التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,852
عدد  مرات الظهور : 162,331,047

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > قال الراوي > الرواية
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 02 / 10 / 2008, 05 : 08 AM   رقم المشاركة : [1]
آذاريل الحج
كاتب نور أدبي ينشط
 




آذاريل الحج is on a distinguished road

Exclamation رجال ومدينة ......لكاتبها !!!

رجال ومدينة
رواية لكاتبها
تقديم
من جوف ليل بهيم، ومعاناة روح وجسد، وإصرار على نيل المطالب، تحديا للبغي والطغيان، خرج فارس مغوار غير هيّاب، يلوّح للمجد لكي يدنو منه، بعد أن انتزع قدرة الحركة على طريقهن فما كان من هذا الفارس إلا التحدي والإصرار، ومغالبة ذلك الواقع، وقد قيل أن الدنيا لا تؤخذ إلا غلابا، فراح يخوض الصعاب مستحضرا روح التأريخ، وما ورثه من شجاعة أهله وقومه الفرسان، وتألق بما يملكه من مواهب.
لقد ولد الفارس وهو يحمل على جسده الآم قومه وأمته، وتحمل روحه حفز مصلحة الوطن والشعب والأمة.. ليحوّل المعاناة إلى خزين خبرة، تقيه منزلقات النسيان أو التخلي، لتبقى جذوة الإيمان والصبر داخل نفسه، مثلما هي في فعله، والتحريض على العمل الجمعي الثوري هي بوصلة الطريق، بعد الاتكال على الواحد الأحد، وبما يجعل الماضي والتاريخ عمق مرحلته، وبيرق تطلعه، هما وما يجود به نضح فكرة مرحلته، وليس عبئا على حركته وتصوره.
ولد وهو يحلم بزمن يكون فيه الموقف شرفا، والحياة قضية والعمل جهادا..
هذه ببساطة فكرة ( رجال ومدينة)، الرواية التي بين يديك، عزيزي القارئ الكريم.. إنها رواية حافلة برموز حية، لا يزال بعض صنّاها أحياء، وساحات حركتهم خالدة تنطق بتاريخها، وتستذكر أمجاده، حتى بدا سفرها على لسان راوٍ شهد وجودها، وأقام بناءها، وعلاّه، وقدّم لها ما لم تقدمه حقب الزمان المختلفة، فأعزّها هيبة، وكرّمها تطورا، لتصبح قلاع تحدٍ تحكي صور ولادة فارس، ليس ككل الفرسان، وولادة جيل ليس ككل الأجيال، بل ولادة زمن ليس ككل الأزمان.
تقدم لنا الرواية جزءا من حياة نجم سطع في فضاء العراق، حتى كاد، هو وحركة فعله ومعاناته وحياته، أو هو هكذا، يرسم صورة مرحلة كاملة عن المعاناة، وحياة ونضال شعب العراق الوفي الأمين.. ولعل أهم ما يميز هذه الرواية – عزيزي القارئ- أنها تفصح بثقة عن شخصية كاتبها، كون أحداثها لم تكن نصباً من الماضي، أو رمزا تاريخيا مجردا، وإنما هي مسيرة ناطقة لحياة شعب من خلال حياة فارس، تعفف منذ نعومة أظفاره عن التورط في اللامبالاة، وترك الوطن (يحترق)، فكانت حياته النذر الذي درأ الحريق المنتظر آنذاك.. أو أنها حالت دون استمرارية الحريق الذي كان سيحوّل الحياة رمادا لو استمر وكبت الهمة ومنعها من أن تنطلق.
والرواية بهذا الوصف لا تعبّر عن ترميم مقصود لزمن محدد، وإنما هي هندسة فضاء زمني، يضاهي بآفاقه مكامن النور في التاريخ التليد، كان فيه التنافس على التضحية دربا للفضيلة، وكان الاقتراب من الحقيقة والحق منطلقا لتفعيل ما تختزنه النفس من طاقات وقابليات، حتى إذا ما لاحت أمام الفارس فرصة ليجد ذاته، اغتنمها، لكي يدافع عن حقه، وحق شعبه وأمته في الحياة والحرية ضد كل من استفحل شره، وعجز عن بناء دربه، أو استكبر في رؤية ذاته، فانتزع من القدر دور شعبه القومي، وألقم من يحاول سلب ذلك الدور حجرا، قبل أن تكتشف الجماهير العربية أن الحجارة سلاح ماضٍ ضد سالبي الحياة والحرية والمحتلين المجرمين.
تتدافع أمامك- عزيزي القارئ الكريم- وأنت تقرأ هذه الرواية، مواقف كثيرة، حملت معها مرتسمات خصبة لبناء درامي متميز، صوّرت إلى حد النطق، ظروفا مرّ بها الفارس، دون أن ينثني أمامها.. أو يستسلم لشروطها القاسية، بل حوّلها إلى اندفاعات مبصرة متوالية، ليؤسس منها منافذ يطل منها على حياة شعبه وأمته، وصارت حياته على قياس ما ورد في الرواية، مرآة لما يمر به الشعب والوطن، وفصول نضال وجهاد لم تنته حتى هذه اللحظة، أهم ما فيها رسوخ إيمان في صدر الفارس، ويقين بأن الغد يُصنع لا يُنتظر، وأن الأبواب لا تفتح إلا بالعمل، وأن عافية الدرب المشرّف لا يمكن أن تتم إلا بعد أن يتراجع الوهن داخل النفس، لتتوق لصنع المستقبل بفؤاد لا يعرف الوجل.
وقد حرص كاتب الرواية على أن لا يقع تغيير في شخوصها، أو مسرح بنائها. وكان حدود الحوار تلتقي عند خط شروع واحد، تضيق فيه كل احتمالات النكوص، وتؤسس عنده كل نقاط الانطلاق، وعندها تتهتك الحجب، بعد أن يقدم الشعب قرابين الشهداء على مذابح الحرية، التي شُوّهَت معطياتها بفعل أدعيائها، الذين ما أن رأوا عزم الجماهير، حتى تواروا في زوايا التاريخ، تلاحقهم إشارات الجماهير التي آمنت بأن مستقبلها لا يمكن ضمانه إذا كان الشك يحيط بمستقبل الوطن.
مع كل بناء في معمار الرواية، يبدأ توازي القابليات لدى شخوصها، التي ما تلبث أن تتجمع وتتسق في شخصية ثرة، ماهرة في رؤيتها لمفتاح الخلاص، وجدوى الدفاع عن الفضيلة، والحنو الشديد عليها. ولكي يعمّق الكاتب ذلك الشعور، تراه لم يدّخر وسعا إلا ورسخها بإطار حكمة تلو حكمة، لتصبح فيما بعد قوانين بناء للشخصية التي لا تهاب المنايا، ولا تخشاها، بعد أن يحصّنها من هواجس التراجع والتخاذل.. كأن الكاتب يدعو القارئ ليكون جزءا من شواطئ التاريخ وأعماقه، ليقبض بضميره ووجدانه على قوانينه، وليحقق ألفة بينه وبينها.. يمخر بها عباب الحياة... يحصّن نفسه عبرها، ويقدم الدليل على أن الموروث يمكن أن يكون محفزا لبناء الأمل، لا احتوائه، أو صهره و تذويبه، لتتوارى الخشية من إفساد الآخرين له مهما بلغوا من عتو.
لق جاء أسلوب الرواية، كما سترى عزيزي القارئ الكريم، مع كل الاندفاع الذي امتلكته روح الكاتب، مبتعدا عن أسلوب الحماس الخطابي، الذي اعتادت عليه روايات من هذا النوع، مثلما ابتعد عن الفاضلة بين الذاتي والموضوعي، طالما ظل الإيمان حاضرا، وظلت الإمكانات، منذ بواكير الطفولة، تبحث عن طريق الهداية والخلاص لكي تفعّل، لتتساوق مع لهيب الحماس الذي تنطلق منه، ولأجل ذلك ترى الرواية، وقد أسست مزية مضافة، تتفاضل بها العبارات، وتتلاقح الأفكار، لتلد عشقا كبيرا بين الكاتب وتاريخه، بين الشعب والوطن، والأهم بين الضمير والواجب.
وبعد كلّ هذا، عزيزي القارئ الكريم، أراك أمام حالة كأنها سيرة تنطق باسم النضال، بعد أن نقّب كاتبها عن منابعه الأصيلة، وتفيّأ بوهج الأمل، لتنفض عن كل خذول دواعي التقوقع، بعد أن تزوده بمهاميز العثور على ذاته... إنها رسالة مفاضلة بين الحق والواجب. وبين الوجود والتضحية، وتلك هي روح الفضيلة، توأم النضال، وبها لا يمكن لزمن، أو لما هو معاكس من رغبات ومناهج غير مشروعة تدجينها. ومتى ما امتلكها فارس وانتزع طريقه إليها، زحف المجد باتجاهه، ليعانقه.. وهكذا هي حال النضال...
ويبقى ( كاتبها)، رافضا أن يكتب اسمه على الرواية، تماما كما فعل من قبل مع روايتيه ( زبيبة والملك) و( القلعة الحصينة)، فما يبدعه أبناء أباة الضيم في العراق العظيم، دون ذكرٍ لأسمائهم، حريّ بجعله لا يفكر بوضع اسمه على رواية ( رجال ومدينة)، مثلما أراد...

يتبع
شبكة الرافدين

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع آذاريل الحج
 البابلي وليد العنقاء ....
يلقي عليكم السلام وعلى باسلات وبواسل الرافدين

اخبار المقاومة:::



http://www.alqadsiten.net/browse_7.html


http://www.alrafdean.org/

http://www.jabha-wqs.net/
آذاريل الحج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 26 / 07 / 2009, 20 : 04 AM   رقم المشاركة : [2]
آذاريل الحج
كاتب نور أدبي ينشط
 




آذاريل الحج is on a distinguished road

رد: رجال ومدينة ......لكاتبها !!!

الخميس 20 أذار \ آذار 2008


رواية رجال ومدينه لكاتبها الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد
الحلقه الثانيه
إذا أردت لولدك أن يحفظ دارك وحماك، فاسأل عن خاله، وإذا أردته يواجه عدوك باقتدار، فدربه وهيئه، وإذا أردته أن يكون كريما، فأنبه عنك في الكرم، قبل أن يكون له بيت ومال منفصلان عن بيتك ومالك، وإذا أردت أن تجعل نفسه أبية سماء، فعلمه أن يعطي لا أن يأخذ، وعلمه على صعود العاليات، لا الاختباء في جفر"..
توفي والد السيد حسين ولما يزل بعمر يافع..
كان لقب السيد لا يمنح في هذه العائلة دليلا على المرتبة المالية أو العنوان الوظيفي لأبنائها، كما هو حال من يلقب به في هذا الزمان، بل ولا حتى تقديرا لأعمارهم.. ذلك أن عمر السيد حسين كان صغيرا كما قلنا، ولكنه يمنح إشارة إلى النسب، وتقديرا له.
ينتمي السيد حسين إلى عائلة حسينية الأصل، يمتد جذرها إلى سيدنا الحسين بن علي ( كرم الله وجهيهما)، وكان يلقب الحسين الصغير، وكان الأصغر سنا من بين أربعة أخوة، تزوج الثلاثة الأكبر منه، قبل أن يتزوج حسين بن مجيد وأعمارهم بين الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين، وكان جده رحمه الله، رجلا مباركا في عرف وتعامل أهل المدينة الصغيرة الواقعة على حافة نهر دجلة الخالد، حتى أن من تتعسر ولادتها تستخدم حزامه لتسهل الولادة.
كان أخوة السيد حسين يحبونه حبا كبيرا، كأنهم بهذا الحب أرادوا أن يفرغوا عليه محبتهم وتقديرهم لأمهم وأبيهم وتعبيرا عن حرصهم على أداء الواجب إزاء ما اؤتمنوا عليه.
وقد توفي والدا السيد حسين ولما يشتد عوده بعد لمواجهة الحياة، التي تبدأ صعوبتها من الشاطئ منذ الولادة، حيث الأمراض السارية، بما في ذلك احتمالات الإصابة بالطاعون، و صعوبة الحصول على لقمة العيش، فمن يبحر فيها حتى يصل أعماق بحرها ثم يعود إلى الشاطئ يكون قد تعلم العوم وتطعّم بصعوباتها، ويكون قد سلم، ومن يضعف فيغرق، يغطس في بحرها، قبل أن يعرف العوم ويتعرف على الأعماق فيها.
وكان تعداد أهل العراق حوالي مليون إنسان، وهو مجموع النساء والرجال الذين عاشوا على أرضه في أوائل العشرينات من القرن العشرين، أو لنقل هم كل ما بقي على أرضه، بعد أن كانوا بحدود الثلاثين مليون إنسان في زمن ما، عندما كانت بغداد على عهد الدولة العباسية منارة الدنيا، وقبس إشعاعها الفكري والفني والعلمي، يردفه إشعاعها الروحي، بل يقوده، كأهم تجسيد حضاري وثقافي عميق، وكرمز لمعاني حكم المؤمنين على قياسات ما آمنوا به في الدين الإسلامي بعد الدولة الأموية، التي أحاطها ما أحاطها من إشارات بسبب الصراع الذي حصل بين مؤسسها معاوية بن أبي سفيان وسيدنا علي بن أبي طالب وفق قصتهما المعروفة، رغم أن أي فتح جديد لم يحصل بعد الأمويين أبدا، حتى انتهى حكم الأمويين في عام 132هـ.
إذن، بحدود المليون إنسان هو كل ما بقي ( فضلة) الموت وسوء الحياة الذين عمّا بغداد وكل مدن العراق، إضافة إلى تدمير وسائل الري جراء غزوات الأجانب الذين تكالبوا على بغداد بعد أن هزلت.. حيث جاءوها من الأقاصي البعيدة مثل هولاكو، أو انحدروا إليها من الهضاب القريبة من شرقها ومن شمالها، وأحيانا حتى من أبناء جلدتها من العرب.. جاءوا إليها وكلّ يشهر سيفه، أو يتحين فرصته عليها بخنجره، سواء طلبا للمجد، ليشار إلى سيفه أو خنجره كعلم، عندما يقوم إنه أغمده في صدر بغداد التي كانت مشعل هداية للإنسانية، ورمز عبقرية الإنسان فيها، أو جاء من جاء منهم لسود عليها تتويجا لفتوحاته كملك للجهات الأربع، مثلما كان الطامعون يفعلون مع بابل قبل الميلاد بمئات، بل آلاف السنين.
كان البؤس يعمّ العراق من أقصاه إلى أقصاه، ولم يعد فيه أي شيء عدا بقايا ما يستدل منه على عظمة المعاني والدلالات التي تحملها آثاره، التي بالكاد يستدل عليها هي الأخرى، بعد أن عاثت وعبثت بها يد الأجنبي في أوائل العشرينات من القرن العشرين.
ولد حسين بن مجيد.. وصار يتيم الأم والأب بعد ذلك.. وعندما بلغ مبلغ الرجال، راح أشقاؤه يسعون ليخطبوا له من أقاربه بنتا تكافئ نسبه، وفي الوقت نفسه ينبغي أن لا يكون والدها طماعا، لأن ضعف حالهم، وكون أبناء مجيد كلهم من الذكور، عدا بنتا واحدة زوجوها لابن عمهم من قبل، ضيقا عليهم فرصة أن يخطبوا للسيد حسين زوجة، لأن الأساس في خطبة من يخطب آنذاك أن تكون له أخت يبادلها بأخت أحدهم، أو حتى ابنته إذا كان والد الخطيبة يرغب في الزواج من أخرى...
وقع اختيار أشقاء السيد حسين على عم لهم، يلتقون معه بأحد أجدادهم، وخطبوا للسيد حسين ابنته.
كانت صبحة هي البنت البكر بين بناته، وكان ترتيبها بين أخوتها الثاني بعد أخيها البكر من أمهما حليمة.. كانت سعادة حسين وأخوته لا توصف عندما أعطاهم والد صبحة موافقته، بعد أن تشاور مع أمها، حيث أن الأم أعرف برأي ابنتها.. ومن حسن الصدف أن صبحة لم يكن لديها ابن عم جاهز وفي عمر الزواج، وإنما كان لديها أبناء عم أصغر منها.. وكان لها عمّان شقيقان لأبيها..
انتقلت صبحة لتعيش مع حسين، بعد أن تدبروا أمر دارهما الجديد، ليكون لصيقا لدار إحدى عمات حسين، التي ترملت، ولم يعش لها طفل، حيث كان أطفالها يموتون كلما ولدت واحدا منهم، وما أكثر النسوة والرجال الذين كانوا لا ينجبون بسبب عارض بسيط! وما أكثر الأطفال الذين يموتون بعد الولادة لأبسط عارض يواجههمّ بل إن الكبار من الأحياء كانوا يفتقرون إلى أبسط معاني الرعاية الصحية وإمكاناتها عندما يمرضون، ومن باب أولى أن لا يحظى من لديه عائق في الإنجاب من الجنسين بأي رعاية، وكان الأطفال يواجهون مثل ذلك، عندما يمرضون، لأن المدينة كلها كانت تفتقر حتى لو لطبيب واحد، وكان الدواء الجديد لم يجد طريقه إلى العراق بعد، خارج مدينة بغداد، التي هي الأخرى كان الدواء والأطباء فيها على نطاق ضيق، ولا يهتدي إليهما إلا أصحاب المال والسلطان فحسب.
ضوءاً خلقنا، وكان أمنّا القطرُ
الروحُ منا شذاها الطيرُ والزهرُ

