخل اسرائيل من شيخوخة مبكرة ، وخاصة في شعرنا ونقدنا الشعري والفكر النقدي عموما .
الفيتوري يتحدث عن الواقع الشعري العربي ، وهو بالتأكيد أفضل مئات المرات من الواقع الشعري والفوضوي العربي المحلي (داخل اسرائيل)... الشعر الذي ينشر في صحافتنا اليوم ( داخل اسرائيل ) هو شعر بالتشبية الشكلي فقط ، حتى لو اجتهد المجتهدون ( من نقاد بلا ضمير ) في " اتهامة " ، مع سبق الترصد والاصرار ... بالشعر ، ورفع شأن أصحابه والكتابه الساذجة ( النقدية ؟ )عنه ، والأطناب والتوسل والتسول من القراء للحصول على بعض المصداقية في الافتراء الأدبي الممارس ، سيبقى نصوصا ساقطة بأكثريته المطلقة ، لا علاقة لها بالشعر او الأدب ، الا بما يحاول بعض الاشاوس من النقاد ربطه عنوة بقافلة الشعر . هل بالصدفة ان الفيتوري يعلن بقوة "ساقطون نحن الشعراء كلنا" لأنه في هذا الزمن الساقط يسقط كل شيء حتى الشعراء ؟"
أرجو أن يفهم القراء مواقف الفيتوري ومواقفي بالمقاييس النسبية ، أي ان الموقف ليس موقفاً مطلقاً إنما موقف يدعي غياب الشعر عن الأكثرية المطلقة لما ينشر عنوة تحت هذ ا الباب .
يقول الفيتوري " الشعر لا بد أن يكون له قضية , الشعر لا ينبع من الفراغ والشعر لا ينبع من الأرض فقط ، بل ينبع من الأنسان والتصاقة بالأرض والتراب ، والشعر في هذا التصور ينبع من البحث في الشكل الشعري "
عملياً يضع الفيتوري الوعي الانساني سابقاً لكل احساس غريزي . ويقول " كلنا ساقطون بنسب متفاوته في هذا العصر " ويعطي نموذجاً هاماً عن الشعر الذي يبقى على مدى العصور ، من المتنبي حتى عصر أحمد شوقي الى عصر شعراء المهجر جبران ونعيمة ونسيب عريضة وأبو ماضي ، ويقول : عندما نقرأ هؤلاء الشعراء نجد أنهم لا يغادرون مجتماعتهم ... ليس بالجسد ، لكن بالفكر ... وليس بالروح ولكن بالواقع ، كانوا دائماً ضمن حركة المجتمع الأنساني والمجتمع العربي والمجتمع الفكري ، لذلك وجدوا في التاريخ واستطاعوا أن يغيروا"
ويقول : " كشعراء اصبحنا مثل المغنين في هذا العصر ، مثل راقصات هذا العصر ، مثل جماعات ال "فيديو كليب" يعتمدون على ايقاعات ، على سيقان وعلى أفخاذ .. ثم لا شيء ، إلا ابتسامات باهته ورؤوس محنطة وافكار ساقطة ورؤى مضمحلة وتوجهات نحو عصر خاو من الابداع ، من الروعة ، من الجمال ومن القيم الحقيقية للأنسان"
لن أعط نماذج محلية ، حتى لا أواجه بالشتم والقذف والتهجمات من بعض صعاليق النقد والشعر في ثقافتنا المغتصبة من التافهين ... رغم اني لست ممن يجفلون من الحثالات الادبية ، ولكن باستطاعة القارىء أن يجبر نفسه على قراءة ما ينشر تحت صيغة الشعر ويقارنه ، ليس بما يقوله نبيل عودة في مداخلاته الثقافية ، أنما بما يقوله محمد الفيتوري أحد أكبر شعراء عصرنا .
الاكتفاء بالجملة المسكينة ان الشعر عبارة عن مجرد احاسيس هي تسطيح للشعر وتسخيف للأبداع وليس غرابة في هذا العصر الساقط ، سياسياً واجتماعياً وادبيا ودينياً ، أن يسقط الشعر والشعراء ايضاً . وان لا يبقى الا بعض التافهين يتصارعون على "السلطة في روما " قبل سقوط الإمبراطورية النهائي.
[/align]
نبيل عودة – كاتب واعلامي فلسطيني - الناصرة
nabiloudeh@gmail.com