التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,851
عدد  مرات الظهور : 162,328,599

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > كـان.يـاما.كـان... > الأقسام > مختارات من الأدب العربي و العالمي
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 12 / 08 / 2009, 41 : 01 PM   رقم المشاركة : [1]
د.حسن حميد
قاص وأديب

 الصورة الرمزية د.حسن حميد
 




د.حسن حميد is on a distinguished road

فرجينا وولف

[align=justify]
فرجينا وولف ـــ حسن حميد

ـــ 1 ـــ‏

ظللـتُ أسمع بـ"فرجينا وولف" سنوات طويلة قبل أن أقرأ لها شيئاً من كتبها، مترجمةً أو غير مترجمة، وكان جلّ اطلاعي مقصوراً على ما قرأته في المقالات والدراسات والتعريفات التي تناولت كتاباتها بالإطّراء، والثناء، والممايزة حيناً، لأنها كاتبة كسرت نمطية الخطية الروائية المعروفة في زمنها، والزمن السابق عليها أيضاَ (وفي طالع تلك النمطية: الاهتمام بالحدث، والتراتبية الزمنية).‏

فهي لم تتقفَ آثار أحد في كتاباتها، وإن شابهت تجربتها الكتابية (من الناحية الفنية) تجربتي (بروست) و(جويس)، وذلك من حيث إعطاء الأهمية لمكنونات الذات... لتعبّر، وتصوّر، وتفيض بما لديها عبرما عرف لاحقاً بمصطلح (تيار الوعي)، أو (الذات الكاتبة)، أو (المونولوج الداخلي)... وحيناً آخر كانت تلك المقالات والتعريفات والدراسات تأتي على تلك التجربة الأدبية لـ"فرجينا وولف"، فتقول عنها إنها خالية من الأصالة، والتفرّد، بعيدة، في ضحالتها، عن عمق التجارب الروائية الكبيرة المعروفة في بريطانيا، والعالم في آن معاً، فرواياتها مجرد هذيان، وتفاصيل، وحوارات، وأوصاف لا تهمّ أحداً، وقراءتها تورّث الملل والمقت في النفس ناهيك عن أنها لا تخدم أي نوع من أنواع الضبط الإبداعي الذي يسهم في تكوين استقلالية مميزة للجنس الأدبي الواحد، فكتابتها تتداخل فيها الأجناس الأدبية وتختلط إلى حد تغيب فيه الأحداث أو تتآكل، أو يبتلع بعضها بعضها الآخر.‏

كذلك رأيت في المقالات والدراسات والتعريفات التي قرأتها وقوفاً طويلاً عند حياة الكاتبة، سيرتها الذاتية وسيرتها الكتابية في آن معاً، وقد أورثني ذلك الوقوف فضولاً قاتلاً كي أتتبع سيرة حياة الكاتبة الشخصية من جهة، وأن أتتبع سيرة كتابتها لأعمالها الأدبية من جهة ثانية.‏

أقول هذا اعترافاً بأيام جميلة قضيتها في سجن خاص اسمه فرجينا وولف، عشت خلالها داخل قفص حياتها، سيرةً وكتابةً، فقرأت بعضاً من روايتها (السيدة دالاوي) و(الأمواج)... وبعضاً من مقالاتها النقدية (غرفة الكائن الخاصة) و(الكاتب العمومي). ووجدت أنها امرأةٌ محمولة على كف ناحلة باطنها جنون وظاهرها قلق، وأنها كاتبة تطير بجناحين هما: الخيال، والمجاوزة. لاشيء في كتاباتها يتشابه على الرغم من إلحاح الصحافة عليها للالتزام بمواقيت النشر. كذلك لاشيء في طقوسها يتشابه على الرغم من الكتابة الواحدة في روايتين اثنتين في وقت واحد. أيضاً.. لا شيء في حياتها يتشابه سوى تمارينها اليومية على محبة أختها (فانيسا) وزوجها (ليونارد) وترقب ما تقولـه أقلام النقاد والصحفيين عن كتاباتها، ثم تمارينها لتجاوز حالات الجنون التي تجتاحها. فهي امرأة قلقة، مورّثة لقلقها، أو قل تُعدي الآخرين بقلقها، تعيش على تماس شديد بسلطان خرافي اسمه: الموت!‏

ـــ 2 ـ‏

ولدت فرجينا وولف في (25 كانون الثاني 1882) لأب متوتر الأعصاب، متحفز الذهن على الدوام، طموح، ناحل الجسد، يهوى الشعر والكتابة، وثيق الصلة بالثقافات الإنسانية، شديد الحساسية تجاه أمرين اثنين، الأول: تكوين ذاته المثقفة. والثاني: ضبط سلوكه الاجتماعي. ساقته الأيام سوقاً ليكون كاهناً، فرُسّم كاهناً عام 1859 (وهو في السابعة عشرة من عمره) وهذا ما جعل والده يموت مطمئناً فرحاً في السنة ذاتها التي أصبح فيها ولده كاهناً. لكن، وبعد موت الأب، لم يتردد الابن في هجر عالم الكهنوت، والعودة عن (الكهنوتية) التي ارتضاها لـه والده ذلك لأنه شعر بميله الشديد إلى الحياة الدنيوية (المال، النساء، الأولاد)، لذلك شرع يعمل في الصحافة بسبب ميله الشديد للقراءة والكتابة وتتبّع الأحداث وتسقط الأخبار، وقد أنجز خلال حياته كتابه المهم (معجم السير القومية) الذي خوّله الحصول على لقب [سير] من الملكية البريطانية، ذلك الأب كان اسمه ولقبه السير لزلي ستيفن الذي توفي سنة 1904، أي حين كانت فرجينا وولف في الثانية والعشرين من عمرها. أما أمها فهي السيدة جوليا داكوورث، كانت جميلة، ملهمة للشعراء والرسامين، أصيبت بالأنفلونزا عام 1894 وتوفيت في 5 أيار وعمر فرجينا وولف آنذاك هو الثانية عشرة سنة فقط. ولفرجينا ثلاثة أشقاء هم: (أدريان، وثوبي، وفانيسا) لم تنل فرجينا حظاً كبيراً من التعليم مقارنة بأخويها (أدريان، وثوبي) اللذين تعلما تعليماً أكاديمياً في المدارس والجامعات، في حين‏

ظلّت هي وأختها فانيسا يتعلمان في داخل البيت جلّ العلوم الأساسية، وجلّ اللغات المرغوبة أيضاً. وعموماً فإن أسرة فرجينا وولف أسرة إنكليزية محافظة، شديدة التمسك بالتقاليد والمعتقدات. ومع أن الأب كان يعد نفسه للكهنوتية والوعظ وتعاليم الدين إلا أنه كان صديقاً حميماً لكل من الكتاب: هنري جيمز، وماثيو آرنولد، وجورج إليوت، وكذلك هي حال الأم جوليا التي كانت محط إعجاب الشعراء والفنانين التشكيليين بسبب جمالها. هذا الاختلاط بين الشيء ونقيضه هو ما سيؤثر سلباً في حياة فرجينا لاحقاً التي ستدوّم الأسئلة، في رأسها الصغير، وقتاً طويلاً ما إذا كانت‏



تصرفاتها صائبة أم لا؟!، وما إذا كانت كتابتها ناجحة وذات قيمة أم لا؟! اعتمدت فرجينا، وأختها فانيسا على التحصيل الذاتي من خلال القراءة في مكتبة الوالد الضخمة، ومن خلال الدروس الخصوصية التي كانت تعطى في المنزل. لكن طعم المرارة لم يفارق فرجينا التي رأت كيف أن المجتمع يمايز بقسوة وعدوانية ما بين الذكر والأنثى، فقد ذهب أخواها إلى الدراسة في المدارس والجامعات، بينما ظلت هي وأختها قابعتين في المنزل طلباً لمعرفة غير مبرمجة، وغير منتظمة، وقد أثّرت فيها أكثر سلبية المرأة، وخنوعها وخضوعها لأوامر المجتمع، فمثل هذا الاستسلام لتقاليد المجتمع يقتل الذات المبدعة في الكائن، ويحول دون نمو شخصية إنسانية حقيقية.‏