كانت محلة السكماني فرحة بذلك اليوم حيث زفاف صبحة إلى حسين.. وكان واحد من بيوتها الأكثر استعدادا وسعادة لاستقبال الحدث
همّ الليلُ ونحنُ فيه النهارُ
لنا الليلُ ونحنُ فيه النهارُ

**********
كانت صبحة في ( مقطع) طويل، والمقطع غرفة طويلة، لا يزيد عرضها عن ثلاثة أمتار ونصف المتر، وبالكاد تصل أحيانا إلى أربعة أمتار، أما طولها فيمكن أن يمتد حسب الحاجة والقدرة.. ومع أن الأرض في هذه المدينة لا تباع ولا تشترى، وبالتالي ليس لها ثمن، فغن الدور لم تكن تبنى وفق تخطيط مسبق للشوارع، وإنما يبني كل دار على أساس ما يختاره صاحبه من مكان.. وقد اعتاد كل من يبني أن يبني لصيقا لدار أخرى سبق بناؤها، وأن تترك فواصل للطريق بين الدور تسمح بمرور الإنسان والدواب وهي محملة... وكانت الدور تبنى ( بالفزعة) في الغالب، والفزعة تعني العمل الجماعي التعاوني الذي يقوم به أهل الحي الواحد لمعاونة من يقرر البناء، من غير أن يتقاضوا على ذلك أجرا، إلا ( الأسطة)، أي المشرف الفني على البناء، وكانت الأجور بسطة، وهي في الغالب بصيغة المقايضة، كأن تكون أجرة العمل الذي يقدمه ( الأسطة)، طيلة يوم أو أسبوع، خروفا أو عددا من الدجاجات، أو وزنة حنطة، أو عددا من المجيديات على العهد العثماني، وعددا من الدريهمات في بداية العهد الملكي الجديد.
ومع كل ذلك، ولأن الدار لم تكن تبنى باللبن أو قطع الحجر المحلي مع الطين وحسب، وإنما يلزمها الخشب الذي من غيره لا يستقيم السقف، فلم يكن الجميع قادرين على البناء دائما، وفي كل الأحوال فإن عرض أي فضاء في البناء كان ينبغي أن لا يزيد عن أربعة أمتار، ليتحمل ثقل ما يوضع من طين فوق السقف اتقاء للمطر.
كانت كل البيوت تكاد تكون متشابهة، أو قل متماثلة، فالمدينة ليس فيها إلا اثنان من الأسطوات ( جمع أسطة)، وربما أسطة واحد، هو أو هما اللذان يخططان بناء الدار، أما الأساس فهو ( المقطع) أي غرفة طولية واحدة، يرافقها جنبيا ( خزينة) عرضها متر ونصف المتر، والخزينة عبارة عن غرفة طولها على امتداد الغرفة الأصلية، التي ينخفض ربع مساحتها عند المدخل، فيما يرتفع الباقي من الغرفة ليكون مكان المعيشة، وينتصب في نهاية المقطع، تاركا فراغا خلفه ( محمل) من الخشب يوضع عليه الفراش، ويشكل ديكورا في البيت، إذا كان أهل البيت ذوي مقدرة مالية لما يكون عليه من لحف و شفوف(1) وبسط ملونة، أو شف واحد ولحاف واحد، كل حسب مقدرته ومستوى تدبير ربة الدار...
والخزينة هي المكان الذي يوضع فيه الحطب، ويرافق الغرفة ( المقطع الرئيس) من الجهة الأخرى (المقطع) أو غرفة أخرى تسمى البيت ( الجوه) مماثلة لغرفة المعيشة، تخزن فيه حاجة العائلة من الحنطة والبقوليات والدهن والدبس والتمر والبرغل والرشدة، وإذا كانت العائلة مقتدرة جدا ربما تخزن أيضا بعض الجوز والراشي والعسل، والراشي والعسل لم يدخلا إلا عددا محدودا من بيوت هذه المدينة في الأربعينات...
إذن كان وصف الدار التي زفّت فيها صبحة إلى السيد حسين يتصل بما أسلفنا، وتصطبغ جدرانها و ( الباريات) الحصران المصنوعة من القصب وحتى خشب السقف والجدران بلون أسود ذلك ما تكسبه من لون الدخان لنار التدفئة من الحطب في فصل الشتاء، أو من ( الهيس) الذي يتركه السراج المصنوع من ( التنك) على شكل أسطوانة صغيرة، يوضع فيها نفط، ويبرز من أعلاها أنبوب طوله أقل من طول نصف الأصبع، تبرز منه فتيلة من القطن لكي تضيء، عندما تشعل بعود ثقاب، وحتى الفوانيس النفطية كانت، عندما يلتهب فتيلها، تصبغ سقف الدار والجدران بـ ( الهيس) الأسود... إذن، كانت السقوف والجدران مصبوغة بهذا اللون، ولا يسلم من هذا الوصف والمنظر إلا الدار الجديدة قبل أن يمر عليها موسم الشتاء.
كانت سطوح المنازل المشرفة على دار السيد حسين، مثلما هي باحة الدار وغرفة الدار بالوصف الذي ذكرنا، تغص بالنساء اللاتي جئن يتفرجن على العرس، ويهلهلن، ويصفقن بأيديهن ويرددن أغنيات المدينة ابتهاجا ومشاركة بالعرس، وغالبا ما كانت ربات البيوت المجاورة يحاولن تنبيه من هن فوق السطوح إلى خطورة تحميلها بأعداد إضافية من النساء، خشية أن تسقط بهن جراء ثقل خارج قدرة تحّمّل الخشب الذي نخرت الأرضة بعضه بعد أن فاتت عليه سنين.
كانت بنات ونساء المحلة يغنين، ويدبكن، متشابكات الأيدي، أو متفرقات متقابلات، وهن يجُلن بعباءاتهن، بعد أن يلوين العباءات، ويضعنها على أكافهن، وهين يناوبن حركة أيديهن ارتفاعا وانخفاضا، ممسكات طرفي العباءة من فوق متونهن، ويغرّدن مع زقزقة العصافير، وطيور السنونو ( القره قاش) التي وجدت لأنفسها فرصة لبناء أعشاشها على سقف الدار، حيث توفرت لها فرصة الدخول من ( السمي)، وهي فتحة في السطح باتجاه السماء، لتسمح بتبديل الهواء، وغالبا ما يتبدل الهواء الحار، تاركا الهواء البارد يستقر في الأسفل، أو حتى أن العصافير والطيور، بل وحتى القطط أحيانا يمكنها الدخول من فتحات فوق الباب أو تحته، ذلك لأن الأبواب في ذلك الزمان لا تُحكم بحيث تطبق مع الأرضية في الأسفل، وتطبق مع حالة البناء أو السقف من الأعلى، وإنما تترك فراغات غير منتظمة غالبا من الأعلى والأسفل.. كانت النسوة يرددن وهنّ في هذا المنظر:
ألف هلا يا عيني.. ألف هلا
عباءتك يا حسين كلها كلبدون..
ألف هلا يعيني.. ألف هلا..
لو قابل الحكام، بس أهله يحكون
ألف هلا يا عيني.. ألف هلا
خطّابتك جاءوا.. قومي يا صبحة
ألف هلا يا عيني.. ألف هلا
ما انطي بنت عمي لو أسويها ذبحة
ألف هلا يا عيني.. ألف هلا
كانت هذه هي السمة العامة لفرحة الزفاف، وكانت النسوة يحتفلن بالعروس على هذه الكيفية، فيما يزف الرجال العريس من واحدة من اثنتين من المقاهي البسيطة في وسط المدينة، وهم يطلقون العيارات النارية، ويهزجون ويجولون في رقصاتهم حول العريس، في الوقت الذي يتوسط حسين الخط الأمامي من أصدقائه و معارفه، وينتظم الجمع على طرفيهم وفي الخلف منهم، فيما يتراكض الأطفال إلى الأمام، مستدلين بواحد ممن يعرفون مكان الدار الذي تصير إليه الزفة، ليسبق بعضهم الجمع، والقسم الآخر يتنافس على ظروف الإطلاقات المتساقطة بين الأرجل، أو يلتقط ( الملبس) الحلويات من الأرض، إذا ما تبرع أحدهم ليشتريها من بدرة الباصي، أو بيت عمّاش، وينثرها على الزفة، ومن حين لآخر نسمع صرخة طفل تطأه الأقدام، وهو يحاول الحصول على ( الملبسة) أو ظرف طلقة فارغ، وبالكاد يخرجونه من بين الأرجل.. وهو ( يعوي)..
عند بزوغ صباح اليوم التالي، كانت عديلة السلطان أول من جاءهما لتطرق عليهما الباب، لأنها الأقرب إليهما في المكان والنسب.
كانت عديلة السلطان ممشوقة القوام، طويلة القامة، ولكنها وزوجها صالح خطاب لم يوفقا في الإنجاب، فقد كان أطفالهما يتوفون بعد الولادة.. ومع بساطة ذلك الزمان، كان أعمام صالح ا لخطاب يتندرون على بساطته، وكيف أنه عندما تلد عديلة طفلا يضع اليشماغ على أنه، لكي لا يشم رائحة الخضيرة التي تضر الأطفال، لأنه يعتقد بأنه إذا شمها يموت ابنه، عندما يكون في عمر صغير، بينما لا ينتقل أذى الخضيرة إلا مع حليب الأم إذا شمت رائحتها، أو إذا شمها الطفل بصورة مباشرة، وعبثا حاول من حاول أن يقنع صالح الخطاب بذلك لكنه ظل يعتقد بأنه لو شمّ الخضيرة يضر طفله مثلما تضر الأم طفلها لو شمتها..
أجابتها صبحة، بعد أن كانت قد استيقظت، وظلت خارج الفراش قبل أن تطرق عديلة الباب وتنادي عليها..
- نعم عمة تفضلي.. الباب مفتوح.. وفي الوقت نفسه نبهت حسين لكي يستيقظ وينهض..
جاءتهم عديلة بعدد من البيض، ومعه تمر خستاوي معجون بالدهن كصبحية للعرس ليأكلا، وبعد أن شكرا عديلة قال حسين لصبحة:
- قومي بنت عمي واقلي ( طقي) لنا ( البيضات) بالدهن لنتناول إفطارنا، وحبذا لو شاركتنا عمتي عديلة، وانسي، يا بنت العم، ما تضمنه عقد زواجنا بأن يكون لك عبد وعبدة مثلما هي عادة بنات العشيرة من السادة آنذاك، كنوع من تقدير الأزواج لهن، وكإشارة على علوّ اعتبارهن.. نعم، يا بنت العم.. اخدمي نفسك بنفسك، وسأعاونك.. لأننا لا نملك عبدا ولا عبدة ليقوما بذلك، وأنت تعرفين الحال، وإلا لا ( تغلا) عليك حتى الأنفس.
تناول حسين طعام الإفطار وحده، لأن صبحة امتنعت عن تناوله معه.. مفضلة تناوله بعد أن يكتفي حسين منه، وبقيت صبحة تحتفظ بعادة عدم تناول الطعام مع الزوج، أو الأخ، أو حتى مع أبنها الكبير صالح فيما بعد، لأنها كانت تجد ما يعيب في أن تتخالف يدها أثناء الأكل مع أيدي من يعينها من الوليان، وهو جمع ( ولي الأمر) وفق لهجتهم آنذاك.. بهذا كانت تعلق عندما يلح صالح عليها، لتأكل معه، والشيء نفسه تقوله لشقيقها مال الله.
كان حسين المجيد في إجازة لأغراض الزواج، ذلك لأنه كان يعمل حارسا في منطقة الفتحة على ( الفيري)، والفيري عبارة عن ( طبقة) مربوطة بسلك كهرباء من الأعلى، مرتبط هو الآخر ببكرات تنقله بين ضفتي نهر دجلة في منطقة الفتحة، وغالبا ما كان الأقوياء المؤثرون في هذه المناطق يتعهدون حراسة مثل هكذا مصالح في تلك الظروف. وبما أن عقر هذه الأرض، وهو عشر المحصول الزراعي، كان مخصصا أصلا لعشيرة السادة الحسينيين في بنت النهر، والسيد حسين منهم، فقد كانت حراستها على أبناء العشيرة، ولذلك كان الإخوان سليمان وحسين، بالإضافة إلى عدد آخر من أبناء عمومتهم، يتولون هذه المهمة.. وعندما انتهت إجازة سيد حسين وعاد إلى العمل، أحست صبحة بفراغ كبير، وأحست الفراغ بغياب حسين أيضا، أختاها ليلى وهيلة، حيث كان حسين، بالإضافة إلى حُسن طلعته، وبهاء شكله، وطوله الممشوق، ولون بشرته الأشقر، وعينيه الشهلاوين، وشاربيه الشقراوين، ذا معشر جميل، وخفيف الظل، مع رزانة خاصة لا تترك ثقلا أو تكلفة على محدثه ومن يعاشره، وكان سعيدا بصبحة، ويحمل لعائلتها، سيما أمها وأبيها، تقديرا خاصا في نفسه، ويتعامل بمحبة ولطف خاص مع شقيقتي صبحة: ليلى، وهيلة..
أما مال الله، أخوهن الكبير، فقد كان يدرس في الكلية العسكرية، بعد أن تخرج معلما في الدورة الريفية بعد السادس الابتدائي.
وكان أمد الدورة الريفية لتخريج المعلمين آنذاك، سنتين أو ثلاث سنوات، وأمد الدورة بعدها في الكلية العسكرية سنتين أيضا.
**********
مرّت الأيام سراعا في حياة السيد حسين وصبحة.. وكان حسين ينتقل بين الفتحة حيث مكان عمله، ومنطقة السكماني حيث صبحة في دار الزوجية، وفي أحد الأيام عاد حسين إلى بيته مجازا، فأخبرته صبحة بأنها حامل.. وكانت سعادتهما لا يتسع لها مقطع المعيشة، ولا حتى ( البيت الجوة) مثلما كانوا يطلقون على المقطع الذي كان يوازي غرفة المعيشة على الطرف الآخر، الذي يقابل الخزينة من الجهة الأخرى، بل ولا تتسع لها محلة السكماني كلها...
