مدرسة الحوار المتجدد
حوار التناظر مع الأديبة الكبيرة ليلى علوش
درب المودة ...
د. مازن حمدونه
نعم ... في الطريق المدهش الغريب المسحوب من حلق التاريخ الجديد .. تاريخ بلا تاريخ .. تاريخ الإمعة.. تاريخ الواقع الجديد المرسوم على صفحات البغي .. على ماضي وحاضر امة انتزعت من على ترابها لتحل سلالات تم إنتاجها من حاضر المستعمرات والمصالح ..عصابات تربعت على صدر وطن سليب !!
واقع جثم الطغاة على صدر موطن أرادوا اغتيال شعبه البسيط .. أجود صناعة تمرسوها منذ فجر التاريخ صناعة الموت والمآسي ..
اجتمعوا .. جلسوا .. خططوا .. رسموا الخطط .. قرروا من بعدها آليات اغتصاب عذرية أهل السماحة والطيبة .. نشروا الرعب في أوساط الآمنين . نبشوا قبور الخالدين في حضرة الرحمن !!
رسموا القرن السالف بويلات لم يعهدها شعب عاش تاريخه .. أيامه على بساطة وعفه لا تغلب ثناياهم مكر وخبث الأغراب ..رسموا الشوارع المستجدة بألوان قانية رغم تزيينها بألوان العصر الغربي المستورد في جوقة بواريدهم ..حوانيتهم ليس حوانيتنا .. تموضعوا ورسموا مدينة الجيش الغاشم .. مدينة نبتت على منطق التجييش .. منطق البندقية الدموية فأصبحت البلاد مستعمرة .. سجنا !!
للقرى.سماء، للشوارع .... ليست أسمائنا .. قالوا الكبار يموتون والصغار ينسون .. نظريهم قد تصلح .. قد تنسحب على الأغراب القادمين من خلف البحار ... لكنهم نسوا ان الصغار يرثون الفكر والشعور الجمعي .. يتشربون التراث كماء الحياة .. التاريخ والأرض مزروع في أجسامهم .. فهو ارض وليس بزرع يقتلع ويمضى .
زينوا الطرقات بإشارات المرور .. ووضعوا لوحات مكتوب عليها أسماء لا تسجل ذاكرة سوى دليل مستعمرة .. مستوطنة .. فقرر الأبناء تطهيرها .. يوما بعد يوم يقترب يوم رحيلهم .. باتوا يدركون انهم لن يستمروا في اغتصاب التاريخ مهما روعوا .. مهما فرشوا الطرقات بالدماء.. مهما اغتالت طائراتهم اللعينة .
بعثروك حيفا وشطروا الروح عن الجسد الواحد !!
في لحظة ما .. ووقت ما .. دخلت ليلى علوش تنهض من ركام الألم .. تجمع قواها .. تعيد للروح للجسد .. فتمر في حيفا .. في شوارعها وطرقاتها .. حيفا التي زينت التاريخ .. توجت البحر المتوسط بتاجها .. أصبحت عروس البحر .. تتجلى ببهاء .. تغازل يافا وعكا والمجدل ..
التقت "ليلى علوش" في حافلة ركاب في حيفا ..كان فيها غرباء يحدقون في عيون الناس .. يسألون بلا سؤال .. من أنت ؟ هل أنت من الأغراب ؟ هل أنت من حيفا ؟ من كفار... من مستعمرة .. من إي مدينة ...؟!!!
منهم من لا يجرؤ على طرح السؤال فيتشردق الحلق بالكلام ...كطبيعتهم يلتهمون الحقيقة ويبتلعون اللعنة ويبقون كالجسد الميت بلا روح .. يعيشون هكذا من اجل غرائزهم .. إشباع حاجاتهم .. فالدنيا همهم .. والجبن حلتهم فلا عجب في أناس ليسوا بأمة ولا بتاريخ ..ألوانهم براقة بالشحب .. عيونهم تحمل خبثا ومكرا كجينات وراثية .. ثقافتهم لا تخرج عن كتب أنتجتها عقيدة بلا نبوة!!
مهما يغيرون الأسماء والطرقات تبقى في الأفئدة مرسومة بصلصال ارض بطميها برملها ..بزهرها ..