عملت فرجينا في مطلع حياتها في الصحافة، فكانت تكتب مطالعات لكتب حديثة، راحت تنشرها في ملحق (التايمز) الأدبي. في حين عملت أختها فانيسا رسّامة فأصابت كل منهما نجاحاً معقولاً في المشهد الثقافي اللندني. أما العلاقة بين الأختين فكانت وشيجة جداً بحيث كانت إحداهما تتخوّف من مرض الثانية قبل وقوعه، وكأنها تعيش عوارض المرض قبل حلوله.‏

عانت فرجينا منذ ولادتها من وطأة المرضين الجسدي والعقلي، فقد حطّ بها الجسد مرّات ومرّات، كما حطّ بها العقل مرّات ومرّات، فانحطاط الجسد أخذها أياماً وشهوراً إلى الفراش وأمكنة الاستجمام، وانحطاط العقل أخذها، وفي مرّة واحدة، إلى النهر حيث أغرقت نفسها اختياراً وطواعية كي لا يراها أحد، وهي على صورة ضعفها وهذيانها... مجنونةً تقيم في مصحة، أو مشرّدة تركض في الشوارع!‏

ـــ 3 ـ‏

عاشت فرجينا وولف ثلاثين سنة من حياتها حرّة لم تِقم وزناً لأي تقليد أسري، أو مجتمعي، لم تسمع كلام أحد من معارفها (ولا حتى كلام أخيها وأختها) من أجل أن ترتبط بالمؤسسة الزوجية وتكوّن أسرة، كانت دائماً ترفض طقسية الأسرة، وطقسية الارتباط برجل لأنهما معاً تحدّان من حرية المرأة. وهي التي انضمت، في مطلع شبابها.. إلى منظمات اجتماعية عديدة تدعو إلى المزيد من حرية المرأة. فقناعتها كانت أكيدة حول فكرة مركزية تتمثل في اعتقادها المطلق بأن الكون، والقوانين، والأعراف، والتقاليد... صناعة رجالية بامتياز، وقد وجدت لكي تظل المرأة ظلاً للرجل؛ وأن أنانية الرجل هي سبب بلاء المرأة، وانحطاط وضعها الاجتماعي، واستسلامها المهني.‏

تعرّفت فرجينا وولف إلى العديد من الشبان عبر علاقات عابرة، وصداقات لحظوية متعددة، فلم يرق لها أحد منهم لترتبط به ارتباطاً طويلاً. لقد رأت أن الرجل يميل إلى العنف عندما تطول مدّة علاقته بالمرأة، في حين أن المرأة، وفي الظرف ذاته، تميل إلى الضجر، فالعنف صناعة رجالية، بينما الملل احتجاج نسائي على انتفاء العاطفة الصادقة ما بين المرأة والرجل.‏

إن خوف فرجينا وولف من الرجل كان خوفاً ظاهرياً، الأمر الذي جعل الكثيرين من معارفها يشكّون في توازنها النفسي والعقلي ويضعونها في خانة الشاذين. لكن الحقيقة لم تكن كذلك تماماً لأن فرجينا وولف كانت ذات بنية نفسية حساسة جداً، تعوف الطعام على الدوام. قلقة من شيء ما. تخاف جداً من الغرباء والأصدقاء الجدد، تحبذ عدم الاختلاط بأحد، ولذلك بدت طوال حياتها تقريباً إنسانة منهكة متعبة، لديها نوبات قنوط ويأس واكتئاب ذات أعراض واضحة جداً. وهذا ليس بمستغرب ففرجينا وولف سليلة أسرة قلقة ذات حساسية واضحة، يميل أفرادها إلى الانزواء، والرضا بالوحدة بعد مزاولة طويلة لتمارين العزلة، فقد عانى الكثير من أفراد الأسرة من أمراض نفسية كادت تفتك بهم، هذا ناهيك عن أن فرجينا عاشت طفولة أتعبتها الأمراض فأرهقتها جسدياً ونفسياً. وقد كان لموت أمها المبكر، وموت أخيها المفاجئ أكبر الأثر في نفسها، وكان لزواج أختها فانيسا وسفر أخيها، آثار سيئة لم تستطع مقاومتها طوال حياتها. فقد كانت دائمة الموازنة بين حياتها المحزنة (الوحدة والعزلة من جهة ومخالطة النساء ومخالطتهن فقط من جهة ثانية) وحياة أختها السعيدة (التي راحت تنجب الأطفال وتكتب إليها رسائل تعبر عن سعادتها من جهة ثانية). كانت تشعر بحزنها وكآبتها تماماً مثلما تشعر أختها بالسعادة وفرحها بالحياة الزوجية. لذلك عاشت وقتاً طويلاً من حياتها وحيدة تكتب يومياتها، فتبوح لنفسها بآرائها وأفكارها حول الكتب، والأشخاص، والواقع الاجتماعي، كما تبوح بغاياتها المستقبلية وهواجسها الكتابية. وقد اتصفت فرجينا وولف بسخريتها اللاذعة، وجرأتها غير المحدودة، ووضوح أفكارها وصراحتها. وعلى الرغم من عزلتها إلا أنها كانت تحب الحياة فتتزين وتتجمل على نحو لافت للانتباه، وتشتري الثياب الغالية لتتميز عن غيرها، وكان هذا كلّه يسبب لها مشكلات اجتماعية لعلّ أبسطها سوء الظن بها واتهامها بالشذوذ. عاشت تجارب عاطفية عديدة مع العديد من الشبان الذين تعرفت إليهم، ولكن تلك التجارب العاطفية أورثتها النفور من الرجال. لعلّ ذلك يعود إلى مشكلات عديدة في طفولتها حيث تروي في يومياتها أن أخاً غير شقيق لها حاول التحرش الجنسي بها مرّات عديدة، وأنه كان يتلصص على جسدها على الدوام.‏

لذلك لم تقتحم فرجينا وولف عالم الزوجية إلا عندما أصبحت في الثلاثين من عمرها. حين تعرفت إلى شاب يهودي اسمه ليونارد وولف كان يعمل في المجال السياسي في إقليم (سيلان) يكتب تقارير دورية عن سيلان ويرسلها إلى وزارة المستعمرات البريطانية في لندن.‏

حاول ليونارد وولف إقناع فرجينا بالسفر إلى سيلان إلا أنها رفضت لقناعتها بأن غربتها ستصير غربة مركّبة إذا ما وافقت على السفر. في بداية التعارف بينهما لم يرق ليونارد لها على الرغم من هدوئه، وصوابية تحليلاته‏

السياسية، وقوة أفكاره، وحسن عرضها، لكنها وبعد تعدد اللقاءات بينهما وجدته مختلفاً عن الشبان الذين تعرّفت إليهم، والذين كانوا من الشاذين (المثليين)، ولعلّ أبرز الشبان الذين أحبتهم هو (ليتون ستراجي) الذي رأت فيه إمكانية لكي يكون زوجاً لها في المستقبل، لكنها اكتشفت وبشكل مباشر أنه شاذ جنسياً، وقد أدركت أنه يريد حل مشكلاته الخاصة به ضمن (صفقة الزواج) بعد أن خطبها وقبلت به. شعرت أنه يعيش حالة من الرعب والاضطراب حين يقبّلها، لذلك قالت لـه (لا حياة لك في الفردوس الزوجي معي). فأمر مثل هذا مستحيل لأن نزوع الشذوذ سيكون جداراً عازلاً بينهما. وقد وافقها (ليتون) بالفعل على رأيها هذا، لأنه لا يستطيع الزواج منها أيضاً، وأكدت هي لـه أنها لا تحبه. وبذلك انفصمت علاقتهما. كانت التجربة محزنة جداً، ولكن ما الذي تفعله وقد أصبحت في السابعة والعشرين من عمرها كان لابدّ من رمي (العزوبية) بعيداً عنها والخلاص منها على الرغم من نفورها الواضح من الشبان، وتقبّلها الودود للعلاقات النسائية.‏