ومن الطبيعي أن تكو أم بحة قد أحيطت علما بذلك، هي وعديلة السلطان أيضا. وهذه عادة النساء آنذاك في أول حمل لهن بعد الزواج، تحسبا لاحتمال أن يموت الزوج بأي عارض مفاجئ، وجبّا لأي تقوّل قد ينال من المرأة الحامل، وعن طريق النساء، كان الرجال، وبخاصة الأب، وربما الأخوة أيضا، يعرفون بأمر الحمل..
كان الزوجان ينتظران الوضع بكل لهفة، وما إن وُضع المولود ذكرا حتى أسمياه أنور.. فرحت عائلة السيد حسين، وفرحت ليلى وهيلة وأم صبحة من أهل صبحة بالمولود أنور، إذ من عادة الرجال أن لا ينظروا آنذاك إلى ابن البنت، حتى عندما يكون زوجها ابن عم لهم، مثلما ينظرون إلى ابن الابن، بل حتى لو فرحوا به، فإنهم لم يكونوا يظهرون هذا جريا على عادة الرجال آنذاك، باعتبار أن عائلتي الزوج والزوجة، لو قدر لهما أن يتعاركا، فإن ابن الابن يقف مع أهله، وابن البنت يقف مع أهله أيضا، أي مع أعمامه ( ضد أخواله)، وربما قليل منهم من يقف على الحياد، أو ( يحجز) بينهم كفعل خير يحول دون اصطدامهم، بخلاف ما عليه الأمر في الوقت الراهن، بعد أن اتسع تأثير المرأة، وارتفعت مكانتها في المجتمع، ولأن دورها كبير في التربية، حيث ازدادت انشغالات الرجل، ولأن المرأة تحب أهلها، فإنها في العادة تعمل على أن تجعل أبناءها يحبون أخوالهم كأعمامهم، وربما أكثر من ذلك، أو على حساب حبهم لأعمامهم إذا كانت صغيرة عقل... وفي كل الأحوال تعتمد النتيجة النهائية لموقف الأبناء من الأعمام والأخوال، بالإضافة إلى موقف الأم والأب، على سلوك ومستوى تعاملهم مع الأطفال وأمهم وأبيهم، فكلما حسُن التعامل ازدادت العلاقة تشابكا ومحبة، وكلما كانت الأم مؤثرة و ( نحسة) في تعاملها مع الأعمام وأبنائهم وزوجاتهم، صار لهذا مكانة في تباعدهم.. ولقد شغل الطفل أنور صبحة عن عمل البيت، رغم أنه كان محدودا للغاية، ذلك أن حسين في العمل وليس في البيت وصبحة وحدها في البيت، ورغم أن صبحة كانت تحاول أن تبقى في بيتها وزوجها غائب عن البيت قبل الولاة، إلا أن أمها ألحّت عليها بالمجيء إلى بيت أبيها.. وهنا تدخل أبوها بصورة حاسمة، عندما عرف أن صبحة تفضل ألا تترك بيتها في غياب حسين.. وقال لها:
- إنها صفة حميدة أن لا تترك المرأة بيتها في غياب زوجها، يا ابنتي، وهي من جوهر تربيتها الدينية، ولكنك الآن وحدك بلا أطفال، وأنت في سن لم تعركه الحياة بعد، لذلك ما إن يغادر زوجك البيت عائدا إلى عمله، حتى تغلقي باب دارك، وتأتي إلينا.. إلى بيت أبيك الذي ربّاك حتى زوّجك..
- على العين والرأس، يا والدي.. أنا أعرف الحكمة التي أردتها في أمرك هذا، وأمرك مطاع، ولكنني قلت في نفسي: ربما يرتاح حسين لبقائي في البيت أكثر، حتى عندما يأتي بإجازة معروفة مسبقا، أو إجازة ترتب على عجل، يجدني في البيت، لكي أفك عنه حرج المجيء إلى بيتكم- واستدركت قائلة: بيتنا- لإشعاري بوصوله.
- إن حسين، يا ابنتي، ابننا، و صار الآن ابننا من كل النواحي، بما في ذلك ناحية الشرع في أمور أساسية.. وهو يفهم إجرائي هذا، ولا اعتقد أنه يتضايق منه، ومع ذلك قولي له، عندما يعود في الإجازة اجتهادك وقراري، لكي يعرف كل شيء.
- أمرك نافذ يا والدي..
كانت صبحة، حتى بعد الولادة، تحمل ( أنور) وتذهب به إلى بيت أبيها، عند غياب حسين، وتعود إلى دارها عندما يعود حسين في إجازة ليسعدا بابنهما أكثر.
**********
أصيب أنور بمرض بد أن صار عمره أربعة أشهر وهو العمر الذي يبدأ الطفل فيه بملاعبة أهله بما يملأهم سرورا وغبطة.. ورغم كل محاولات أم صبحة وكبيرات السن من صويحباتها تقديم وصفات من الأعشاب لتشفي الطفل، ورغم أن بعض الدراويش قرأوا على رأسه، فقد توفي أنور.. وبسقوط نجمه، انطفأ النور الذي اشتعل بولادته في ذلك البيت.
توفي أنور في الوقت الذي كان حسين في الفتحة، وحيث لا هاتف ولا سيارات توصل الخبر بين الفتحة ومحلة السكماني، فقد بقي حسين لا يعلم بالخبر الحزين.
عاشت صبحة حزنها العميق مع نفسها، وما انفكت تنتحب، تشاركها أمها وأختاها ليلى وهيلة... كانت صبحة تبكي ليل نهار، ولا ينقطع دمعها إلا بعد أن يهدها السهر، ولا يقوى جسمها على الاستمرار من غير نوم... وكانت لا تأكل إلا ما يديم الحياة لكي لا تنطفئ، تحت إلحاح أمها عليها...
- كلي، يا ابنتي، تقول أمها مشجعة، إنه زرع الله يا ابنتي، هو، سبحانه، الذي خلقه، وهو الذي اختار أن يطفئ شمعته، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، سبحان الذي لا يموت، وهو وحده الحيّ القيّوم..
كانت حليمة تقول ذلك لابنتها صبحة، رغم أن النار تلتهب في صدرها هي الأخرى، وبالكاد تستطيع أن تداري دموعها أحيانا قبل أن تطفح من مآقيها.. وتردف قولها..
- إن الأنبياء الذين خُلقت الأرض من أجلهم ماتوا، وكلنا نموت يا ابنتي، وأنت وزوجك ما زلتما في مقتبل العمر، وتبدآن الطريق من أوله، وستنجبان من الأبناء ما يجعلكما عاجزين عن الاستمرار في إنجاب المزيد.
وعندما كانت صبحة تسمع كلام أمها، يشرق بصيص أمل في نفسها كأنه إشعاع ضوء، ومع ذلك تقول لأمها والحسرة تملأ نفسها:
- في بداية الطريق، يا أمي، وقد انكسرت مسحاتنا أو منجلنا، لو استعرنا هذا من وسط حياتنا.
وبعد أن تقول هذا، تحسّ أن حشرجة ما تعتمل داخل نفسها كأنها تخنقها، فتستنجد طلبا للحياة، فلا تجد أفضل من ذكر الله والاستنجاد به:
- إنّا لله، وإنّا إليه راجعون، وصبر جميل، وبه سبحانه نستعين..
عاد حسين من العمل في إجازته بعد عدة أيام وهو في شوق لا يستطيع أن يصفه إلا هو، ليس إلى صبحة والأقرباء فحسب، وإنما إلى أنور، وربما ناف وزن شوقه إلى أنور عليهم، وبدلا من أن يتجه إلى بيته، ذهب إلى بيت والد صبحة، مثلما هي عادته. وعندما طرق الباب، جاء أحد الأطفال ليفتح له الباب، ولكن قبل أن يفتحها أسرع والد صبحة إلى الباب الخارجي وهو يتساءل:
- من في الباب؟
- أنا، يا عم.. أنا حسين..
- أهلا وسهلا بحسين، أجاب والد صبحة، وهو يهمّ بفتح الباب.
صافح حسين والد صبحة، ولكنه لاحظ أن والد صبحة عانقه هذه المرة، رغم أنه لم يكن يفعل ذلك إلا في الأعياد فحسب، ولم يسبق له أن فعلها في غير ذلك قبل هذا..
ومن غير أن يدعوه لكي يقعد في داره، قال أبو صبحة:
- صبحة وأم صبحة في بيتكم، يا حسين.
أجاب حسين:
- شكرا لك يا عم، لو سمحت، سأذهب إليهم، وقد نعود معا إليك..
- مع السلامة.. أجاب والد صبحة، و عندما أغلق الباب قال والد صبحة بصوت مسموع:
- إنّا لله، وإنّا إليه راجعون..
صارت المسافة كأنها أضعاف حقيقتها بين دار أبي صبحة ودار حسين، حيث صبحة وأم صبحة.. وجثمت على صدر حسين عشرات الصور والتساؤلات..
- لماذا هم هناك على غير العادة الجارية؟.. ترى، هل زعلت صبحة من أبيها، أو أمها، أو أحد ما، فذهبت إلى بيتنا..؟ ثم يعود ويقول: إن عمي، أبا صبحة، لا يسمح بذهابها للبيت وحدها.. ولكن أمها معها، لماذا ذلك؟.. هل ذهبت لترضيها من زعلها..؟ أم أن صبحة مريضة، وأن مرضها يستوجب أن تكون في بيتنا لكي لا تقلق أو تزعج والدها، الذي هو الآخر بحاجة إلى الراحة، وخاصة في الليل، إذا كان مرضها زكاما مع سعال؟
وعندما كان يتحدث عن احتمال أن تكون صبحة مريضة، يقفز إلى ذهنه احتمال أن يكون أنور هو المريض، وليس صبحة.. أما أن يكون أنور قد مات، فلم يخطر في باله..
طرق باب الدار، وفتحه ودخل، وفي اللحظة التي رأى فيها صبحة وعمته عديلة، وأم صبحة، عرف كل شيء. ومن غير كلام، جلس بعد أن سلّم سلاما عاما على الجميع.. جلس وصارت الدموع تنهمر من عينيه، من غير أن يردف الدموع صوت أن نشيج.
كان الرجال لا يبكون إلا آباءهم وإخوانهم الذين هم في سن البلوغ، أما على أبنائهم، فيحجمون أن يظهروا حزنهم عليهم، مخافة أن يحسب عليهم ضعفا.. ومع ذلك بكى حسين بصمت، بكى أنور، وبكى صبحة بعد أن رآها مهدمة، وبكى نفسه بعد أن أكلت الآفة زرعه.. ثم جفل من هذا القول وردد:
- استغفر الله، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وإنّا لله، وإنّا إليه راجعون..
ثم يصمت بعد أن يكفكف دموعه بطرف منديل يخرجه من جيبه، أو ( كوفية) رأسه، ويجلس صامتا..
ثم تقول عديلة:
-يابة حسين الخلف براسك.. أتلاحظ، يا ولدي، كم ولدا وبنتا دفنت ولم يبق لي منهم أحد.؟ فداك حتى الشايب، وتقصد زوجها.. أما أنت وصبحة فما زلتما في بداية الطريق، وإذا كانت السفرة الأولى لم يصل ثمرها إلى نهاية الشوط، وفق ما أراد الله، فإن السفرة القادمة سيبلغ ثمرها نهاية الشوط، بإذن الله..
- اللي يريده الله يصير، يا عمة، أجاب حسين.. في الوقت الذي كان يرقب دموع صبحة تنحدر كشلال، وهي مطرقة برأسها، تردفها دموع حليمة أيضا..
- تنهد وقال..
- هوّني عليك، يا صبحة، كلنا زرع الله، وما يريده الله لا رادّ له.. حاولنا وزرعنا، وأراد الله ما أراد، وعلينا أن نضع عيوننا بعيون الله، ونترك له سبحانه ما يقرر.
قالت صبحة، بعد أن كفكفت دموعها:
- آمنت بالله، وإنّا إليه راجعون..
قالت عديلة السلطان، وهي ابنة عمة رباح والد صبحة..
- عفية، يابه حسين.. عفية، يمه صبحة.. أنتما في مطلع عمريكما والحياة أمامكما وليس خلفكما.. مثلما هو حال عمتكم عديلة.. حيث ترملت وليس لي ولد.. لقد أرادهم الله طيورا لجنته.. وها أنا، مثلما ترون، أكل وأشرب وأعيش..
قال لها حسين:
- فيك البركة، يا عمة..
أخذ حسين إجازة طويلة نسبيا، ليبقى إلى جانب صبحة، لأنها وفق ما قدّر بحاجة إلى من يعاونها على وحشة المكان، بعد أن فقدا ابنهما.
أفضت صبحة لحسين:
- عندما كنت اختلي بنفسي أعد خشب الدار، يا حسين.. بل أتصول ألوان الخشب كأنها أشكال، بعضها لوحوش تتحين الفرصة علينا، وبعضها كأنه أشكال شياطين، وأرى بعض الأشكال كأنها وجه أنور.. ويتحول صفير الريح، سواء في دار أهلي أو في بيتنا هذا، إلى أصوات تأتي أحيانا أنيسة كجناجل أنور، وبعضها موحشة بما يذكّر بحالة شؤم، فبارك الله فيك أن أخذت إجازة لتكون إلى جانبي.
------------
(1) شفوف: مفردها شف، نسيج من الصوف، يستخدم غطاء مثل اللحاف


يتبع .................................................. .................................................. ................................. يتبع
شبكة الرافدين
توقيع آذاريل الحج
 البابلي وليد العنقاء ....
يلقي عليكم السلام وعلى باسلات وبواسل الرافدين

اخبار المقاومة:::



http://www.alqadsiten.net/browse_7.html


http://www.alrafdean.org/

http://www.jabha-wqs.net/
آذاريل الحج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 02 / 08 / 2009, 06 : 08 PM   رقم المشاركة : [3]
آذاريل الحج
كاتب نور أدبي ينشط
 




آذاريل الحج is on a distinguished road

رد: رجال ومدينة ......لكاتبها !!!

[align=right]




رواية رجال ومدينه لكاتبها الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد
الحلقه الثالثه"


من لا ينتبه، و تكون لديه عصا طويلة، تطمع فيه الكلاب، وتعضّه"..