كل ما رسموه على قشر الأرض عابر .. يزول بزوال من استوطنوها .. غيروا ملامح مدينتي .. نسوا ان الكفيف مهما تبدلت الأحوال يبقى يسير في طرقاتها دون جزع فقد تخاطبه الطرقات .. الأشجار حتى الحجارة تهديه إلى مسالكها !!
جالت ليلى علوش في الطرقات والشوارع تشم رائحتها .. أعادت لها عبق التاريخ في أشجارها .. في طرقاتها المعبدة بقار غربي .. لكن التراب يفوح بمسك من تحته .. يبتسم لها .. يرحب بعودتها !!
الطرقات القديمة والجديدة في تناغم .. فردت اذرعها .. قالت لربما هذا ضرب من وسوسة وخيال .. أيعقل ان تتذكرني بعد غياب ؟! حتى الطرقات الجديدة التي لم أعهدها ؟!
كيف تعرفني وقد غير الغزاة من ملامح طرقاتها .. فعاصرت السن وأجسادا غير أجسادها .. أيعقل ان عقلها يختزن بالذاكرة كل وجوه أحفادها .. هل ذاكرتها عامرة مهما اقتلعوا الأشجار .. وغيروا الحجارة والطرقات ؟؟
لم تتأخر الإجابات على "ليلى" وقالت لها : الأم رحم لا ينسى من تربع على جوار الفؤاد !! لا تنسى من رضع من صدرها .. من تغذى على رحيقها .. حتى التراب همس في أذنيها وقالت إنها مازلت تحتفظ بودائعها من عظام جدي والإباء !! مازالت مدينتي تعرف كلماتي ..تنطق عباراتي .. رغم الجسور والطرقات والحوانيت المتموضعة على صدرها .
دعايات الحوانيت المضيئة تلسع الوجوه .. رغم اللحن الحضاري على ترابها تبقى كالقشط لقشر الأرض .. رغم كل ما صنعوه من ألوان .. من تبدلات ... إلا أنها تبقى الأرض التي لا يملكون عصمتها .. هي في كنفهم ولكنها في لوني .. في لساني .. في قرنية عيني .. في صمام القلب .. في شرايين الحياة .. فالجسد لا يقبل زراعة الأعضاء الغريبة .. مهما زرعوا مهما أغرقوها في مسكنات الألم والوجع ..!
الخلق الجديد ...
في حزيران خلقت ولها دمعة الشوك في جبيني ... جلادي الديار يسهرون على تغيير الجلد .. تغيير اسمي .. يرسمون حدود سجني ..فسحة الميدان تشتاق إلى لحمي .. كسوا ارضي بحلة ليست حلتها .. وسرقوا ثوبي من باطنها .. سرقوا النعال .. سرقوا حلة طعامي.. سرقوا حظيرتي .. سرقوا حتى أعشاب الأرض .. وقالوا لنا هنا أنبياء .. يخاطبون الناس كمن الأنبياء ارث العشيرة .. ونسوا أننا العرب الذين نسلت الأنبياء وأهل الأنبياء ؟ وما هم إلا أعضاء في كون بلا تاريخ ...
في حزيران جلجلوا وصدعوا مدينتي .. لطخوا فستان عرسها الناصع البياض بالدم .. قتلوا فرسانها .. اغتصبوا عذرية الأرض .. إلا أنا اخبر التاريخ الماضي في عمق الأرض.. اخبر أهل حزيران الجديد .. أنا ارصد الفجر القادم من خلف الضباب .. من خلف السحاب .. بدمى .. لحمى .. أعصابي .. عيوني لذا مازلت أنجب الأطفال .. اسأل رغيف خبزي من بين مخالبكم .. وسأحضر لكم عربة الرحيل في الغد القادم .. وسأهز السياط المنبثق الساطع بوهيج احمر نوشمكم بما رسمتموه على جلود الطيبون الأبرياء .. ستدفعون ثمن معصية الرب .. وستلقون جزاء جرائم بقر بطون النساء .. بتر أطراف الأطفال .. سنحاكم أباطرة وأمراء الحرب .. وستكونون كصفحة مضت من صفحات العالم التي غابت في عصر المستعمرات ...