تزوجت فرجينا من ليونارد وولف دون أن يعرف أنها تعاني كثيراً من صعوبة التفاهم مع الشبان، وأنها تميل إلى الصداقات النسائية أكثر من ميلها إلى الصداقات الرجالية، كما أنه لم يعرف ما تعانيه من صعوبات التكيّف الجسدي والنفسي في المنزل مع أفراد أسرتها، ومع الجماعات التي تختلط بها في المنتديات والروابط الاجتماعية.‏

أما هو (ليونارد وولف) فقط كان، وبعد مخالطات عدّة مع الأصدقاء المحيطين بفرجينا، يظن بأنها ستتزوج من أحد معارفها دون أن يعرف أو يدرك تمنعها عن الزواج بهم بسبب (شذوذيتهم). عاش سبع سنوات صعبة وراء البحار في سيلان، فيها الكثير من الرصانة، والعزلة، والتدرب اليومي على أن يكون إدارياً ناجحاً، إلا أن مخالطته للجماعات (الشاذة) عند عودته إلى (لندن) جعلته يعيش ازدواجية مُرّة بين حياة رصينة وحياة تهتك. قبل أن يتزوجا في عام‏

(1912) كان ليونارد كثير الاختلاط بفرجينا وأختها فانيسا، وقد أحسّ أن قلبه شغف بها حباً، وكانت هي تكنّ لـه المودة. لذلك وفي بداية عام 1912، أبرق لها يرجوها أن يلقاها مدّة ساعة، لأمر ضروري. فوافقت هي مباشرة، والتقاها تلك الساعة وسألها أن تتزوجه، فلم تفاجأ لأنها كانت تشعر بإعجابه ومودته، مع ذلك لم تجب بالنفي ولا بالقبول، وطلبت منه أن يمنحها بعض الوقت لتفكر جدياً بالأمر، ولتتعرف إليه أكثر. وحين عاد إلى مكان سكنه كتب ليونارد إليها قائلاً:‏

? "عزيزتي فرجينا، يجب أن أكتب إليك قبل أن أنام، فلعلّي أستطيع التفكير على نحو أهدأ. ليس عندي تصوّر واضح لما قلته لك فعلاً عصر اليوم، ولكني واثق أنك تعرفين لماذا جئت، ولا أعني مجرد أنني محب، لكن هذا، وعدم اليقين، يسوقان المرء إلى أن يقوم بهذه الأشياء. ربما كنت مخطئاً، ذلك لأنني قبل هذا الأسبوع لم أكن أنوي أن أخبرك إلا إذا شعرت شعوراً أكيداً أنك محبّة لي وستتزوجيني. ظننت آنئذ أنك تودّينني، وكان هذا هو كل ما في الأمر. لم أدرك مدى حبي لك إلى أن تحدثنا عن مسألة رجوعي إلى سيلان... بعد ذلك لم أستطع أن أفكر بشيء سوى بك. صرت في حالة شك يائسة: هل أنت تحبينني أو يمكنك أن تحبيني أو حتى أن تودّيني؟! يا إلهي، عسى ألا أقضي مرّة أخرى مثل ذلك الوقت الذي قضيته هنا إلى أن أبرقتُ! كتبت لك قبل ذلك الوقت أقول إنني سأكلمك الاثنين القادم (كان يوم رؤيته لها هو يوم الخميس، أي سبق الموعد بأربعة أيام)... ثم شعرت أنني سأجن إذا انتظرت حتى ذلك الحين لأراك... لذا أبرقتُ! كنت أعرف أنك ستقولين لي بالضبط ما تشعرين به. لقد كنتِ، بالضبط، كما عهدتك، ولو لم أكن أحبك قبلاً لأحببتك الآن! وليس الآمر لأنك حسناء جداً ـــ وإن كان هذا بالطبع سبباً كبيراً، ويجب أن يكون كذلك ـــ ولا هو لأنني أحبك... كلا ليس الأمر مجرد هذا... إنه عقلك وشخصيتك. لم أعرف قط من هو مثلك في هذا، فهل تصدقين؟!‏

والآن فإنني سأفعل أي شيء تريدينه، قطعاً لا أظن أنك تريديني أن أنصرف، ولكن إذا كنت تريدين ذلك فأنصرف فوراً".‏

وهي لا تجيب. لذلك كتب لها في اليوم التالي:‏

? "أستطيع أن أكتب من بعيد عما كان صعباً علي جداً أن أبحثه معك بهدوء وبلا انفعال. لا أظنني من الأنانية بحيث لا أستطيع رؤية الأمر من جانبك أيضاً. أما من جانبي فأنا واثق الآن بأنه وبصرف النظر إلى كوني أحب، واثق بأنه سيكون من الجدير بي المغامرة بكل شيء للزواج منك. وهذا بالطبع من جانبك هو السؤال الذي كنت تسألينه باستمرار البارحة، وربما كان ينبغي لك ذلك، ولأنك خارج حلقة النار يمكن أن تقرري أفضل مني بكثير أنا الذي في داخلها.‏

يا إلهي، أنا أرى أكثر من غيري المخاطرة في الزواج خاصةً من قبلي، فأنا أناني، غيور، قاس، شهواني، كذاب، وربما أسوأ، وقد قلت لنفسي مراراً وتكراراً أنني لن أتزوج من أية امرأة بسبب هذا، ولأنني بالدرجة الأولى لا أستطيع، على ما أظن أن أسيطر على مشاعري مع امرأة أدنى مني، وسيؤدي نقصها واستسلامها إلى إلهاب الغضب فيَّ بالتدريج! ولأنك لست هذه المرأة، فإن المخاطرة تقلّ كثيراً جداً. قد تكونين أنت أيضاً مغرورة، أنانية، غير صادقة كما تقولين عن نفسك، لكن هذه ليست شيئاً بالمقارنة مع صفاتك الأخرى... الروعة، الذكاء، الفطنة، الجمال، الصراحة. وعلى أية حال أيضاً فإننا على مودّة، أحدنا بالآخر، ونحب الأشياء نفسها والأشخاص ذاتهم، وكلانا ذكي، والأهم من هذا كلّه أننا نفهم واقع الأمور التي هي مهمّة لنا"!.‏

هذه المرة استنفرت فرجينا مشاعرها، فكتبت إليه تقول:‏

? "ليس عندي ما أقولـه سوى أنني أرغب في أن أستمر كالسابق. عليك أن تتركني حرةً، وعليَّ أن أكون أمنية. أما بالنسبة إلى النواقص فأتوقع أن تكون نواقصي هي بالسوء نفسه، ولعلها أقل نبلاً أيضاً. لكن النواقص ليست بالطبع هي المسألة حقاً. وقد قررت إبقاء هذا الأمر سراً باستثناء فانيسا (أختها) وقد وعدتني ألا تفشيه لكلايف (زوجها) وقلت لأدريان (أخوها الوحيد) إنك جئت بشأن عمل عرض عليك".‏

ولم تدرِ فرجينا أن فانيسا (أختها) كتبت لليونارد سراً تقول لـه: "سيسرني جداً أن تحظى بما تريد. أنت الشخص الوحيد الذي أعرفه ويمكن أن أتخيله زوجاً لها".‏