كان الجار غير المباشر لدار حسين رجل بين الكهولة والشيخوخة، متزوج من امرأة أصغر منه بكثير.. وكان أحد الأشرار من خارج محلتهم غالبا ما يستغل فراق العمر بين الزوج وزوجته، ليظهر نوعا من ( الحرشة) بالزوجة، وقد شكته الزوجة إلى زوجها، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا، ذلك لأن المشكو منه رجل في مقتبل العمر، ورغم أنه متزوج، لم يكن يرعوي، إذا ما فتحت أمامه فرصة أن يضع عينه على إحداهن، وبخاصة إذا لم يكن لها والٍ قوي يخافه، وكان يعتبر من أشقياء المدينة..
كان الزوج جار الجار لدار حسين، وكان لا يستطيع أن يفعل شيئا بعد أن اشتكت له زوجته من ذاك الشقاوة ( الشقي)، ورغم أنه قال لها: تجاهليه ولا تخرجي إلى الشط لجلب الماء ( بالصرفية)، والصفرية هي المشربة وعبارة عن وعاء من الصفر ( البرونز) على هيئة جرة، كانت بنات المدينة التي سنطلق عليها اسم ( بنت النهر) ونساؤها يتزودن بالماء بها من النهر إلى البيوت على أكتافهن.. ولكنه ظلّ يشعر بأنه مقهور في داخله، لأنه لم يستطع أن يرد على تحرش `ذلك الوحش الكاسر، ثم تساءل مع نفسه:
- أليس من لا يستطيع أن يحمي زوجته، لا يخيفها، إذا ما سوّلت لها نفسها الزلل؟.. بل، أليس من لا يجد عقابا على فعل مشين يطمعه أكثر ليرتكب الفعل المشين؟ ثم أليس الإلحاح قد يجد ثغرته في نفس زوجتي إن لم أضع له حداً وأربّيه؟
ثم يقول مع نفسه:
- وكيف لي أن أربي هذا الوحش، مع ما لديه من إسناد عشائري وعدد إخوة، وأنا على ما أنا عليه من حال شبه مقطوع عن الإسناد إلا من رحمة الله، وأنا ما أنا عليه من ضعف؟ وتغرورق عيناه بالدموع، ويقول بصوت مسموع مع نفسه:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
وعندها ينفتح أمامه الأمل كأنه إشعاع ضوء، يكشف له العتمة، ويطرد الظلام من نفسه وأمامه، ويقول مع نفسه:
- ليس أمامي إلا أن أشكوه إلى رباح، أبي مال الله وصبحه، فهو رجل شجاع، ألم يذبح ضباط وجنود ( العصملي) فيما سمي ( بدقة) عملة البيكات بعد أن تجبّروا على أهل مدينتنا..؟ ثم يتوقف ويقول:
- الله أكبر.. كيف نسيت حسين أبا ( عمشة)- والقرب في الريف يكنون كل من يحمل اسم حسين بأبي عمشة، أو أبي علي، ولكنه إذا ما تزوج وأنجب، وسُميّ المولود، كنيّ به- إنه جار جاري، والرسول الكريم أوصى خيرا بجار الجار مثلما أوصى بالجار.. وحسين رجل شهم وشجاع، أليس هو الذي تغلّب على الذئاب الكاسرة في الشعاب الجنوبية لمدينتنا بخنجر وعصا ( كلنك) – عصا في رأسها قطعة حديد مستطيلة تثبت عرضيا في الربد- عندما هاجمته خارج المدينة العام الماضي؟ ألم يضع حدا لواحد من الذين حاولوا في العيد الماضي مضايقة النسوة المتجمعات، مخترقا تجمعهن قرب المزار بفرسه المغيرة؟ ألم يلحق به حسين مغيرا هو الآخر، على فرسه، فأوسعه ضربا بعصا على ظهره ورأسه حتى أدماه، وجعل منه هزءاً أمام كل الناس، بحيث أن ذاك الشرير لم يعد يحضر على فرسه في العيد الكبير، ولا في الأعراس منذ ذلك الوقت، وتحلى بالأدب معه كل من كانت في نفسه نية فعل سيء إزاء النساء والرجال؟
كان الناس يحسون بالأمان عندما يحضر حسين أبو عمشة على ظهر فرسه أي مكان فيه تجمع فرح..
- نعم أبو عمشة ( كدها)، يا الله ما أغباني!
يقول الرجل، ثم يضرب مقدمة جبينه بيده..
- كيف أنساه؟.. وماذا كنت سأفعل، أو أقول له، لو تخطيته وذهبت إلى رباح أستفزعه في هذا الأمر؟ بل وما الذي يقوله رباح عني وعن زوج ابنته وابن عمه، لو كنت قد استفزعته من غير أن أستفزع أبا عمشة؟ الحمد لله أنني اهتديت إلى معالجة الداء بالدواء المناسب له: أبو عمشة.. نعم إن إخوة هدلة، ومنهم أبو عمشة، أهل نخوة وغيرة، وهم سادة العرب، مثلما هم سادتنا، ويعرفون حق الجيرة، وحقوق الناس..
ولكنه عاد ليقول مع نفسه:
- ولكن كيف لي أن أستفزعه الآن في أمر كهذا، ولم يمضِ على وفاة ابنه إلا أقل من شهرين؟
ثم يعود ليقول:
- ولكن صاحب الحاجة أعمى، ومن في ( عبه) نار لا يستطيع أن ينتظر، في الوقت الذي يرى المطفأة قربه.. لأذهب إلى حسين.. إن حسين شاب عاقل.. وسوف يعذرني لأنه يعرف ما يعنيه حال من يشعر بضعف أمام متجبر في أمر يخص عرضه.. نعم سيعذرني، وليس غيره من هو أفضل منه ليأخذ بثأري من هذا النذل..
ظل أمام الباب الخارجي لداره ينتظر حتى خرج حسين من بيته، وصار أمامه.. وبعد أن حياه حسين وفق التقليد الصحيح بأن يحيي الماشي الواقف أو الجالس، وردّ عليه التحية، قال:
- لو سمحت، أبو عمشة، عندي حاجة سأقولها لك..
وبعد مقدمة إطراء مما استذكره عن حسين وأهله وعمومته وكل العشيرة.. قال لحسين:
- نحن جيرانكم، وضمن مسؤولية حمايتكم..
قال حسين:
- خير.. قل يا رجل، أنا عندك، وعين عيونك.. وهي نخوة أهل الريف إذا ما أرادوا أن يشدوا أزر أحد..
قال الرجل:
- والله، يا أبا عمشة، وقع عليّ ظلم لا أستطيع أن أرده.. بل ليس عيبا أمامك، وأمام نخوتكم وقدرتكم، أن أقول أنني أحس بضعف إزاء رجل ظلمني، ولا أستطيع الرد على ظلمه..
وعندما حكى قصته، وذكر اسم من ظلمه وضايق زوجته واستمر في ذلك، تطاير الشرر من عيني حسين، وتحول لون وجهه الأشقر إلى ما يقرب من لون ( كبدة!) واحمرّت عيناه، وعضّ على شاربه.. وهو يصفق يدا بيد:
- أيابه.. باطل.. أنا أعرف أن هذا الذي تحدثت عنه نذل.. ولكن كيف تجرأ على أن يأتي إلى محلة السكماني وهو ليس منها؟.. بل كيف تجرأ على أن يتحرش بعائلة تحت حمانا؟ والأدهى أنكم جيراننا؟ أي إهانة كبيرة يوجهها إلينا كلنا نحن السادة في السكماني؟.. بل وإليّ مباشرة!؟
وعندما استفسر منه حسين أكثر، قال إنه رأى زوجته في طريقها إلى نهر دجلة، لتملأ صفريتها من هناك، وتبعها في الغدو والإياب، وتعقبها إلى أن دخلت الدار.. وبعد أن عرف دارنا.. صار يفعل ذلك يوميا.. بل الأكثر من هذا.. صار يأتي في الليل.. ويمر أمام الدار، ثم يصفر مرة أو مرتين.. ويذهب.. وقد منعت زوجتي منذ أيام من أن تذهب إلى النهر، وصرت أقوم بذلك على ظهر دابة..
قال حسين:
- هل يحتمل أن يأتي الدنئ اليوم؟
أجاب الرجل:
- نعم..
- أرجوك، إذا جاء، اصعد من فوق سطح دارك على سطح دار عمتي عديلة، ثم على سطح دارنا، وادبك برجلك على سطح دارنا، وسأتولى أمره..
قال الرجل:
- أرجو حلمك عليّ، أبو عمشة، كيف تريدني أن أتجاسر على سطح دار عمتك، ثم على سطح داركم؟ وماذا يمكن أن يقول عني الجيران لو رأوني وهم لا يعرفون شيئا عن الحال الذي أقوله لك الآن!؟ وماذا يمكن أن يتكون في نفوسهم ضدي سراً أو علانية؟ وماذا يقولون عني غير لص غادر؟
تأمله حسين وهو يداور كلامه في نفسه، ووجد أنه محق في ما قاله، وأنه يعرف معانيه، ولكن نخوته وحماسته جعلته لا يتوقف أمام مثل هذه الاحتمالات.. اخرج حسرة وزفرة من صدره، ثم قال:
- إنك رجل شريف.. أسألك، أليس لديكم سراج أو فانوس؟
- نعم، لدينا سراج.
- هذا جيد.. راقب ( الدربونة) الزقاق أمام داركم من فوق سطح الدار، وليكن السراج قريبا منك، وإذا لاحظت ذلك الدنيء يمر من أمام بيتكم، أشّر لي بالسراج، وسأكون أنا- قال حسين- منذ غروب الشمس على سطح الدار، حتى أنني سأؤدي صلاة المغرب هناك، وستكون عيني على ستارة داركم، وسأجعل حتى صبحة تعاونني وتناوبني في هذا. وبعد ذلك سأتدبر الأمر..
شكره الرجل، وهمّ بأن يلتقط يده ليقبلها، لولا أن سحبها حسين وهو يقول:
- أستغفر الله، عيب يا رجل، نحن أهل إلا ما حرّم الله، ما دمنا أبناء محلة واحدة، فكيف إذا كنا جيرانا!؟
قال الرجل:
- لا خاب من هو جاركم، يا أبا عمشة، وتعدتك المنية..
كان حسين يراقب الحال من فوق السطح، هو وصبحة بالتناوب، أو كلاهما معا، وظلا يراقبان طيلة تلك الليلة، ولكن عندما حكى حسين لصبحة موضوع الدنيء مع جيرانهم لتعاونه في مهمته.. قالت صبحة:
- كيف تجرأ هذا الكلب العقور على هذا الفعل؟ وإذا كان قد توهم لأول وهلة، فكيف تجرأ ليديم تحرشه بامرأة لم تعطه وجها!؟
قال حسين:
- وماذا تظنين؟
- أعوذ بالله من الظن، يا ابن العم، ولكن أردت فقط أن أنبهك إلى ما يجب.. لأن النساء ثلاثة أشكال- وتقصد أنواع- واحد من الثلاثة المرأة الحشيمة – تقصد صاحبة الحشمة- ومن تتذكر نفسها وتذكرها بما لا يجعلها تنسى أن اعتبارها واعتبار أهلها هو سياجها داخل نفسها لتكون حصينة، والنوع الثاني هي التي لا ترتقي بها الحصانة إلى داخل نفسها، ولا تقيم في ذاتها تلك الاعتبارات التي عليها النوع الأول، ولكنها تخاف ( وليانها)، فتحجم عن عمل السوء، أما النوع الثالث، فهو الذي لا يتوفر فيه الحد المقبول من الحصانة الذاتية، ولا الاعتزاز بالمعاني العالية، ولا تخاف من ( وليانها)، إذا كانت تظن أنهم ليسوا بالمستوى الذي يقطع دابر السوء ويدفنه عندما تظهر جيفته.. فأي نوع ترى امرأة جارنا، هذا الرجل المسكين، يا حسين؟
- لا أعرف تفاصيل كثيرة عنها لأجيبك بدقة، ولكن زوجها رجل مستور، وليس قويا بما فيه الكفاية، وهي يتيمة، وإخوتها صغار في السن..
- على أية حال، لا بد أن تقوم بواجبك تجاه هذا الكلب، لأنه تجاسر على جيراننا.
ولم يحصل أن أوقد السراج في تلك الليلة.. حتى أن حسين، خشي أن الرجل لم يتمكن من إيقاد السراج، أو أنه أوقده وأطفأه الهواء، أو أنه لم يشاهده عندما اتقد، ولذلك ذهب إلى بيت جاره قبل أن ينام.. وبعد أن طرق الباب خرج إليه الرجل وسأله:
- ألم يأتِ الدنيء؟
قال:
- لا، لم يأتِ، ولكنه سيأتي حتما مساء غد، إن لم يأتِ ظهرا. ثم أردف قائلا:
- لا.. لن يأتي ظهرا، بعد أن عرف أن زوجتي لم تعد تخرج إلى الماء..
قال حسين:
- على أية حال، لنبق نتصرف وفق ما اتفقنا عليه..
- نعم، أمرك أبو عمشة..
وفي اليوم التالي، بعد صلاة المغرب، لاحظ حسين السراج وهو يتقد على ستارة سطح جاره، وكان يتحزم بحزام، ووضع على جنبه خنجره، وقربه عصا غليظة أعدها لهذا الغرض.. وبدلا من أن ينزل من السلم إلى داخل الحوش، ومن ثم يفتح الباب الخارجي ويستدير في الدربونة إلى حيث مكان جاره ( جار الجار)، قدّر حسين أن هذا قد يضيع عليه فرصة الظفر بالدنيء، فقفز من فوق سطح منزله إلى الأرض من الخلف، وجاء سقوطه على القسم الأسفل من ظهره في منطقة ( العصعص).. وشعر بعينيه تقدحان نارا، وآلمه ظهره ألما شديدا، ولكنه نهض والتقط العصا التي سقطت من يده أثناء ذلك، وتحسس خنجره، فوجده في مكانه.. وركض رغم الألم الشديد الذي كاد يسقطه على الأرض مغميا عليه، ولكنه تحامل على نفسه وهو ينتخي:
- أنا أخو هدلة..
وصل إلى الدنيء، وصاح به بقوة:
- ما الذي جاء بك إلى هنا، أيها الخاسيء؟
وقبل أن يتحسس الخاسيء خنجره في وسط حزامه، عاجله حسين بضربة على رأسه، وأخرى على رقبته، فوقع على الأرض مضرجا بدمائه وهو يصيح ويولول:
- دخيلك أخو هدلة.. دخيلك أبو عمشة
- أيها الغادر، أجابه حسين، تريد أن تكون تحت حمايتي، ممن؟ أتريد أن أحميك بالباطل على الحق، يا خاسيء!؟
جاء جار حسين يركض، وبيده عصا غليظة، وهمّ بأن يضربه على رأسه، وه8و ممتد، لولا أن عاجله حسين، فوضع عصاه أمام عصاه، فجاءت الضربة على عصا حسين، والتقط حسين عصا جاره ليقول له:
- ما فعلته به يكفي، يا صاحبي، اجعل نفسك كما الآخرين، ولا تظهر بالصورة، لكي أتدبر أمر هذا الدنيء..
فتح الجيران أبواب دورهم، وخرج كثر من أهل المحلة، وسألوا حسين عن الأمر فقال لهم:
- إنه حرامي (1) ( لص) جاء يسرق دار جاري، فأمسكت به، بعد أن استغاث جاري بي، وكذا همس في أذن الملعون، قبل أن يحضر أهل المحلة.. وقد كثرت على الحرامي ( النعل) من النساء،ورماه الأطفال بالحجارة، وراح الرجال يبصقون عليه، وصاح أحدهم مخاطبا حسين:
- لنذهب به إلى (الحفيز) يا أخو هدلة.. ( والحفيز) معربة محلية من ( الأوفيس) الإنكليزية.
قال حسين:
- نعم نذهب به إلى هناك ليحاكم كلص، أو يتعهد أمامكن بأنه لن يأتي ثانية إلى محلة السكماني أبدا، ولن يحاول سرقة أحد من أهل مدينتنا، وإذا تعهد بهذا أطلقنا سراحه، وإلا فإنه بعد ذلك يعرف عقابه.
وغمز الدنيء بطرف عينه، وقد فهم الدنيء ذلك، وقام وتناول يد حسين وقبّلها.. وقال له:
- حذاؤك، أخو هدلة، على رأسي، لن تطأ رجلي محلتكم بعد الآن، ولن أحاول أن أضع.. أراد أن يكمل ليقول: عيني على امرأة.. عفوكم، أقول لن أحاول أن أسرق أحدا.. أرجوك اعفني، أخو هدلة.. أنا دخيلك، بعد أن نلت ما أستحقه..
عند ذلك أطلق حسين سراحه، وبذلك ستر العائلة الكريمة من محاولته، وما يمكن أن تبني عليها عقول الجهلاء ومن يحبون الكلام والتأويل، وفي الوقت نفسه جازاه بما يستحق..
تصولُ الليالي والسيوفُ تطاول
ستعقرها حتما وتبقى الفضائلُ

