بقلم: مها فتحي/ كاتبة من فلسطين
متر مُربع، أسكنُ فيه ِ أنا و أخوتي الخمسة، وأمّي الثكلى تقشر لنا ثوما لكي لا نصاب بنزلات البرد ِ .. مترٌ مُربع، فيه ِ مطبخنا وغرفة نومنا، وفوضى الضيوف حين يأتون إلينا .. متر مربع، لي منهُ خمسٌ وسبعون سنتيمترا، والباقي لأخوتي الخمسة ولأمّي الثكلى.
متر مُربع .. أجلسُ فيه القرفصاء، أرمُق بطرفيَّ عبث اللحظة، أمدّ يدي إلى الرّغيفِ المُقسّم، أزهدُ في أكل الثوم، فأنا أريدُ أن أصاب بنزلة برد ٍ وأذهبُ إلى المشفى لعلي أرتاحُ من بلاء هذه القسمة .. متر مربع، في الليل أعدّ أصابع العشرة نكاية بالعتمة، أطمئنها بأني ما زلت على قيد الوَجَع، أكبحُ شهوة جوعي بحلم ٍ طارئ ٍ في أن أرقص مع بجعة .. أتساءل، هل يا ترى إخوتي يشعرون مثلي بهلع اليقظة؟!، أمدّ يدي إليهم، أتحسّس أجسادهم الهزيلة الهشة .. يا إلهي، أجسادهم باردة، ورائحة أفواههم عطرة .. أيمكن أن يكونوا قد ماتوا؟!، لا أبدا ، فأنا لم أسمع أمّي تتمتم فاتحة سورة يس، كما فعلت عندما استشهد أخي أسعد .. ها هيَ الفراشة أتت لتشارك هُنا .. سألتها، هل جُننت؟! ألك ِ مكان في هذا المتر المربع؟ .. لكنها لم تجبني، وظلت تحومُ وتحومُ مُضطربة باذخة في العبث ِ، لم أفهمها، فهمتُ بعدها، أنه القصف، القصف، القصف .. اكتفيت بالتكوّر كقطة ٍ مذهولة ٍ، بما يتيح لي المتر المُربع .. أغمضتُ عيني، ووضعت يديَّ على رأسي لكي لا يراني القصفُ، وبعد أن انتهى رُحتُ أجسّ نبض بقائي بصوتي المُرتجف بأنين ٍ مُتقطع ٍ، ولكن يا إلهي، ما هذا الضوء الأبيض الذي يلمع هُنا على أجساد أمّي وإخوتي، إقتربت منهم، وأدركتُ أنني بقيت وحيدا في هذا المتر المُربّع، ولكن من سيقرأ على أمّي فاتحة سورة يس، كما فعلت عندما استشهد أخي أسعد.
عفوٌ
بذاته ِ إصبع السّبابة الذي رفعتموهُ حين الموت، و عند الشهادة، بذاته ِ أشيروا إلينا عند الله، واطلبوا لنا عفوا من عنده، قولوا لهُ اللهُمّ هؤلاء القاعدين غير أولوا الضّرر، كانوا يصلون علينا صلاة الغائب، ويتبرّعون لنا بالدّم، ويضيئون لنا الشموع في أحسن الحالات ليسقط عنهم فرض الكفاية.
اللهم ولا ضير .. فمنهم أيضا الليبراليون المعتدلون أصحاب اللين ِ واللزوجة، حتى أن لزوجتهم صارت مادة غير مسبوقة ٍ في تشحيم جنازير دبابات الذين حاصرونا، و أجهزوا علينا، اللهُم لا ضير .. فاعفُ عنهم !
بذاته ِ إصبع السّبابة، أشيروا إلينا عند الله .. قولوا لهُ و إن كان لا بُدّ من القصاص، فليكـُن لأنهُم أوْدَعوا كلّ مصائرهم في خزائن القياصرة والجلاوزة ومشوا دون مصير ٍ إلى أسفل البقاء. أطلبوا لنا العفو .. فأنتم شهداء يُستجاب لكـُم، ونحنُ أباطرة الصّمت والآثام !!.