بعد تلك المراسلات، أصيبت فرجينا بانهيار عصبي استدعى دخولها إلى المصحة العقلية، وهناك انتخبت ملكة جمال للمجنونات في المشفى. أما ليونارد فكان موزعاً بين رغبته في العودة إلى سيلان لأنه يحظى هناك بالتقدير والاحترام، ويكسب الكثير من المال، وبين حبّه لفرجينا، وقد كان يعول على قبول فرجينا بالزواج لكي يتخلّص من تلك الرغبة اللعينة التي ستعود به مرّة أخرى إلى وراء البحار، لذلك طلب من وزير المستعمرات تمديد إجازته حتى تتعافى فرجينا تماماً، فيعرف منها ما إن كانت مستعدّة للزواج أم لا. غير أن الوزير أحال طلب الإجازة إلى حاكم سيلان الذي لم يوافق إلا بشرح الأسباب الداعية إلى التمديد، وقد تمنّع ليونارد عن ذكرها، لذلك اضطر إلى الاستقالة لكي يبقى إلى جوار فرجينا. وكتب إليها يقول:‏

? "يا إلهي، السعادة التي شعرتها بقربك، والحديث معك، حديث عقل لعقل، وروح لروح. أنا أعرف بجلاء ما أشعر به نحوك. إني شغوف بك كما لم أشغف من قبل بأي أحد أو أي شيء في الدنيا. وتجيبه فرجينا مؤنّبة لأنه ترك مهنته:‏

? "إن مهنتك مهنة رائعة، أنت تدمرها! يبدو لي أنني أؤلمك كثيراً، لذلك ينبغي لي أن أكون واضحة في ضباب لا أراه أنا مطلقاً. أنت ستكون سعيداً تماماً معي، وأقول إن الزواج سيعطيك الرفقة والأطفال والحياة الحافلة بالعمل. أنت ولكونك يهودياً تبدو غريباً للغاية. ثم أنني غير مستقرّة بشكل مخيف. أنا أنتقل من الحرارة إلى البرودة في لحظة واحدة بدون سبب عدا أنني أعتقد أن الجهد الجسماني والإعياء يؤثران فيّ.‏

كل ما أستطيع قولـه هو وجود شعور دائم ومتنامٍ بالرغم من هذه المشاعر التي يطارد أحدها الآخر طوال اليوم حين أكون معك.‏

أنت تريد أن تعرف بالطبع هل هذا الشعور سيجعلني أتزوج أم لا! كيف أستطيع القول؟ أظنه سيجعلني أقدم على ذلك إذ لا يوجد على ما يبدو سبب يحول دون ذلك، لكني لا أعرف ماذا يحمل المستقبل. أنا شبه خائفة على نفسي. إنني أريد كل شيء... الحب، الأطفال، المغامرة، التقارب الحميم، العمل. أريدك أن تكون معي دائماً، وتعرف كل شيء عني... حتى التهوّر والتعالي. أحياناً أظن أنني إذا تزوجتك فسأستطيع الحصول على كل شيء، إنما... هل هو الجانب الجنسي يقف حاجزاً بيننا! فكما قلت لك قبل أيام، وبكل قسوة إنني لا أشعر بجاذبية جسدية فيك. ثمّة لحظات (حين قبلتني قبل أيام) شعرت فيها أني لست أكثر من حجر. مع ذلك فإن اهتمامك بي يكاد يأخذ علي أمري، وهذا شيء حقيقي جداً وغريب جداً. لماذا تفعل ذلك؟! من أنا سوى مخلوقة جذابة لطيفة؟ لكن ولأنك شديد الاهتمام بي فإني أشعر أنني يجب أن أحس بالاهتمام بك قبل أن أتزوجك، أشعر أنني يجب أن أعطيك كل شيء، وإذا لم أستطع فالزواج إذن لن يكون إلا ثاني أفضل الأشياء لك ولي. نحن نتطلّب كثيراً من الحياة. أليس كذلك. لعلّنا سنحصل على ما نريد، عندئذٍ ما أروعه من أمر. أن المرء لا يسعه قول الكثير في رسالة أليس كذلك"؟!.‏

وتشاء الظروف أن يتجاورا في السكن، فراح كل منهما يراقب مشاعره تجاه الآخر، وقد غدا كل منهما يعيش مع الآخر الساعات الطويلة، ومن السفر الطويل تكتب فانيسا إلى أختها فرجينا قائلة:‏

? "أرجو ألا تكوني قلقة كثيراً من مسالة ليونارد. لو كنت مكانك لتركت الأمر يأخذ مجراه. سيكون الأمر بالتأكيد على ما يرام".‏

وكانت فرجينا بالفعل، كلّما رأت ليونارد وعايشت أفكاره وأعماله وسلوكه، تزداد حباً لـه ، لذلك وفي 29 آذار 1912، وبعد أن تطوّرت صلاتهما الحميمة، وتلاشت مخاوف فرجينا، وازدادت ثقتها به، قرّرت بوضوح أنها تحبه وسوف تتزوجه، وهذا ما حدث لاحقاً.‏

ولكن ما الذي قالته فرجينا عن ليونارد، وكيف عرّفت به، وما الذي باحت به لصديقاتها. إنها تقول في رسالة إلى صديقتها فيوليت وكنسون:‏

"عزيزتي فيوليت.‏

لدي اعتراف سأبوح لك به. سأتزوج من ليونارد وولف، وهو يهودي لا يملك شروى نقير وأنا أسعد مما كنّا نظنه ممكناً. هل لنا أن نأتي عندك معاً أم تفضلين أن آتي وحدي. كان صديقاً (تقصد ليونارد) مقرباً من (ثوبي ـــ أخيها المتوفى) وذهب إلى الهند (تقصد سيلان) وعاد في الصيف الأخير حين التقيته، وهو يقيم هنا منذ الشتاء. لقد كنتِ دائماً الإنسان الرائع الذي أحببته منذ كنتُ طفلةً، لذا لا أستطيع أن أهضم عدم استحسانك لزوجي. إنه يحسب كتابتي هي أحسن ما فيَّ. إننا سنعمل بجهد عظيم".‏

أما الزواج فتم رسمياً في 10 آب 1912، وفي رحلة شهر العسل إلى إسبانيا وإيطاليا وفرنسا،‏

قرأت فرجينا وولف رواية (الأحمر والأسود) لـ"ستاندال"، و(الإخوة كرامازوف)، و(الأبله) لدوستويفسكي.‏

ـــ 4 ـ‏

قبل سن الثلاثين من عمرها، لم تصدر فرجينا وولف أي مؤلف لها. كل ما كتبته كان مقالات نقدية لكتب حديثة الصدور، أي مراجعات تعريفية عن بعض الكتب التي أراد ملحق التايمز الثقافي أن يقدمها للقراء (بدأت الكتابة عام 1905). ولكن فرجينا وولف كانت تعي في أعماقها أنها ستكون كاتبة ذات شأن على الرغم من الطقوس الفوضوية التي كانت تعيشها مع أصدقائها الذين بشروا بالبوهيمية واللامبالاة تعبيراً عن فكرتهم الجوهرية التي آمنوا بها وهي أن الأجساد شبيهة‏

بالأشجار، وعليها أن تنمو على هواها دون إعداد، أو برمجة، أو توجيه. لا بل أن فرجينا وولف آمنت بأكثر من هذه الفكرة حين تبنّت فكرة (تحطيم الذات) وعملت عليها حين أرادت طوال فترة شبابها استنزاف طاقات الجسد والعقل معاً في تلبية الرغبات والنزوات، وزجر الذات التي تريد الإخلاد للراحة أو الهدوء، هذا ناهيك عن عدم التزامها بالقيود الاجتماعية. لذلك كانت عرضة للانهيارات العصبية بدءاً من عام 1895، أي وهي في سن الثالثة عشرة. كانت طوال شبابها كثيرة السفر، كثيرة السهر، لا مبالية، فريسة للانهيارات العصبة والاضطرابات النفسية، كثيرة التردد على المشافي للعلاج والمراقبة، كثيرة الهجس بالكتابة والتعبير عن الأفكار والأحداث، داعية لتحرير المرأة.‏