ويؤخذُ مغلوباً بها كلّ عاصفٍ
إذا أوهموهُ أن ينجيه باطلُ

ففي كل ساحٍ تشرقُ الشمسُ عندنا
ويروي ثرانا كلما شاءَ هاطلُ

فنحن أُباةُ الضيمِ بيضٌ أكفنا
وحتفٌ مخيفٌ إن تجاسرَ سافلُ

يردُّ عليه سهلنا وجبالنا
ونهرٌ وشطٌّ من ربانا وساحلُ

وما همّنا يومٌ ثقيلٌ وإنما
يصدُّ بحق كل ما هو باطلُ

*********
ازداد الألم على حسين في أسفل ظهره وجنبه، وبدأت صحته تتدهور.. غير أنه اعتدل في غضون أيام، عندما أسرّته صبحة بأنها حامل، ولكن سروره بطفل موعود لم يغيّر شيئا في جوهر حاله، واستمرت صحته تتردى عن مستواها.. بلد ازدادت ترديا حتى بعد أن مضى على حادث الدنيء ثلاثة أشهر، وهو ينتقل بين الفتحة والبيت، وكثرت إجازاته على غير عادته.. أملا في أن تكون الراحة وسيلة إنقاذ لصحته.. ولكن مع الزمن الذي لم يزد عن عدد من الأشهر صارت الأيام التي ينقطع بها حسين عن العمل أكثر من الأيام التي يكون فيها في العمل، وعندما أفضى إلى أحد أبناء عمومته في العمل بتفاصيل ما كان يحس به من ظواهر المرض، ومن بين ذلك أنه بدأ عندما يتبول يلاحظ أن الإدرار صار تدريجيا يأخذ لون اللبن تخالطه سمره..
عندها قال له:
- أخشى أن تكون كليتيك قد أصابهما سوء، لا بد أنك تتذكر فلانا العبيدي.
- نعم، أتذكره، رحمه الله..
- كان صديق كثر من الولد ( يقصد شباب الديرة) عندما وقع من على ظهر فرسه وأصابه الشيء الذي تشير إليه الآن، وقد عرض على أحد الصلبة دون جدوى ( والصلبة اسم يطلق على قسم من الناس، يشبهون الغجر، وقد أسماهم أهل الريف بالصلبة وقد يكونون من بقايا الصليبيين من جيوش الغرب التي جاشت على فلسطين، وسحق العرب جيوشهم بقيادة صلاح الدين الأيوبي، في سلسلة معارك كانت الحاسمة فيها معركة حطين، وهم، على أية حال، غالبا ما ينقلون الأخبار من مكان إلى آخر، وهم يمتطون الحمير لا غير.. لا يركبون الخيل أو الجمال، وفي نفس الوقت يعرفون بمهنة التطبيب والمعالجة بالأعشاب، أو الإبر، أو الحجامة أو الكي).
عاود محدث حسين ليقول:
- عندما عرض ذاك الرجل العبيدي على الصلبي قال له: إن سقطتك من فوق الفرس جعلت إحدى كليتيك تتمزق، ولهذا السبب صار إدرارك أبيض كاللبن، مائلا إلى السمرة.
عندها قال حسين:
- نعم لقد سقطت فعلا على جانبي الأيمن، وأنا أقفز من السطح، وأخشى أن تكون كليتاي قد أصابهما أذى، بالإضافة إلى الألم في العمود الفقري.. ولكن هل بإمكاننا أن نحصل على صلبي لأعرض نفسي عليه؟
أجاب محدثه:
- لا أعرف، ولكن سأضع عيني عليهم إذا مرّوا للعبور من الفتحة، وسأوصي آخرين ليبحثوا عن واحد منهم، ولكنهم، مثلما تعرف، لا يستقرون في مكان، ولا يعرف لهم سكن، ولذلك ما علينا إلا أن ننتظر الفرصة والصدفة.. ولم تحصل الفرصة، ولم تنجح المصادفة لترجيح ذلك، ولم يستطع حسين أن يستمر في العمل حتى وفق الوجود الرمزي، وقد نصحه شقيقه سليمان، الذي كان يعمل في الفتحة أيضا، بالعودة إلى المدينة لكي يرتاح هناك، قائلا أنه سوف يتدبر أمر معيشة العائلتين، عائلته وعائلة حسين.
- ومن راتبي، هكذا قال سليمان، إلى أن تعود إلينا بالسلامة، يا أخي، مشافى معافى بعون الله..
كان قلق صبحة يزداد من تدهور صحة حسين، ورغم أنها لم تلاحظه يولول من المرض، ولكنها كانت تلاحظ أن كل شيء في صحته ينهار، وتفضي إلى والدتها بذلك، وكان والد حليمة من بين قلائل في المدينة ممن يعرفون القراءة والكتابة، لكنه لم يكن من عشيرة رباح والد صبحة، وكان ( يخطخط) يكتب أحجية تتضمن أدعية لمن يطلبها، وهي عبارة عن آيات قرآنية وأدعية مما يعرفه، بينما كان أبناء عشيرة حسين ورباح لا يقومون بذلك لأنهم سادة، بل ربما كانوا لا يقومون بذلك لأنهم يعرفون أن السادة الحقيقيين ينبغي أن يتجهوا إلى الله، ولا يضعوا أنفسهم موضع وسيط، أو موضوع تصور بأنهم يمكن أن يشفوا من يشفونهم من داء أو مرض.. وربما يكون سبب شفاء من يكتب له الشفاء من بعض الأمراض، ومن بينها الاحتباس الجنسي، أو العجز الجنسي، نفسيا، ذلك أن من يدخل نفسه أن صاحب الوسيلة يشفيه فعلا، يكون حاله النفسي على هذا التصور، ولأن كثرا من الأمراض ذات منشأ نفسي، كان هذا الشعور الأساس الذي يلعب دوره في النتيجة، وليس أصحاب الشعوذة والسحر والقراءات الخاصة والأدعية والأحجبة.. على أية حال من يغرق وليس لديه وسيلة يعتمد عليها لإنقاذه، يتوسل بالقشة، وفي ظنه أنها قد تنقذه من الغرق. وعندما يقول لهم حسين وهو يبتسم:
- عمة، ما الذي يمكن أن يفعله ماء ينفع عليه والدك؟
تقول:
- لنحاول، يا ولدي، فقد جعل الله لكل شيء سببا.
وعندها تقول صبحة:
- آمنت بالله..، نعم يا حسين لنحاول..
وعندما تستدير حليمة مبتعدة عنهما، يهمس وهو يبتسم من شعور بالألم:
- وما الذي فعله جدك مع أنور؟ ألم يمت أنور رغم أنه ( عزّم) على رأسه مثلما تقولون؟.. الحي حي والميت ميت، يا صبحة..
- توكل على الله، يا حسين، واطرد الوساوس من صدرك.
- نعم، يا صبحة، على الله نتوكل أولا وأخير، وهو ربنا، وبه نستعين، افعلا ما تريان أنت والعمة حليمة أنه يفيد..
**********
في أحد الأيام استيقظت صبحة مرعوبة من رؤيا قصتها على حسين والدموع تنهمر من عينيها..
- رأيت نسرا أسود، بشع المنظر، ليس كالنسور أو الحدآن التي نراها في الكهوف المطلة على شواطئ النهر أو في الريف، وإنما منقاره طويل.. ومخالبه طويلة ومعقوفة.. رأيته يحط على ( ستارة) دارنا، ثم انقض على خنجرك، والتقطه بمخالبه من قرب رأسك، وعبثا حاولت أن أطرده لأمنعه من ذلك، وكنت أصيح بأعلى صوتي، بأمل أن تسمعني وتعاونني عليه.. ولكن صوتي لم يعاونّي ليظهر.. وها قد استيقظت على صوتك وأنت تئن..
- متى كنت أئن؟
- نعم، لقد سمعتك تئن، يا ابن العم.. لماذا تكابر!؟
- لا والله، لا أقصد المكابرة، أو أضم عليك شيئا، ولكنني استيقظت على صوتك وجلوسك على الفراش..
- أنا خائفة من هذه الرؤيا. قالت صبحة
- ضعي الله بين عينيك، يا بنت العم
أراد حسين أن يغير على صبحة تركيزها على الرؤيا، رغم أنه في داخله لم يرتح لتلك الرؤيا..
- ماذا سنسمي ابننا، إذا رزقنا الله بولد؟ وماذا نسميها لو جاءت بنتا؟
- على كيفك.. قالت صبحة.. ولكن الأعراض التي لاحظتها عندما حملت بأنور ألاحظها الآن، مع أن العلم عند الله، ولكن اليقين داخل نفسي يقول لي إنه ولد ليعوضنا الله به عن أنور.. ولا بد أن أقول لك، يا حسين، أنني لم أعد أفكر الآن في أنور الذي توفاه الله، ولا حتى في من في بطني، إن الأساس الذي يهمني هو أنت، إذ بدونك، ماذا يفيدنا الولد؟.. وماذا يعني من غير أن يكون أبوه حيا؟
عندها قال حسين.. وكأنه يهيئ صبحة لاستقبال أمر واقع لا محالة مثلما يظنه..
- إنك أمه.. أخت مال الله.. وإن رباح أبوه مثلما أنا أبوه.. وإن سليمان أبوه.. وراح يعدّ إخوته الثلاثة.. ثم قال.. وإن خاله مال الله أبوه أيضا.
وعندها أحسّ بما يضيق عليه حنجرته من عبرة حزينة، لكنه حاول أن يغالبها، لكي لا تظهر على صوته، فلم يجد ما يداريها ليخفيها غير السكوت والاستدارة بوجهه ناحية الجدار الذي وضع فراشه بموازاته، ولكنه لاحظ وهو يهمّ بأن يستدير أن عيني صبحة كانتا تسكبان الدمع مدرارا.. فقال:
- أنا أخو هدلة، صبحة!!؟ ما الذي حصل معك لتبكي؟ توكلي على الله.. فما هي إلا أيام حتى أنهض وأكون بأفضل حال، ونحن نستقبل مولودك الجديد.. كم بقي له.. إذا سهّل الله؟
أجابته صبحة:
- ثلاثة أشهر، ربما..
- على أية حال، إذا كان ولدا نسميه مثلما اقترح عمه حسن، عندما زارنا البارحة.. نسميه صالحا، جعله الله من الأبناء الصالحين لنا ولكل أهله وشعبه، وإذا كانت بنتا فسمّها أنتِ، يا صبحة..
قال ذلك وتبسّم، وتبسمّت صبحة، ووضعت طرف فوطتها على فمها لتخفي ابتسامتها مثلما هي عادتها.. وأردف حسين:
- أما إذا أخذت برأيي، فأنا أحب أن نسميها فاطمة.
- يا حسين، أم أحمد فاطمة، وقد توفاها الله.. فهل يجوز أن أسمي ابنتي باسم عمتي أم أحمد؟
- وماذا في ذلك؟ أليس الاسم أحياء لذكر الميت!؟
- ولكن، ألا تعتقد أن اسم فاطمة كبير على طفلة؟ وأن من يناديها باسمها ستحضر في باله المقارنة بينها وبين عمتي أم أحمد؟ وأنت تعرف، يا حسين، كم هي غالية عليّ، وكف هي ( خاتون) النساء بحق! ( وكلمة ( خاتون) أعجمية تعني بلهجة ذلك الزمان، المرأة الحصينة الحصيفة الحبابة)..
عندها قال حسين:
- إنها ابنة صبحة، وستكون هي الأخرى خاتونا وحبابة.. أليست أمها صبحة، وجدتاها حليمة لأمها، وياسة لأبيها؟
قالت صبحة:
- وأبوها حسين.. ثم ضحكا
- أخشى أن نتحول إلى كوخات كرد يمدح كل منها الآخر. قال حسين، وضحكا مرة أخرى حتى بانت نواجذهما.
*********
عندما عرفت العشيرة بمرض حسين، توافد الرجال والنساء على داره ليعودوه، وكان أكثرهم من كبار السن من الجنسين، أعمام وأخوال حسين وصبحة، وآخرين من أعمامهم الأبعدين، ومنهم بخاصة الذين يلتقون بما لا يزيد عن خمسة أظهر مع عمر الوسطاني، مثلما أسموه، وهو واحد من ثلاثة أجداد كلهم سمّي عمرا، من عشيرة السادة في مدينة بنت النهر، أو في القرية المجاورة لها والمسماة رمز القرى.. ولكن أغلبيتهم، وبخاصة الموجودون منهم في قرية رمز القرى، والعدد القليل الإضافي الساكنون في بنت النهر ومنهم حسين، يلتقون عند عمر الثاني ( الوسطاني).. كانت صبحة إذا ما زاره واحد من كبار السن من أعمامهم وأخوالهم، لبست عباءتها، ورفعت فوطتها لتغطي فمها ومقدمة أنفها، وجلست معهم، أو وقفت قربهم لتقدم ما يلزم، وهو نزل يسير، ولترحب بهم، وتجيب عن أسئلتهم عن حالة حسين الصحية وأسبابها، مثلما هي عادة من يعود مريضا في السابق أو الآن.. وإذا جاء شبان لزيارته، وغالبا ما كانوا يتجنبون ذلك لكي لا يحرجوا صبحة أو حسين نظرا لضيق المكان، ذهبت إلى البيت ( الجوة)، وتولّت عديلة السلطان عنها واجب الضيافة أو الإجابة عن الأسئلة.. أما إذا ما كان الزائر من النساء، تبقى صبحة إلى جانب حسين لتلبي له طلباته، وما يحتاجه المريض، إما لتغيير وضعية جسمه أثناء النوم، أو لنقل الوسادة من طرف الفراش إلى الطرف الآخر، أو وضعها خلف ظهره، عندما يقعد متكئا بظهره إلى الجدار، أو رفع ( الشف) وإنزاله على ساقيه، أو رفعه حتى لا يبان إلا وجهه بعد دقائق، وكل ذلك يحصل تعبيرا عن ( لوبة) الروح، بمعنى الضجر، أو استجابة لمتغيرات حال الجسم، عندما يكون مريضا..
هكذا بقي حال حسين، وبقيت معه صبحة ليلا ونهارا، تستجيب بيقظة دائمة لكل همسة أو التفاتة، وتتفاعل مع كل حسرة أو تأوه ( آه)، ومع كل طلب مما ذكرنا..
*********
اشتد مرض حسين في شتاء تلك السنة، حتى صار واضحا أن نجمه قارب نهاية الأفق البعيد.. كانت صبحة تذرف الدموع من غير انقطاع، ولكنها كانت تفعل ذلك بصمت لكي لا تعصر قلب حسين عليها.. كانت تفعل هذا عندما ينام، وقليلا ما كان ينام في الأيام الأخيرة من حياته، بسبب الآلام التي كانت تعتصره جرّاء مرضه، الذي لم يعرف على وجه التحديد.. وكيف لهم أن يعرفوا مرض من يمرض آنذاك في مدينة بنت النهر، أو حتى في مدن العراق وقراه من أقصاه إلى أقصاه؟ وأين هم الأطباء الذين لم يكن عددهم يزيد عن أصابع اليد من الإنكليز، الذين جاءوا مرافقين لجيش الاحتلال عام 1917 عندما دخل الإنكليز بغداد ليحلوّا محل العثمانيين الذين هزموا في الحرب العالمية الأولى، أو أولئك الذين جاءوا لتطبيب الأجانب من الإنكليز والفرنسيين والهولنديين والأمريكان العاملين في نفط كركوك، وكانوا أحيانا يقدمون خدمة محدودة كجزء من صورة الدعاية العامة لما يحاول عليه المستعمرون، فيفحصون ويداوون هذا أو ذاك، وربما كان معهم عدد قليل من الأطباء العراقيين، ولكن هل يمكن أن يهتدوا إلى بنت النهر، أو إلى مريض فيها؟ أم إلى رجالهم وأصحاب الجاه والسلطان!؟ وهل تقدم الرشوة إلى لمن تكون نفسه مهيأة لأن يستجيب لها، ويكون متهافتا على تأدية خدمة!؟ وماذا يمكن أن يفيدهم حسين ليقدموا له خدمة كهذه!؟ وهو من عشيرة معروفة بأنها حاربت الأتراك، وقتلت ضباطا وجنودا منهم، وكان رباح في مقدمة من صال عليهم، وكان ( حوش) عديلة السلطان، و( دربونة) السكماني أبرز شاهدين على الكيفية التي صرع بها أعمام حسين ووالد صبحة سبعة منهم في يوم واحد، في ذلك المكان، ومنهم من كان برتبة ( يوز باشي)، وابن أحد قادة جيشهم، الذي على إثرها أحرق كل بيوت أعمام حسين وصبحة من الساكنين في بنت النهر، بعد أن وجوهم قد هربوا باتجاه الجزيرة على ظهور خيولهم، وظل رجال العشيرة يغيرون عليهم، ويقطعون عليهم الحركة في دجلة، حيث كانت ( الأطواف) تنقل المؤن بين أعالي العراق من الموصل وأربيل إلى بغداد، بالإضافة إلى ما معروف عن هذه العشيرة التي جاءت من الحافة الشمالية لوسط العراق حيث بنت النهر على الضفة اليمنى لنهر دجلة، لتشارك الثوار العراقيين في ثورة العشرين، التي اشتعلت شرارتها في الفرات الأوسط، وامتدت إلى جنوب العراق، ومن بعد ذلك إلى العراق كله، وتسبب ذلك في اعتقال عدد منهم ومن ثم نفيهم إلى الهند، ومن بين أولئك شيخ العشيرة أحمد الخطاب وعمه حسن العمر.. بل هل يمكن أن تدل فلوس حسين، أو فلوس أهله، على طبيب؟ ومن أين لهم بالفلوس في بنت النهر؟ وكيف تجد طريقها إلى بيت حسين الذي انقطع عن العمل منذ عدة أشهر!؟ وهل يمكن لعامل، أو فلاح، أو حارس، أو من هو في مقامهم أن يهتدي إلى طبيب، أو يهتدي إليه طبيب في ذلك الزمن، ومن مِن أولئك الحاكمين يعرف الله، ويقدر أحكامه حق قدرها، ويعيش الشعب في ضميره، وقد تحرر من المستعمر، ليعرف الشعب، حتى يهتدي إلى بيت حسين ليعالجه؟
أوشكت الشمعة التي كان نورها ساطعا في ركن من أركان محلة السكماني أن تنطفيء، وعندما لم تبق إلا ذؤابة أو ذؤابتين من تلك النجمة قبل أن تنطمس نهائيا في الأفق، كان حسين في شبه غيبوبة في ذلك اليوم، ولكنه كان يفتح عينيه من حين لآخر، ليسأل عن سليمان، الذي كان مؤملا أن يحضر إلى بيت حسين، بعد أن أوصلوا إليه رغبة حسين أن يراه، قبل أن يغادر إلى الدار الآخرة.. ولكن سليمان تأخر، بينما رأى حسين كل إخوته الآخرين، وأقاربه نساء ورجالا على ما أسلفنا..
كان حسين يفتح عينيه بعد أن يلتفت برأسه باتجاه الجالسين على يمينه، ويسأل:
- ألم يحضر سليمان؟
وعندما يجيبه أخوه حسن: إنه لم يحضر، ينفث حسرة كأنها حشرجة.. ثم يقول:
- لقد تأخر سليمان!!..
وغابت آخر ذؤابات النجمة الساطعة.. مات حسين، وبموته غرقت محلة السكماني في عزاء كامل، شمل مدينة بنت النهر كلها، ومعها رمز القرى.. وخرج الناس خلف جنازته رجالا ونساء، يتقدم الرجال النساء وهم يحملون نعشه، ويتركون المقبرة للنساء بعد الدفن، لكي تقول إحداهن بحق المتوفى ما تقوله، وتردد النساء مقاطع مما تقوله، ثم تصيح إحداهن بصوت يرتفع على ما حوله: يا خوية.. أو يا عمي.. ويعقبها صوت " يبووه.. بعد مد ( الواوين) وتسكين الهاء"، ثم تردد اثنتان من ( العدادات) من أهل المدينة، وليس من أهل حسين، وصدراهما شبه مكشوفين، بعد أن تزيحا فوطتيهما قليلا، وهما يضربان صدريهما بمجمع أيديهما كل على انفراد، صوت: حو... حو... حو...

أعاين ممزوجا من الماء والسنا
لتزهو من فوق الجراح نفوسنا

حريق هو الحب الذي إن أردتهُ
وجربتهُ صارت لك النار ديدنا

وتلتهبُ النارُ التي من لهيبها
تحول فيها قدرة المرء للونى

إذا ما أتى مجدا يريد حياته
ليسقي عطاشى أو ليروي من ضنى

إذا ما دنا منك احترقت بناره
وإنك إن أبعدته زادك العنا

تخالط فيه مره مثل حلوه
كما جاور الرمضاء درّ لمن دنا

---------------
(1) جاء وصف حرامي للسارق في العامية من معنى أنه يحوز المال الحرام بالسطو، أو بانتهاز غفلة غير مشروعة...


يتبع.............................................. ...يتبع
شبكة الرافدين الأخباريه


__________________
الحياة وقفة عزّ ...والتضحية عرينها

والسلام على باسلات وبواسل الرافدين

[/align]
توقيع آذاريل الحج
 البابلي وليد العنقاء ....
يلقي عليكم السلام وعلى باسلات وبواسل الرافدين

اخبار المقاومة:::



http://www.alqadsiten.net/browse_7.html


http://www.alrafdean.org/

http://www.jabha-wqs.net/
آذاريل الحج غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 09 / 08 / 2009, 38 : 08 AM   رقم المشاركة : [4]
آذاريل الحج
كاتب نور أدبي ينشط
 




آذاريل الحج is on a distinguished road

رد: رجال ومدينة ......لكاتبها !!!

رواية رجال ومدينه لكاتبها الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد
الحلقه الرابعه

رواية رجال ومدينه لكاتبها الرئيس الشهيد صدام حسين المجيد
الحلقه الرابعه

[align=right]



" كلّ يرى وفق ما بذر،
ويحصد على قدر همته،
ويجمع من المحصول وفق ما اعتنى به"..

بقيت النساء يجلن بعباءاتهن، وأيديهن اليمنى تتناوب مع اليسرى، في صعود وهبوط متخالف، وأخريات ( يخمشن) الخدود، أو يلطمن على الصدور حتى يدمينها تعبيراً عن المأساة.. وبعد ساعتين أو نحو ذلك، قامت الأكثر تأثيرا وقربى فيهن، لتقول:
- يا الله يا نسوان ( نساء)، يا الله يمّة نروح للبيت.
ثم ينتقل معهن إلى البيت المنظر ذاته، وأحيانا بدرجة أخرى من الحماسة وإيذاء النفس، أما أصوات الـ ( يبووه) و ( الجولة) وضرب الصدور وترديد كلمة ( حو.. حو.. حو).. فتستمر، ولكن هذه المرة قد تجول إحداهن مولولة مع من تقابلها من غير عباءة لأنهن في الدار.. وأما صبحة فقد قصت شعر رأسها، وازرّق ما حول عينيها من اللطم ( الكفخ) عليهما.. وكانت قبل أن تذهب إلى البيت معهن قد تهالكت على القبر وهي تبكي وتنوح، وكلما حاولت إحدى عماتها أن تبعدها عن القبر لتعود معهن إلى البيت، تشبثت بالقبر، وهي تقول:
- اتركنني.. أرجوكن.. أليس في قلوبكن رحمة؟ اتركنني أموت هنا إلى جواره..
وتأتيها الأكبر سنا من بين عماتها، هي عديلة السلطان، لتقول لها:
- ابنتي صبحة، الميت لا يعود، عليك بحملك إذا كنت تحبين حسين.
وتجفل صبحة، وتنظر إليها باستنكار مع سماعها عبارة ( عليك بحملك إذا كنت تحبين حسين) وتهمّ بأن تقول لها كلاما قاسيا، لولا أنها تذكرت في آخر لحظة أن من قالت تلك العبارة هي عمتها أو خالتها، وأنها تحبها كما تحب حسين، ولكن الحرص على الطفل الذي في بطن صبحة هو الذي دفع عمتها لتقول ذلك، مع أن الكل يعرف مستوى حب صبحة لحسين وإخلاصها له..
وهنا تذكر ابنها صالح، الذي كبر وصار رجال، وقال في نفسه ولكن بصوت مسموع:
- أرجو أن تسامحيني، يا والدتي الحبيبة، لأنني تحدثت عن الولادة والحمل، مع أنني أعرف مدى استنكارك لذلك، ولكن ما عساي أن أفعل.. وهناك من يلحّ عليّ لكي أقول وأكتب شيئا عن هذا الموضوع، حتى لو جاء في رواية؟.. أرجو صفحك، وأرجو مغفرة الربّ الرحيم لك ولوالدي.. تغمد الله روحيكما الطاهرتين بحنوه، وأسكنكما فسيح جناته.

*********


" من يستعجل قطف العنب قبل نضوجه، يأكله حامضا حصرم"..

انتقلت صبحة إلى دار أبيها بعد انتهاء العدة، بعد أن كانت أمها رافقتها لتسكن معها في دارها، دار حسين، طيلة فترة إمساك العدة، وكانت عديلة السلطان ترافقهما حتى أثناء النوم كل فترة العدة.
وبعد أن عادت صبحة وأمها إلى بيت أبيها، كان مال الله قد تخرج من الكلية العسكرية برتبة ملازم في الجيش، وكان في صنف الخيالة، وعندما استورد العراق أول سرية دبابات، كان مال الله واحدا من فرسانها، وقد سكن ما الله في بغداد، لأن وحدته كانت فيها، وكان قد تزوج منذ تخرجه من المدرسة الريفية كمعلم من السيدة لؤلؤ.
كانت لؤلؤ جميلة الشكل، عفيفة، نظيفة، أصيلة.. ولكنها لم تكن سلسة الطباع، ولم تألف حياة ( بنت النهر) ولا نوع طباع أهل ما الله، الذين تغلب على حياتهم وطباعهم حياة أهل الريف، مع فوارق نسبية خاصة أدخلتها في حياتهم حليمة، أم مال الله، بوصفها بنت مدينة أساسا، وأدخلها مال الله عليهم، بعد أن درس في المدرسة الريفية وفي الكلية العسكرية حتى تخرج منهما على التعاقب، وكانت العائلة المؤلفة من الأم والأب وخمس أخوات وأخ صغير تسكن نفس الدار الذي تسكن فيه لؤلؤ أيضا، وهو دار رباح الذي أنشأ فيه مال الله غرفة منعزلة نسبيا، لتستقل فيها لؤلؤ أثناء النوم فحسب، وكانت كل هذه العائلة تعيش على مورد ما الله، ولكم أن تتصوروا مستوى ونوع الحساسية التي يمكن أن تصبغ حياة وعلاقات كنّة تأتي من بغداد، وعائلة في ( بنت النهر) بالوصف الذي أشرنا إليه، مع ما يقابل عدم سلاسة لؤلؤ بما يماثلها من أخوات زوجها، أو قل أغلبهن..
ورغم كل ذلك، كانت الحياة تسير سيرا طبيعيا في حياة رباح، أثناء غياب مال الله خلال الدراسة في الكلية العسكرية، أو حتى بعد أن تخرج منها، وكان قادرا بحكمته، تعاونه حليمة، على أن يفك أي عقد قبل أن تتكون لتنشأ بينهم، وما لم يحلّه المنطق، يحلّه التهديد لمن يستحقه، أو الفعل الذي ينفذ التهديد الذي يسبقه..
ولد صالح، وبولادته بدت السماء كأنها تضحك لصبحة بعد مطر سخي بانت بعده الشمس، ولكن، هل يمكن أن يفرح القلب المجروح؟ ألا يذكر المولود صبحة، يوميا، بأن والده أفل كنجمة، دون أن يترك في نفسها إلا الذكريات الحبيبة الأنيسة إلى نفس شابة أطلت لأول مرة من خلال زواجها على حياة، فتصورت أنها ستمتد بها إلى مدى أبعد من ذلك الزمن القليل.
فرح أهل صالح، وأعمامه، وفرح خالاه، ما الله وعبد اللطيف، وكان عبد اللطيف بعمر لا يزيد على سبع سنوات، والأخ الوحيد لما الله، وفرح جده لأمه، ألن صالح حول الحياة مما يشبه المأتم إلى سعادة في بيته، ومع الغصة التي كانت تنافس الفرحة في صدر صبحة، فقد بدأت حياتها تأخذ لونا جديدا، أليس صالح فلذة كبدها الوحيد، بعد أن مات أنور قبله، وأعقبه حسين؟ أليس هو ( خلفة) حسين، وهو الوحيد ( خضرة) داره؟ ولكن الحزن بقي جاثما على صدر صبحة، وتنفس عنه عندما تهز مهد صالح وهي تقول:
- دللول، يا بني دللول.. عدوك عليل وساكن الجول ( الأرض الفلاة)..
ومع إكمال ذلك تتدفق الدموع من عينيها، ويرتفع صوت نشيجها.
وعندما صار عمر الطفل صالح عدة أشهر، راح يزم شفتيه، ويهمّ أن يبكي مع بكاء والدته، وهي ( تعدّد) أو تبكي.. وربما كان المنشأ الأساس للبكاء العاطفي للكثير من الرجال العراقيين هو هذه الصلة بين من ( تعدّد) على مهد الطفل، أو تجرش وتطحن الحنطة أو الذرة أو الشعير برحى حجرية بيتية، وكانت الرحى الوسيلة الأساسية لتهيئة الجريش ليطبخ، أو الحنطة أو الشعير، ليستخرج منها الطحين، ليعجن ويخبز في مدن وقرى العراق، وبقيت إلى الأربعينات، وحتى الخمسينات، وسيلة العراقيين الأساسية في الأقضية والنواحي وكل ريف العراق، ثم حلّت محلها المطاحن الحديثة، مبتدئة بالمدن، اعتبارا من نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وتصاعد وجودها في ريف العراق حتى حلّت فيه بقوة كاملة، وصارت الرحى لا تذكر كوسيلة للطحن والجرش، وإنما كتعبير أدبي، أو كتعبير عن صراع وحرب..
أضحت دِمانا فائراتٍ في الوغى