تقول في إحدى يومياتها:‏

"في السادسة عشرة من عمري كنت أبغي ما ينبغي أن يعرف، وأبغي كتابة كتاب، ولكن أي كتاب؟! إن تلك الرؤية وافتني بوضوح أشد وأنا في الحادية والعشرين من عمري".‏

وحين خرجت معافاة من الانهيار العصبي الأول الذي قادها إلى مصحة عقلية، تكتب لإحدى صديقاتها قائلة: "آه يا عزيزتي فيوليت لقد تعافيت من تعاسات الأشهر الستة الماضية، فبت آمنة مطمئنة. أنت لا تستطيعين تصوّر الجذل الرائع لكل دقيقة من حياتي الآن، ودعائي الوحيد هو أن أعيش لأبلغ السبعين. أحسب أنني سأخرج من المحنة أقل أنانية وغطرسة مما كنت عليه حين دلفت إليها، كما سأكون ذات تفهّم أكبر لمشاكل الآخرين".‏

لقد ظنت أنها شفيت. لكن طبيبها الدكتور سافيج أصرَّ على أن تعيش بهدوء كامل بعيداً عن ضجيج المدن وناسها ما أمكن ذلك. لهذا ذهبت لتعيش في كامبريدج فترة من الزمن عند عمتها، ولم تتركها إلا بعد أن فحصها الدكتور سافيج مرة أخرى، وأخبرها بأنها عوفيت تماماً، وبإمكانها أن تعيش حياتها الطبيعية في المكان الذي تريده. حين عادت إلى لندن، فاتحتها ابنة مطران اسمها شيبشانكز تعمل مديرة منشطة لكلية مولي، ومحبة لتعاون الآخرين معها، أن تدرس بعض العاملين والعاملات بعض المعلومات لإكسابهم خبرات ثقافة جديدة، فوافقت فوراً، كانت هذه الكلية معهداً مسائياً للعمال والعاملات. وقد استطاعت الآنسة شيبشانكز أن تضم إلى المعهد أخوة فرجينا من أجل التدريس في الكلية، فقامت فانيسا بتدريس الرسم، وقام توبي بتدريس اللاتينية، وقام أدريان بتدريس اليونانية.‏

تقول فرجينا عن تلك التجربة:‏

? "أعطيت محاضرة أمس لأربعة عمال، أحدهم يلثغ بالميم، والآخر إيطالي يقرأ الإنكليزية كأنها لاتينية القرون الوسطى. والثالث شاعر منحط يتهيج ويحمر خجلاً ويشدّ على يدي إذا استحسنا معاً بيتاً من الشِعر. قلت لهم في الجملة الأولى من محاضرتي: مات الشاعر كيتس وهو في الخامسة والعشرين، وكتب شعره كله قبل ذلك. فقالوا: حقاً؟ ما أروعك يا آنسة".‏

استمرت في التدريس مدّة سنتين حتى عام‏

(1907)، وكان انطباعها عن هذه التجربة أنها ضحّت بالكثير من وقتها في سبيل اللاشيء واللاجدوى. وأن هؤلاء الطلبة أشبه بأرض قاحلة لا ترتوي ولا تُنبت زرعاً أيضاً. ولعل أهم ما في التجربة حقاً هو أن صحة فرجينا استقرت خلال فترة التدريس تلك، وأن سلوكها انضبط كثيراً مقارنة مع ما كان عليه سابقاً.‏

وعلى الرغم من أن فرجينا ساكنت العديد من الشبان في بيت واحد إلا أن عواطفها تجاه الشبان كانت ضامرة، إذ لم يلعب أي من عشاقها دوراً مهماً في حياتها، ولم يُلهب أي منهم خيالها وعواطفها، ذلك لأن عواطفها كانت مشبوبة تجاه الفتيات وخصوصاً صديقتها فيوليت. وكان أول من حاولت مغازلته رجل يشبه والدها، يكبرها بسنوات عديدة، لعلها رأت فيه تعويضاً عن الوالد... عاطفةً، وحضوراً، ومكانةً.‏

تكتب لإحدى صديقاتها فتقول:‏

"إنني مقتنعة بأن العالم الغامض الشبيه بالحلم، الخالي من الحب أو القلب أو العاطفة أو الجنس هو العالم الذي اهتم به حقاً، وأجده ممتعاً، ومع أن هذه الأشياء أحلام، كما ترى، فأنا لا أستطيع التعبير عنها كفاية أبداً، مع أنني اعتبرها حقيقية تماماً".‏

تقول عن واحد من الذين أحبوها في رسالة إلى أختها فانيسا: "إنه كالفيل في مخزن للزجاج"! وتقول عن محب لها... آخر: "حين التقيه أشعر بأن الهواء قلّ في مكان جلوسنا، لذلك أسعى بكل طاقتي لمغادرة المكان". وعن ثالث تقول: "حين يأتي إليّ، ويطيل أشعر بغربة غير عادية، وأنني لا أقوى على الحركة والكلام والتعبير".‏

ـــ 5 ـ‏

بعد هذا الجولان في حياة فرجينا وولف، واستبطان بعض دواخلها وأسرارها، أقول إن فرجينا وولف كتبت واحداً وعشرين مؤلفاً طوال حياتها الأدبية التي بدأتها وهي في الثلاثين من عمرها" أما بداية النشر فكانت مع روايتها الأولى (رحلة إلى الخارج) سنة 1915، أي وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها.‏

استقبلت رواية (رحلة إلى الخارج) استقبالاً طيباً لدى معارف فرجينا وولف، كما استقبلت بالقدر ذاته من قبل من راجعها في الصحف.‏

وقد قال عن الرواية الناقد فورستر. وهو من النقاد الذين تطمئن فرجينا لآرائهم، وتثق بقدراتهم النقدية:‏

"هذا هو أخيراً كتاب يحقق وحدة العرض بالثقة نفسها التي حققتها رواية (مرتفعات ووذرينغ)، وإن كانت الكاتبة وولف اتخذت أسلوباً مختلفاً".‏

وبالغ بعض النقاد حين قال أحدهم:‏

"ثمة شيء أعظم من الموهبة يلوّن الحذق في هذا الكتاب، والرواية تبذل جهداً متواصلاً لكي تقول الشيء الحقيقي وليس الشيء المتوقع، وتحفل بالفكاهة والسخرية واللطف العاطفي، والأصالة العميقة. فهذه الرواية تعتبر بين الروايات العادية بمثابة أوزة برية بين البط العادي".‏

وكرد فعل أولي من فرجينا وولف على الكتابات النقدية، تقول في رسالة لصديقة لها:‏

"أشعر بأن الرواية طويلة، وثقيلة الدم، ولكنها ليست لغوياً، وقد خشيت أن تكون كذلك في بعض الأحيان.‏

ولعل أهم ما كانت تخافه فرجينا وولف، وقد صدرت روايتها الأولى (رحلة إلى الخارج) أن يحسبها القراء كتابة اعتباطية لكاتبة تعاني من نوبات الجنون... فلا تكتب سوى جنونها. وأن الرواية مفككة لا منطق ينظمها، ولا روح مشتركة تجمعها.‏

لذلك كان أهم ما أبهجها أن الرواية كانت بمثابة حسن سلوك لمسارها النفسي والعقلي والاجتماعي، لا بل نقلتها (الرواية) من عالم المراجعات للكتب إلى الكتب نفسها لكي تبدعها على صورة سرّت القراء والنقاد في آن معاً. وبذلك عززت فرجينا وولف ثقتها بنفسها من خلال قدرتها على كتابة رواية لم ترشق بـ(البيض الفاسد على صفحات الصحف).‏