نفني العداةَ وعلقماً نسقيها


دارت رحانا طاحناتٍ حنطةً



حيناً، ودوماً للعِدا نبقيها




***********

ولدت لمال الله ابنته البكر عابدة، وكان عمر صالح دون السنتين، وقطع رباح جد صالح لأمه، وجد عابدة لأبيها ( ردن) عابدة، وقال:
- إن عابدة لصالح.. وهي من نصيبه، زوجة له، إذا كتب لهما الحياة.
كان هذا هو التقليد السائد لدى أغلبية الناس آنذاك، وقبل ذلك الوقت، وبقي إلى خمسينات القرن الماضي ذا وزن خاص عند العوائل، يقوم على أساس قول مشهور كأنه حكم فاصل: عطيّة الجد لا ترد.. شكرت صبحة والدها، وشكرت مال الله، لأنه أقرّ عطيّة أبيه.
كان مال الله، عندما يعود في إجازته من بغداد إلى ( بنت النهر) حيث والده وأمه وزوجته وأخواته، وأخوه، يقضي الكثير من الوقت يتسلى مع صالح، حتى أنه كان يحمله معه بالمنشفة إلى خارج باب دارهم، إذا جاء شاب من العشيرة ليسلم عليه، من غير ما يدخله إلى البيت، أو إلى ديوان والده، وعندما كان مال الله يحمل صالح بيد واحدة بالمنشفة، يطير قلب صبحة معه، خشية سقوطه على الأرض، ثم تلحق بمال الله بضع خطوات، وهي تقول:
- أرجوك، يا خيي، ضع عينك عليه لئلا يطفر من المنشفة إلى الأرض..
ويضحك مال الله وهو يقول:
- لا تخشي عليه، ألا ترين كم هو هادئ؟ ثم، هل تخافي عليه يا صبحة، وأنا أتعهده!؟
تسكت صبحة، ولكنها تبقى قلقة في داخلها، حتى يعود مال الله بصالح وهو نائم، أو لما يزل يقظا أحيانا.
كان تخرّج مال الله من الكلية العسكرية ليصبح ضابطا في الجيش، وولادة صالح، ومن بعده عابدة.. وزواج هيلة من ابن خالتها الذي تربّى في كنف رباح، بعد أن توفيت والدته، وهو ما زال صغيرا، وزواج أبيه في الريف، وزواج ليلى من ابن عمها، كان ذلك كأنه فتح على العائلة مداخل جديدة لتتعامل مع الحياة بصورة طبيعية، بل وبحالة من حالات السعادة بوجه عام، عدا ما كان يعتمل داخل صدر صبحة، ولكن القدر يطبق أحكامه التي لا توقفها سعادة هذا أو بؤس ذاك.. وجاءت الفجيعة الكبيرة: مات رباح أخو هدلة، وسيف العشيرة، وعمره لم يبلغ الستين عاما.. وبموت رباح صار حزن العائلة عاما، وشاملا، بل تعداهم إلى كل من يقدّر للرجال المتميزين أدوارهم وفعلهم، وكان توت رباح كأنه قد أحيا في نفس صحبة حزنين.. حزنها على حسين، وحزنها على أبيها الذي كانت تقدمه على نفسها، وتعتزّ به بما لا يمكن وصفه، ورغم أن مال الله كان طيبا في موقفه وتصرفه، فقد أحسّت صبحة كأن سقف الدار سقط على رأسها ورأس ابنها الطفل صالح، فهل يمكن أن تركن البنت إلى أخيها مثلما تركن إلى أبيها الذي جرّبته أكثر مما جرّبت أخاها، وبخاصة بعد أن تزوج أخوها وصارت له بنت؟
حزن الجميع حزنا ثقيلا في مظهره وجوهره، حتى أن صبحة جعلت ابنها صالح يحزن معها، إذ لم تكتفِ بأن تحزن.. وإنما ألبست صالح، أو صبغت ( دشداشته) بالسواد، وقالت تخاطبه دون أن يعي شيئا مما تقول:
- الآن، وليس قبل الآن، مات أبوك، يا صالح.. لقد مات حسين وتعهدّك جدك.. وجدك غانم، ولكنه مات الآن، ولم يبقَ لك أب..
كانت تقول ذلك وهي تنتحب، والعينان تتدفقان بما تجودان به في ضوء حرارة اللوعة، ويبكي صالح معها، ولا تتوقف دموعه إلا عندما تتوقف دموع صبحة، فتمسح الدموع من عينيه بطرف ( دشداشته)، أو بطرف ( ملفعها)، ثم تمسح بيدها على وجهه وجبينه..

**********

بعد أن انتهى العزاء الرسمي، أكملت حليمة أشهر العدة التي تبقى فيها الزوجة في بيتها ولا تخرج منه إلا بعدها، وهي أربعة قروء وعشرة، وفق ما جاء في القرآن الكريم، أي أربعة أشهر وعشرة أيام. جاءهم مال الله من بغداد في إجازة بعد أن استأجر لهم بيتا في سوق الجديد ( محلة خضر إلياس) وقال لأمه ولصبحة ولزوجته أن هيّئوا أنفسكم لننتقل إلى بغداد، لقد استأجرت لكم بيتا هناك نسكنه معا..
قالت والدته:
- هل انتقالنا ضروري، يا بني؟
قال مال الله:
- وهل بقي ما يستوجب أن تبقوا هنا، وأنا في بغداد، يا والدتي؟ ألا تحتاج العائلة إلى رجل على رأسها؟ لقد كان والدي، رحمه الله، لا يرغب في الذهاب إلى بغداد وترك الديرة، أما الآن فلم يعد هناك مسوّغ لنبقى منقسمين بين بغداد وبنت النهر.
همّت صبحة لتقول شيئا والدموع في عينيها، ولكن مال الله عاجلها بالقول:
- أما زيارة قبر والدي وقبر حسين فبإمكانكما أنتِ وصبحة أن تأتيا ومعكما عبد اللطيف، أو أن أكون معكما، إذا ما أتيحت لي فرصة ذلك من حين إلى آخر، وأن تبقيا للأيام التي تريدانها في بيت ابن عمنا أحمد، زوج ليلى، ثم تعودان إلى بغداد..
وبعد قول مال الله ذلك، لم يبقَ من يبدي ملاحظة على قراره، أما طليعة وبدرة وعبد اللطيف، أخوة مال الله في البيت، فإنهم في حقيقتهم فرحوا بالسفر إلى بغداد، و من ذا الذي لا يفرح بأن يكون من أهل بغداد، العاصمة الخالدة؟ إلا من يكون خلفه من يشده إلى اتجاه معاكس.
وضوءٌ إلى بغداد صوتٌ ينافسهُ



وصعبٌ لمن يختارَ شيئاً يعاكسهُ



لقد كان هذا حال صبحة، أما حليمة فإنها أم البيت وأم مال الله، ورغم حزنها على رباح، فإن المحافظة على ( لمّة) أهل البيت: مال الله وزوجته، وبناتها، ومنهم صبحة وابنها صالح، وشقيق مال الله عبد اللطيف، كانت هدفا ثمينا، ومن أجل هذا الهدف، وعلى أساس الترتيب الذي بينّه مال الله من أن بإمكانها هي وابنتها صبحة زيارة بنت النهر قادمتين من بغداد، فقد سدّ لها ما هو أساس من رغبتها لزيارة قبر رباح في المناسبات، ومنها الأعياد بوجه خاص..

*********

حملت لؤلؤ بعدنان، وولدته في بغداد، بعد أن انتقلت العائلة إليها من بنت النهر..