وتشير هذه الرواية (رحلة إلى الخارج) إلى سرد أخبار رحلة بحرية بعيدة يتناوب فيها الأصدقاء على الحديث، وجلو ما في الذات عبر ما سمي لاحقاً بـ(تيار الوعي) أو (المونولوج الداخلي)، عبر تقنيتي (الاسترجاع) لما كان و(الاستقبال) لما سيكون.‏

ولعل أهم ما أثلج صدر فرجينا وولف حول روايتها الأولى (رحلة إلى الخارج) أنها وحين تعرفت إلى الأديبة كاترين مانسفيلد، سمعتها تُثني على الرواية وأسلوبها بحماسة كبيرة جداً. وقد كانت مانسفيلد أديبة مثيرة للاهتمام، ومؤنسة جداً، وفيها غموض يتوق المرء إلى معرفة ما يخفي وراءه. ولكن فرجينا وولف لم ترتح لكاترين مانسفيلد ككائن بشري، تقول في رسالة لأختها فانيسا:‏

"إنها تبدو لي شخصية غير لطيفة، ولكنها قوية ولا تتحرج من شيء على الإطلاق"!.‏

وقد عرف عنهما خلال فترة تلاقيهما، أنهما كانتا في تنازع شديد، واتفاق شديد، الأمر الذي يصل إلى حد التناقض، وذلك لاختلاف الطباع والأمزجة. ولكن كان يجمعهما حب الأدب على الرغم من المنافسة الحادة. لقد رأت كل منهما في الأخرى ضرورة من ضرورات الصداقة الأدبية، ولكن هذا لم يلغ القول إن أعصاب‏

الواحدة منهما كانت متوترة ومثارة بسبب الثانية. وكانت إحداهما تقدِّر الثانية، فأما مانسفيلد فتقدِّر فرجينا وولف لاقتحامها ساحة الأدب بقوة، وبجدة، وطزاجة تكسر، ومواصفات السرد الإنكليزي المعروف، وترى فيها؛ إذا ما استمرت في الكتابة، روحاً جديدة تضاف إلى الأدب الإنكليزي. وفرجينا وولف تقدر كاترين مانسفيلد وتحترم تجربتها الأدبية، ولكنها لا تطيق سلوكها العاطفي، فقد دمّرت كاترين نفسها بسبب تقلباتها العاطفية ومصاحبة الرجال والارتماء الرخيص لهم بعدما اشتطت في هوسها العشقي وقبولها الحميم للجميع دونما تمييز أو تفريق، الأمر الذي جعلها تقع في دائرة (الإشفاق) لأن تصرفاتاتها وسولكيتها لا تفترق، لا في التزيين والبهرجة... ولا في الرخص والضعة، عن البغايا.‏

في تلك الفترة بدأت فرجينا وولف وزوجها ليونارد يفكران بإنشاء مطبعة والعمل على طباعة الكتاب، وقد تمّ شراء المطبعة (مطبعة هوغارث) عن طريق بيع بعض الأسهم التي يملكانها، لكن فرجينا وولف تقول في رسالة إلى صديقتها اثيل سمايث موضحة كيفية تأمين المال لشراء المطبعة: "بعت أقراطي وقلائدي القليلة"!.‏

طبعاً كانت الأمور الاقتصادية صعبة جداً، فالزمن هو زمن الحرب العالمية الأولى.‏

وتكتب فرجينا (الليل والنهار) قصة طويلة، عادت فيها إلى الطريقة الكلاسيكية في الكتابة، وذلك لقناعتها أنها كتبت فصولاً مجنونة أخيرة في روايتها الأولى (رحلة إلى الخارج) نشرتها في كراسة مشتركة مع قصة (ثلاثة يهود) لزوجها ليونارد وولف، ولم يتجاوز عدد نسخها مئة وخمسين نسخة، ويكتب أحد الأدباء عن قصتها قائلاً:‏

"قصة فرجينا (الليل والنهار) قصة من أعمال العبقرية. إن سلاسة الأسلوب تملؤني حسداً. بعض الجمل خاصة. كيف تستطيع فرجينا أن تجعل اللغة الإنكليزية تعوم هكذا؟ ثم الطريقة الرائعة التي بها يُشار إلى وجهة النظر العصرية,. برافو".‏

كانت فرجينا وولف تصفّ الحروف اليدوية في المطبعة، بينما زوجها يقوم بالطباعة وهو العمل الأكثر مشقة وتعباً.‏

آنذاك كان المشهد الثقافي الإنكليزي، أو لنقل اللندني على وجه التخصيص، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، مشغولاً بأسماء أدبية بعينها، وذلك في الأندية والمنتديات واللقاءات الأدبية (نادي 1917 ـــ اتخذ هذا النادي اسمه من الثورة البلشفية الروسية ـــ نادي بلومزبيري) ـــ والثقافية التي كانت تجمع إليها نفراً من الأدباء والمثقفين والرسامين. من تلك الأسماء المهمة: جيمس جويس (الذي ذاع صيت ما كتبه عن رواية اتخذ لها اسماً هو "عوليس")، وعزرا باوند، وت. اس. إليوت، وكاترين مانسفيلد، وقد راحت الأخبار تتوارد عن كاتب فرنسي ذاعت شهرته هو مارسيل بروست. لقد لعبت تلك المنتديات والأندية دوراً في الترويج لكتّاب بعينهم، وبذلك راحت أهمية الكتّاب والأدباء والرسامين والموسيقيين تتجسد من خلال ما تقولـه تلك الأندية لأن آراء أصحابها أخذت تظهر في الصحف والمجلات فتشكل الذائقة الأدبية للمثقفين عامةً، كما تشكل تأثيراً على الأدباء والكتّاب أنفسهم، وبذلك صح القول آنذاك، بأن مقياس الثقافة (ميزانها) هي تلك الأندية والمنتديات فتصعد بمن تصعد و تنزل بمن تنزل. ولي أن أشير إلى ملاحظة شديدة الأهمية، وهي أن (نادي 1917 تمثيلاً لا حصراً) كان ملتقى المتقدمين، والمتحررين والمتحررات، بقولة أخرى كان النادي ملتقى (كائنات العالم السفلي)، وأضيفُ أيضاً ملاحظة أخرى شديدة الأهمية، وهي أن النادي كسب في عضويته العديد من الناشرين المتميزين الذين كانوا، كغيرهم، يتأثرون بما يقولـه أدباء النادي ومثقفوه وخصوصاً تصنيفاتهم لمراتب الأدباء والكتّاب وأدوارهم الإبداعية.‏

في تلك الأثناء أي في (1918) جاءت السيدة هارييت ويفر harriet weaver إلى لندن وهي صاحبة مجلة اسمها اكويست تحمل معها مخطوطة رواية عوليس لـــ جيمس جويس، وزارت فرجينا وولف وزوجها ليونارد وولف في مطبعتهما (هو غارث) من أجل طباعتها وذلك بتوصية من تي. اس. إليوت. رأت فرجينا في مخطوطة الرواية (خلاعة جويس الوقحة) على حد تعبير ها، ولكن هذا لا يمنع من نشر الرواية، فقد أعجبت بها، وشعرت كما أنها هي من كتبها، ولكنها، انتصاراً لبنات جنسها، قالت إن الرواية أشبه بكلام الرجال‏

حين يستغيبون النساء من دون حتمة أو كريم قول وسبب عدم طباعة الرواية (عوليس) في مطبعة (هوغارث) هو حجمها الكبير أولاً، فقد كانت طباعتها فوق طاقة مطبعة (هوغارث) محدودة الإمكانات، ثم إن الأمر الثاني الذي حال دون طباعتها هو ما جاء فيها من عبارات ومشاهد تخدش الحياة، فقد رفض عمال المطبعة أن ينضدوا كلماتها خوفاً من السوق إلى المحاكم القضائية.‏

وفي أواخر عام 1918، تودع فرجينا وولف الحرب العالمية الأولى بقولها:‏

"قبل قليل انطلقت المدافع تعلن السلام. صفارة الإنذار تصفر على النهر. لم تزل تصفر. بضعة من الناس هرعوا إلى النوافذ يتطلعون. الغربان السود تحوم وعليها ذلك الطابع الرمزي لمخلوقات تقوم بطقوس في احتفال ما بعضه للشكر، وبعضه لتوديع الموتى من فوق القبور"‏

مع حلول عام 1919، قامت مطبعة (هو غارث) بطباعة ديوان شعر لـــ إليوت، ورواية جديدة هي (حدائق كيو) لفرجينا وولف التي لم تلقَ النجاح الذي توقعته هي وزوجها ليونارد، ولم تبع في شهورها الأولى سوى نسخ محدودة جداً في حين باع ديوان إليوت من النسخ أكثر مما كان يتوقعه الزوجان وقد امتازت (حدائق كيو)‏

بالجرأة لاستبطان مكنونات النفس التواقة إلى الحرية والتفلت من كل التقاليد الاجتماعية‏

وقد لاقت بعض التقريظ لهذا السبب، ولكن نعى النقاد عليها عدم انصياعها إلى الطرق‏

الكلاسيكية في الكتابة الروائية.‏

الأمر الذي جعل فرجينا وولف تدفع بروايتها (الليل والنهار) التي وضعتها وفق الصيغ الروائية التقليدية المعروفة، الأمر الذي جعل الروائية كاترين مانسفيلد تقول عنها لأحد النقاد:‏

"روايتها الجديدة تفيح برائحتها. أنت ستكره الكتاب. بل لن تقرأه. إنه طويل جداً ومتعب جداً، والرواية تنطوي على كذب في باطن الروح، فالحرب لا ذكر لها في الرواية وكأنها لم تكن أصلاً. ونحن كفنانين، عندما نتجاهل الواقع سنكون خونة إذا لم نشعر بآثار الحرب وويلاتها, علينا أن نأخذ الحرب بالحسبان فنجد عبارات جديدة، وقوالب جديدة لأفكارنا ومشاعرنا الجديدة. ومع أن هذه قناعتي فأنا لا أستطيع التصريح بها"!‏

فعلاً لم تستطع ما نسفيلد التصريح بهذه الآراء تجاه رواية فرجينا وولف الجديدة وحسب، وإنما قالت لها حين التقينا: «إن الرواية إنجاز مدهش. لِمَ؟! لأننا لم نحصل على مثلها منذ أمد طويل».‏

في عام 1920 بدأت فرجينا وولف كتابة روايتها (غرفة يعقوب)، وكانت حين تنقطع عن الكتابة فيها تكتب بعض القصص القصيرة التي ظهرت في ربيع عام 1921 تحت عنوان(الاثنين أو الثلاثاء) وقد تميزت بإلاء الجانب النفسي الكثير من العناية الأمر الذي جعل القصص تحظى بتقريظ وافر من الأدباء والنقاد، وفي طليعتهم تي. اس. إليوت.‏

أما رواية (غرفة يعقوب) فهي كتابة لسيرة حياة أخيها (ثوبي) وموته في غربته، ورسائل الحنين المبثوثة إلى الأمكنة الأولى، والأصدقاء الأول، وحالات الفقر التي يعانيها المغترب بعيداً عن الآخرين الذين يعرفهم، وعن الأمكنة التي يحبها، أي حين تقطّع خيوط الصلة مع المكان الأول.‏

صدرت رواية (غرفة يعقوب) في عام 1922، وقد لاقت استحساناً من قبل القراء وانتقاد على السواء، وقيل إنها كانت الجسر الذي عبرت عليه فرجينا وولف نحو النجومية بعد الإخفاق الذي عانته مع روايتها التقليدية السابقة (الليل والنهار). هذا القبول الحميم للرواية نشط ذهنية فرجينا وولف وخيالها لكتابة رواية جديدة تعزز حضورها الأدبي، فراحت تكتب روايتها (السيدة دالاواي) إلى جانب مشاركتها في إلقاء المحاضرات، وكتابة المراجعات النقدية في ملحق التايمز الثقافي.‏

رواية (السيدة دالاواي) تجسده شخصية سيدة إنكليزية ثرية اسمها (كلاريسا دالاواي) تنشر على الصفحات جزءاً مهماً من سيرتها الشخصية استدعاءً، ثم الحديث عن زواجها من السيد (سبتيمس دالاواي) ، وصداقتها لـــ (سالي ستيونا) وهي شخصية غريبة الأطوار، و علاقتها العاطفية مع عشيقها السابق (بيتر والش) الذي هجرته وهو يحبها حباً عظيماً. والأمر المركزي في الرواية هو أن السيدة دالاواي تحضر لحفلة عشاء كبرى ستحضرها شخصيات سياسية وثقافية واجتماعية عالية المستوى، وهي معدة (الحفلة) على شرف الجندي (سميث) الذي أصيب في أثناء الحرب العالمية الأولى فأفقدته الإصابة عن الحركة... وفي أثناء إقامة الحفلة وحضور كبار الشخصيات المدعوة... لا يحضر الجندي (سميث) لأنه رمى نفسه من نافذة منزله خلاصاً من عطالته الجسدية والفكرية معاً، وبما أن منزل السيدة (دالاواي) مقابل لمنزل الجندي (سميث) فإنها تراه يرمي نفسه من النافذة في أثناء وصول رئيس وزراء بريطانيا إلى بيتها حيث يقام حفل العشاء التكريمي.‏

لاقت هذه الرواية ترحيباً حاراً من النقاد، وقد ساهم في التركيزلها تي.اس.إليوت، وعدد من النقاد، والصحفيين، وأعضاء نادي 1917، وبعض الأصدقاء المقربين من الزوجين فرجينا وليونارد وولف إلى جعل فرجينا وولف تقول:‏

"لم يحدث لي قط أن شعرت بالإعجاب بي إلى هذا الحد".‏

وأودّ أن أشير قبل أن أمضي إلى فكرة أخرى أن تي.اس.إليوت كتب لفرجينا وولف قائلاً، وهو في معرض تعليقه على روايتها (غرفة يعقوب):‏

"لقد حررتِ نفسك من الحلول الوسط بين الرواية التقليدية وبين موهبتك الأصيلة، ويبدو لي أنك أغلقتِ ثغرة ما، كانت قائمة بين أعمالكِ الأخرى وبين النثر التجريبي في مجموعة (الاثنين أو الثلاثاء) فحققتِ بذلك نجاحاً باهراً".‏

ولابدّ لي من أن أضيف أيضاً حول تي.اس.إليوت، أنه كان يتردد على مطبعة (هوغارث) بعد طباعة ديوان شِعر لـه، وبات من الأصدقاء المقربين لفرجينا وولف وزوجها، وقد قرأ مرات عديدة قصائده على الحضور.‏

تقول فرجينا عن تلك القراءات:‏

"لقد غنى القصيدة ورتّلها وجعل لها إيقاعات. وهي ذات جمال عظيم، وذات قوة تعبيرية، وفيها تناظر هندسي وتوتر، لا أدري بالضبط ما الذي يربطها ببعضها. لكنه قرأ وقرأ حتى اضطر إلى أن يتعجل عنوان القصيدة التي قرأها (الأرض اليباب)، وقد قيل لنا إنها سيرة ذاتية للشاعر، فيالها من سيرة سوداوية".‏