*********

انتقلت العائلة كلها إلى بغداد، ومنهم صبحة وصالح، وسكنوا في ( خضر إلياس)، ورغم أن بغداد عالم جديد على قياس الحال، والظرف، والحياة، والعادات، وجانب من التقاليد، في بنت النهر، إلا أن الفروقات لم تكن متباعدة إلى الحد الذي لا يكون بإمكان المرء الذي يعيش على شاطئها أن لا يرى شواطئ النواحي والأقضية التي يأتي منها إلى بغداد، بل حتى جانبا من حافات القرى لو جاء منها..
كانت بغداد آنذاك بين العم 1936، حيث تخرج مال الله من الكلية العسكرية، والعام 1941، أشبه بقرية كبيرة، مهملة الشوارع والأزقة، لا فروقات جوهرية بينها وبين مدن العراق الأخرى، إلا عندما يزور من يأتيها من المدن الأخرى بعض شوامخ الآثار القديمة، ومنها المدرسة المستنصرية التي أنشأها المستنصر بالله، المنصور بن الظاهر، الخليفة العباسي السادس والثلاثون، وشارع الرشيد وسط بغداد، وهو شارع عريض على قياس أزقة المدن القديمة، وعلى قياس أزقة بغداد آنذاك، تعرض فيه بضائع من الأنواع التي تذكر الإنسان بأن عالم بغداد يمكن، من زوايا بعينها، وفي بعض الجوانب المظهرية في الأقل، أن يجد له إطلالة على عالم القرن العشرين، ومنه ( الكاري) أو ( الترام واي) الذي كان ينقل الركاب في الزيارات بين الكاظمية والكرخ، تجرّه الخيول، ويدق جرسه في كل محطة وقوف، لينبه من ينزل منه أو يصعد إليه.. ومنه المأكل أيضا، ففي حين أن بنت النهر تفتقر إلى وجود صمون، هنا في بغداد نوع منه لمن يشتهيه ويبذل مجهودا للعثور عليه، أما ( القيمر) الذي ينعدم وجوده في المناطق الشمالية والوسطى من العراق إلا في جنوبه، فإنه هو الآخر موجود في بغداد، ولعلّ أكثر ما وجدته عائلة مال الله من تغيير في حياتها هو ركوبها العربة التي تجرّها الخيول في بغداد، وعند سفر أي من أفرادها بالقطار إلى بنت النهر، أو التنقل برفقة مال الله لشراء حاجيات بعينها من سوق الشورجة، بالإضافة إلى القيمر والجبن عند تناول وجبة الإفطار.. وأما سعادة لؤلؤ فكانت أكثر من سعادة أي من أفراد العائلة الآخرين، ذلك لأن والدها ووالدتها وأخويها الاثنين موجودون جميعا في بغداد..
إن ما جعل العائلة لا تجد نفسها في غربة، رغم أنها تركت بنت النهر، التي كانت ناحية قبل أن تصبح قضاء في الخمسينات، هو أن حي سوق الجديد في جانب الكرخ، ومنه محلة خضر إلياس، يضم في أغلبيته أناسا جاؤوا طلبا للرزق من سامراء والدور وتكريت، وكلهم بالأساس ضمن حدود المنطقة الجغرافية لبنت النهر، وتتقارب عاداتهم وطباعهم وتقاليدهم مع القادمين الجدد إلى حد بعيد، مما أضاف اعتبارا آخر إلى جعل الذين يسكنون في خضر إلياس، لا يكادون يبتعدون في تقاليدهم، ولا في سمة حياتهم العامة، عن المدن التي جاءوا منها، إضافة إلى أنهم كانوا جميعا باستثناءات بسيطة في كل جانب الكرخ، ومثله الرصافة، محدودي الدخل، فمنهم من يقوم بمهنة التجديف وتسهيل عبورا لناس بين حافتي دجلة، نظرا لان بغداد لم يكن فيها آنذاك غير جسرين خشبيين متحركين، وكلما هبّ هواء عالٍ، أو ارتفع الماء عن مستوى معين في نهر دجلة، فلتت ( الطبقات) الأطواف الخشبية من مكانها فرادى، وأحيانا مجتمعة، وعندما تفلت مجموعة يذهب من يكلّف بإرجاعها بعد أن يبتعد بها تيار الماء، ويذهب معه كثر من الناس، بينهم دراويش يضربون على الدفوف ليرضوا الجسر المنفلت، الزعلان من اجتيازه بحمولة كبيرة، أو ممن كان على نجاسة، عندما اجتاز الجسر، ومنهم من يظن أن جنيا سحره فقطع الجسر وأفلته من مكانه..
كان هذا هو الحال غير المستقر للجسرين، اللذين كان مكان أحدهما وسط العاصمة، التي كانت على مساحة محدودة آنذاك، ليربط الكرخ بالرصافة، والآخر في مكان ما قرب الكاظمية، على مقربة من ضريح سيدنا موسى الكاظم، يربط المنطقة هناك مع الأعظمية، حيث ضريح أبي حنيفة النعمان..
كان عدم استقرار الجسرين، وتباعدهما، قد أوجدا أعدادا كبيرة من الناس الذين تقترب مساكنهم من دجلة على طرفيه الشرقي حيث الرصافة، والغربي حيث ( صوب) الكرخ، ومنه حي سوق الجديد، ومنه محلة خضر إلياس، يعيشون على ما يجود به النهر من سمك، وما ينقل من خلاله من شمال وحتى من جنوب بغداد.. وهكذا كانت الزوارق موزعة بين مالكيها، أو مشغّليها، ولكن ملكية غالبيتها لغير أهل خضر إلياس، أما الآخرون فموزعون على مهن يدوية شتى، وكان في محلة خضر إلياس دكانان لا غير، أحدهما لبيع أشياء بسيطة لا تتعدى الإبر والخيوط، وعلكة الماء، وأشرطة شعر الرأس لطالبات المدارس، بعد أن صارت في المدارس طالبات لاحقا، وفصّا أو فصّين من الجبن، وقليلا من القيمر في الصباح، وأشياء بسيطة من هذا القبيل، لا تتعدى عناوينها ما هو حاجة عابرة وبسيطة، وكان الدكان عبارة عن غرفة صغيرة داخل البيت، تشق منه فتحة للتعامل مع المشترين من الخارج، وآخر مثله يحتوي على ( عطارية) بسيطة، أغلبها من ( الكركم والفلفل والسماق والبابونج) وأوراق ورد يابسة، تغلى وتسقى لمن يراد إطفاء التأثير السلبي عنه بعد زعل أو ( عركة) وما هو شبيه بذلك، وتحتكر المحلة امرأة تحمل على رأسها صينية واحدة من القيمر، تأتي من خارج المنطقة، وتنادي لترويج بضاعتها بصوتها الجميل، ذي اللحن الخاص الذي يعرفه كل أهل المحلة عندما يسمعونه.. " كيمر يوخ يا حبايب" (1) وكانت في الغالب لا تبيع كل ما تحتويه صينيتها من القيمر، لأن أهل المحلة، أو حتى نصفهم، أو ربعهم لا يتناولون جبنا أو قيمرا في الإفطار، وإنما كل حسب حاله، فمنهم من يقلي طماطم وباذنجان، أو ما يمكن أن توفره ربة المنزل، وهناك منظر مألوف أيضا هو منظر من يبيع الباقلاء في قدر يغلي فوق ( بريمز) أو لمبة، ويأتيه من يريد أن ( يشرّب) باقلاء بخبز يابس وصح، وبعد أن ينقع الخبز اليابس في ماء الباقلاء، يخرج الخبز ليضعه في صحن صاحبه مع عدد من حبات الباقلاء ويرش عليه ( بطنج).. أما إذا تزاحم على بائع الباقلاء عدد من المشترين، فإنه يشد خبز كل واحد منهم بخيط، مثلما يفعل أهل الحلة، ويطلب من صاحبه أن يحفظ لون خيطه لكي لا تختلط على البائع الخيوط، وبعد أن ينقع الخبز اليابس لكل المشترين يبدأ يصيح على أصحابه فيقول لهذا أو ذاك متسائلا: ما هو لون خيطك؟ وعندما يقول له أحمر، يخرج له الخبز المشدود بالخيط الأحمر، وهكذا لصاحب الخيط الأسود والأبيض والأصفر.. الخ.. وليس غريبا أن تجد من لا يأكل إلا خبزا عاديا مع الشاي في الصباح..
أما بائع القماش، فهو في الأغلب يهودي، كان يحمل على كتفه عددا من قطع، أو أطوال ( مفردها طول) القماش، ويحمل في يده آلة قياسه، وهي ذراع من حديد، في الوقت الذي يسند القماش على كتفه بيده الأخرى، وينادي على بضاعته هو الآخر بصوت معروف ( للحبايب)، والحبايب هنّ نساء المحلة، ولخبرته الطويلة صار يعرف من منهن تنوي الشراء وقادرة عليه، ومن منهن لا تنوي إلا التفرّج، وجمع معلومات عن أنواع الأقمشة وأثمانها، لأن جيبها من جيب زوجها، فإذا كان زوجها بخيلا، أو كان دخله لا يسمح لها بالشراء، تفرّجت فحسب، وإذا كانت قادرة على الشراء، ومحتجة له فعلا، وليس بطرا، مثلما يحصل عند كثر من النساء الآن، ومثلما كان يحصل قبل الحصار لكل النسا، والاستثناء حالة بطولة تسجّل لصاحبتها، اشترت من ذاك القماش ما يعجبها، وكان اليهودي يعرف من تريد أن تشتري فعلا، ومن تريد أن تتفرج، ولا يرمي القماش من على كتفه إلا أمام الباب الذي يخمّن أن من نادته، أو همّت لتوقفه أمامه، تنوي ذلك فعلا.. ومن أكثر من ا ليهود يعرف من أين تؤكل الكتف؟ ومتى؟.. وكتف من أكثرها هشاشة أو سمنة؟ خاصة وأن خضر إلياس فيها قلة نادرة من الموظفين، لم يكن بينهم ضابط آنذاك إلا مال الله، خال صالح، ومثل هذه الوظيفة والرتبة، بالإضافة إلى مستوى أخلاق العائلة، وحشمتها العالية، وأصولها الحميدة، جعلها محل احترام، بل ومحبة أهل خضر إلياس كلهم..
كانت الفواكه والخضار واللحم والدجاج والسمك كلها تحضر على مقربة من دور ساكني خضر إلياس، وبعضها يحضر حسب الطلب.. وكانت التسهيلات محلية: فالسمك يصيده الصيادون من نهر دجلة، والدجاج يعرض في سوق قريبة، أو حتى يشترى من سكان المحلة ممن يربون في بيوتهم، أو على سطوح دورهم عددا من الدجاج ويكثرونه، أو يبيعون بيضه لسد حاجاتهم من المال.
ولم يكن، في ضواحي بغداد، ولا في العراق كله، مداجن لتربية الدجاج مثلما هي الحال الآن، لذلك كان الدجاج والسمك أغلى قياسا بسعر اللحم، ومن هذا كانت العوائل المقتدرة تأكل الدجاج أو السمك في أيام الجمع في الغالب.
مرت سنوات قليلة على تخرج مال الله من الكلية العسكرية، وظلت الحياة مثلما هي في العراق بوجه عام، أو قريبة مما كانت عليه في أوائل العشرينات، حين نصّب الملك فيصل الأول ملكا على العراق عام 1921، ولكن فيصل الأول ما لبث أن مات، وخلفه ابنه غازي على عرش العراق، ولكنه ما لبث أيضا أن قتل في حادث سيارة، وفق ما كان يتناقل ذلك أهل بغداد، ليوجهوا التهمة إلى خاله عبد الإله، وربما شاركته في الجريمة أخته، زوجة الملك غازي، حيث صار عبد الإله، وصيا على العرش، نظرا لأن عمر الملك فيصل الثاني، ابن الملك غازي، كان أربع سنوات في حينه، هذا ما كان أهل بغداد يتداولونه بعد الحادث، ولا يعرف الحقيقة إلا الله، ذلك لأن كره أهل العراق للإنكليز، وعميلهم عبد الإله، قد جعل بعضهم يرمي الكلام على عواهنه، وما جعل أهل بغداد يذهبون إلى هذا الاعتقاد، أن الملك غازي كان يوجه نداءات من إذاعة لا يغطي بثها مدينة بغداد الصغيرة إلى الشعب في الكويت يذكره بأن يقوم بدوره ليعود إلى حيث أصله وصلته كجزء لا يتجزأ من العراق، أرضا وشعبا، ويهاجم الإنكليز، ويشجع الفلسطينيين على مقاومة الصهاينة في الأرض المحتلة، التي ذرّت مؤامراتهم بقرونها آنذاك، في مطلع الأربعينات، وصاروا يشكّلون، في ظل الاحتلال البريطاني، جمعيات وتشكيلات مسلحة تهاجم العرب، لتفرض عليهم ترك أرضهم، أو بيع قسم منها توطئة لبناء كيانهم البغيض..
وقد نساعد في التوصل إلى الاستنتاج الصحيح، إذا ما أضفنا إلى ما قلناه بعض الوثائق التي يمكن أن تلقي بضوئها على طبيعة علاقة الملك غازي بالعائلة الحاكمة في الكويت، والإنكليز، وآخرين غيرهم، وربما تلقي الضوء على جانب من أسباب مقتل الملك غازي، كما يأتي:

المملكة العراقية


البلاط الملكي

إن مرحلة ضم الكويت إلى العراق قد وصلت حد النضوج حيث تم كسب تأييد عشرة إلى اثني عشر عضوا من المجلس التأسيسي الكويتي حيث قاموا بدعوة أمير الكويت بالانضمام إلى المملكة العراقية وإنهاء الوضع الشاذ في هذه الإمارة العراقية والتي كانت تابعة إلى العراق أيام الحكم العثماني كقضاء، وبما أن المملكة العراقية باعتبارها الوارثة للدولة العثمانية، لذا فلها الحق بإنهاء الوضع الذي فرضه الأجنبي بسبب مصالحه، وقد قام هذا الأمير بأمر من الأجنبي باعتقال أعضاء المجلس وحلّه وإلغاء القرار الذي اتخذوه بالأكثرية، حيث لم يوافق عليه ثلاثة فقط من مجموع الأربعة عشر.
إنني يجب أن أساند أحرار شعبي في الكويت والمطالبين بالحرية والخلاص من ربقة الأجنبي.
إن الاجتماعات التي تم عقدها بين أحرار الكويت في قصر الزهور جعلتني أطمئن على أنه لني تمكن ضغط الأجانب ولا عملائهم في الكويت من تغيير حقيقة أن الكويت جزء لا يتجزأ من المملكة العراقية وأن محاولة الأجنبي التدخل وإضعاف التجمع الوطني الكويتي يجعلنا متحفزين ومصممين أكثر من السابق على معاونة إخوتنا أحرار الكويت الذين كانت توجيهاتنا لهم بواسطة إذاعة قصر الزهور خير دليل ومرشد..
إنني سوف أجعل لهم حصة في تقديم خطب وبرامج على نفس المستوى، أو أكثر مما نقدمه إلى بلاد الشام.
أعاننا الله على تقديم الخير والرفاه للجميع(2).

غازي


21/12/1938

إني أرى نفسي ( سجين محترم) جدا..
فقد نقل كافة من قررت تقريبهم والوثوق بهم، ومنع الأصدقاء والأعزاء من الحضور إليّ خاصة صديقنا عبد الرسول صادق، والصديق يونس بحري.
إن ذلك لن يدون أبدا.. يجب إيجاد الصيغ الكفيلة بتجديد الإدارة ونبذ المحسوبية، وإنهاء التوسط والرشوة، سأحاول جهدي ذلك، إن وضع عزلي هذا آمل أن لا يدوم أبدا إن شاء الله.
إن ياسين والعسكري يحاولان ( جهدهم) الاستئثار بالسلطة ( بمآزرة) من نوري وهذه المجموعة والخليط العجيب مجموعة تأتمر بأمر الأجنبي، ليس غير، وتنفذ سياسته ومصالحه.. سوف أكون لهم بالمرصاد(3).

غازي


25/تموز/1936

إني أرى حلما من الأحلام العديدة يتحقق فبعد أيام سيتم استعراض عام للفتوة في عاصمة ملكنا بغداد التاريخ، بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد العروبة الهاشمية، سوف يتم استعراض سبعة آلاف شاب في شوارع العاصمة الأزلية بغداد، وقد أكملوا تدريباتهم وأتموا استعداداتهم العسكرية والفنية.
إنهم النواة.. والظهير والسند لجيشهم الأبي.
إن الرعاية والاهتمام التي أرى أن يحظى بها هؤلاء الشباب ( واجبا وطنيا)، تفرضه علينا خدمة الوطن وحمايته، إن هؤلاء الشباب بحماسهم العربي شاهد، واندفاعهم يجعل العملاء والإنكليز يحسبون لشعبنا الحساب.
لذا سوف أستمر بدعم الجيش وأهتم به شخصيا.. وظهيره الفصائل المسلحة، الفتوة والكشافة.
إنهم ينظرون إلينا بعين الريبة والحذر، ولكن الله معنا(4).

غازي


7/ أيار/1936

الخميس: 9 شوال سنة 1325هـ
25 كانون الثاني 1934
اليوم، الخميس عصرا، تم عقد قراني على بنت عمي الأميرة عالية، وبحضور عدد غير قليل من الأقارب والأصدقاء، وقد قررت عدم إقامة أي مراسيم، احتراما لكبير الأسرة الهاشمية في العراق، والدي، الذي لم تتم بعد أيام الحداد على روحه الطاهرة، ولكن للظروف أحكام.
وفي الساعة التاسعة تم عقد القرآن المنتظر، من قبل الشيخ يوسف العطا، مفتي العاصمة، وقد شهد على عقد قرآني كل من الأفاضل السيد الجليل محمد الصدر، رشيد الخوجة، صالح جبر، نصرت الفارسي، جميل المدفعي، جمال بابان، ناجي شوكت ونوري السعيد.
وقد قام بالحديث معي السيد محمد الصدر، وكان بحق حديثا طيبا شيقا، لقد كنت بحاجة لمن يتحدث معي في مثل هذه الأمور الخاصة والمحرجة، فكان أن عالج السيد الجليل هذا الإشكال الذي أعانيه بكل حنكة ورؤية واقتناع وبعد ذلك دعوتهم إلى تناول طعام العشاء بهذه المناسبة. وقبل انتهاء دعوة الطعام، كنت قد غادرت الحفلة والدعوة(5).

غازي


25/1/2934

كان كل ذلك سببا من أسباب اتهام عبد الإله كعميل للإنكليز، وطامع في الحكم بعد مقتل غازي، أما لماذا امتد الاتهام، وإن جاء من مصادر قليلة، إلى أن زوجة الملك كشريكة في الجريمة، فإن السبب هو عدم استقرار العلاقة الزوجية بينهما، وهذا ما أكده مرافقه فؤاد عارف عندما سأله أحد المسؤولين في مجلس قيادة الثورة في السبعينات، وعلى وجه الدقة في عام 1974، حيث أكد أن العلاقة الزوجية ما كانت حسنة..
على أية حال، هكذا كان حال العراق آنذاك: فقر مدقع، وتخلف يضرب إطنابه في كل مكان، بما في ذلك الحياة ومظاهرها في بغداد، وفق ما أشرنا إليه.. وكان الفقر والمرض والتخلف العام عن موارد العصر.. هي الحالة التي تشكل السمة العامة للعراق، رغم غنى العراق بالماء والأرض والتراث والمعاني الحضارية العميقة، وذكاء الإنسان.. والنفط، ولكن هل يمكن لجسم كبير.. لشعب.. لبلد.. لأمة.. أن ينهض، من غير أن يكون له محرك من داخله، ورأس، وعيون تدلّه إلى الطريق، وأهداف تجتذبه إليه، وعقل يحركه ضمير مؤمن بالشعب لتجديد الدور، وسيف مرهف لا يلتوي، يحمي مسيرته، ويظللها بيرق عال؟ وهل يمكن لهذا أن يكون من غير قيادة ونموذج يزرع الإقدام مكان التردد، والثبات مكان القلق، والهداية، التي تجعل مرتسم الطريق واضحا في بدايته، وإلى حيث يتجه، أو يتفرع.. مكان الضياع!؟
----------------
(1) يوخ، كلمة أعجمية تعني (جيد)
[/align](2)



(3)





(4)


(5)



يتبع.............................................. .................................................. ........................................يتبع
توقيع آذاريل الحج
 البابلي وليد العنقاء ....
يلقي عليكم السلام وعلى باسلات وبواسل الرافدين

اخبار المقاومة:::



http://www.alqadsiten.net/browse_7.html


http://www.alrafdean.org/

http://www.jabha-wqs.net/
آذاريل الحج غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رجال فاطمة البشر القصة القصيرة جداً 8 03 / 06 / 2013 29 : 11 PM
رجاء .. قاسم فرحات الشعر العمودي 2 27 / 05 / 2010 01 : 08 PM
قراءة في ( واجهات زجاجية ) لكاتبها زياد صيدم . بقلم: محمد معمرى زياد صيدم الـقصـة القصيرة وق.ق.ج. 0 20 / 01 / 2010 42 : 03 PM
رجاء مرفت شكري الشعر والنشيد الإسلامي 10 05 / 07 / 2009 58 : 07 PM
الوجه الاخـــــر لغــزة هاشـــم... البوم صور جميل لقطاع ومدينة غـــزة مازن شما المدن و القرى الفلسطينية 3 16 / 01 / 2009 55 : 12 PM


الساعة الآن 42 : 10 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|