بعد تلك اللقاءات بين تي.اس.إليوت وفرجينا وولف، أرادت الأخيرة أن تساعده لكي يتفرغ لشِعره، فقد رأت أنه من الخطأ أن يضطر شاعر مبدع وحاد وذو أصالة في الابتكار إلى قضاء أيامه وهو يعمل في مصرف ما، من أجل لقمة العيش! لذلك سعت جادّة لتحرير إليوت من هذا الاضطرار، وذلك من خلال فكرة إنشاء صندوق باسم: (Eliot Fellow Ship Fune) لجمع ثلاثمائة جنيه استرليني سنوياً لإليوت على مدى خمس سنوات، وقد أُرسلت رسائل للمساهمة في الصندوق إلى جميع الأصدقاء، وقد دعت فرجينا وولف تي.اس.إليوت إلى منزلها لمفاتحته بالأمر. وحين جاء دار الحديث استهلالاً حول رواية جيمس جويس (عوليس) فأثنى إليوت عليها حين طلبت منه فرجينا أن يقول لها ما الذي أراد أن يقولـه جويس في هذه الرواية، فشرح إليوت الرواية، لذلك كتبت في يومياتها تقول: إنها دهشت في تحليل إليوت للرواية، وأنه ترك في نفسها أثراً طيباً عنها. أما عن صندوق التبرعات للشاعر، فقالت:‏

"قال لي إليوت، إنه لن يترك عمله في المصرف إلا إذا تلقى خمسمائة جنيه استرليني سنوياً على الأقل، وأنه يريد ضمانات لا وعوداً. عند هذا الرأي توقف مشروع الصندوق لأن جميع مبلغ خمسمائة جنيه كان أمراً صعباً.‏

ـ 6 ـ‏

ثمّة جانب آخر في السيرة الأدبية لفرجينا وولف يشير إلى دورها النقدي للحياة الثقافية في مجتمعها، فهي عدا من انخراطها في كتابات نقدية (مراجعات) لكتب وتيارات أدبية في ملحق التايمز الثقافي، راحت تكتب في محاضرات طلبتها منها جامعات وأندية أدبية، وقد ضمنت تلك المحاضرات كتابيها (غرفة الكائن الخاصة)، و(الكاتب العمومي) حيث تحدثت عن حرية المرأة ودورها الاجتماعي، وضرورة تحرّرها من الأسِر الاقتصادي والاجتماعي للرجل بأن تملك ما يملك من أمكنة، وتاريخ، وأفكار، وخصوصية. كما كتبت محاضرة حول (الشخصية في الأدب الروائي الحديث).‏

وحول (السيد بنيت (وهو روائي) وشخصية السيدة براون) وهي محاضرة في تلمس الجوانب الجمالية في الكتابة الروائية, وغاية المحاضرة هو حملة منظمة على الكتابات الهشة التي تفرّغ الكائن البشري من أحاسيسه وعواطفه وافكاره حين تحيده نبذاً وتجعل الظروف أقوى وأهم منه بآلاف المرات.‏

تقول فرجينا وولف في تلك المحاضرة علينا أن ننحي جانباً: "الروايات الأنيقة الناعمة, وتلك السير السخيفة ذات النفخة الفارغة, وذلك النقد الهزيل, وتلك القصائد التي تتنغم ببراءة الزهرة والحمل... وكلها للأسف تعتبر, في الوقف الحاضر, أدباً"!‏

فهؤلاء الكتاب, في نظرها, هم العدو الحقيقي للكتابة الحقيقية, وللإبداع الصافي.‏

وحول تلك المقالات والمحاضرات يعلق الروائي الإنكليزي توماس هاردي في رسالة موجهة إلى فرجينا... قائلاً: لقد قرأت كتابك (القارىء العمومي) وشعرت بسرور عظيم إذا أنه يعدّ من الكتب النادرة في أيامنا الراهنة.‏

ــ 7 ــ‏

حين بدأت الحرب العالمية الثانية كان على فرجينا وولف أن تعود إلى الصحافة كتعبير عن موقف وطني, وكدفاع غريزي عنها كإنسانية شجعها الحرب في حالة عوز وشظف وويلات.‏

وإن كان تي. اس. إليوت خمن أنه سيراها في إحدى ساحات لندن تنظم السير, وقد اعتمرت قبعة من الصفيح كالتي يعتمدها الجنود.‏

وراحت أخبار الحرب تتالى, احتلال الألمان بلجيكا وهولندا, وباريس... لهذا كانت فرجينا وولف تتوقع الأسوأ من ذلك, لم تكن مقتنعة بفكرة المقاومة المسلحة ومواجهة القوة الألمانية كما أنها لم تكن مقتنعة بكل الكلام الجميل الذي قيل حول بطولات‏

الجنود الخارقة, كانت في كابوس حقيقي راح يمزقها, ويدمر نفسيتها, وراحت تنظر إلى وجودها في الواقع كأنه وجود مزعج للبشرية كلها وليس لزوجها وأصدقائها فقط. وهكذا عاشت فرجينا وولف طوال شهور عديدة وهي تعاني من صراع نفسي حاد, ومزاج شخصي سيء لا سيما وأنها راحت ترى الطائرات الألمانية تقصف والمدافع الألمانية تدك التحصينات, وراحت المشافي تغص بالجرحى, تقول في إحدى يومياتها واصفة ما يحدث:‏

"نزلت الطائرات قريباً من مستوى الأرض, تمددنا تحت الأشجار, أيدينا خلف رؤوسنا, هزت القنابل نوافذ غرفتي. هل ستسقط الغرفة؟! لم أفكر إلا باللاشيء.‏

صهل حصان في البعيد. الجو وخم جداً, وجاء الصوت, فسألت هل هو الرعد؟! فقال ليونارد لا هذه مدافع وبعد حين ابتعدت الطائرات فأعلنت الصفارة انتهاء الغارة. أسقطت ليلة أمس 144 طائرة"!‏

مثل تلك المعايشة هدّت أعصاب فرجينا وولف خصوصاً وقد صارت لندن هدفاً مباشراً, تقول: "إن الذي أثر بي كثيراً وهزَّ قلبي هزاً في لندن هو مشهد العجائز في النزل وقد علاهن الوسخ بعد الغارة.‏

واهتز قلبي أيضاً وأنا أرى لندن مدمرة وهي المدينة التي يهيم بها فؤادي دون المدن الأخرى".‏

وقد هاجمت فرجينا وولف في تلك الفترة الأدب الذي صدر عن الاشتراكيين, والمثقفين اليساريين فهاجموها بقسوة شديدة, وكان مدار الحوار حول علاقة الأدب بالمجتمع والطبقات, ومما قالته فرجينا:‏

"إن جهلنا بالطبقة الارستقراطية لا يقارن بالجهل بالطبقات العامة, وأنه لمن سوء الحظ أن الحياة مكيفة على نحو يجعل من يحظى بالنجاح الأدبي في صعود في الميزان الاجتماعي لا في هبوط فيه ونادراً ما يعني هذا النجاح تغلغلاً في المجتمع. إن الروائي الصاعد لا يكلف نفسه بالمجيء إلى بيت عامل يدوي ليشاركه في طعامه, وإن كتبه لا تجعله على تماس مع الفقراء, ولا تسهل مراسلة بينه وبين العجوز التي تبيع علب الثقاب قرب بداية المتحف البريطاني".‏

ومما قالوه هم:‏

"إن موضوع فرجينا في كتاباتها هو العالم الصغير لأُناس مثلها, طبقة صغيرة, طبقة متحضرة, طبقة ذات امتيازات موروثة, ودخول خاصة, ومساكن آمنة, وحسيات مصونة, وأذواق مرهفة. إنها لا تعرف خارج هذه الطبقة إلا القليل جداً".‏

هذه الكتابات النقدية الشرسة ضاعفت من إحساسها باللاجدوى, وعبثية الحياة. لذلك حاربت بقسوة (البروليتارية) وأرادت إلغاءها لكن تلغي المجتمع الطبقي. كل هذا ساهم في زيادة تشويش عقل فرجينا وولف فعادت تشعر بالصداع الشديد, وراحت تتردد على الأطباء بكثرة. فرجينا وولف كانت تعرف ما يدور في رأسها, فهي لا تريد الشفاء, وكان يمكنها ذلك لو تعاونت على الأطباء, ما أردته هو الرحيل عن هذه الدنيا, وهي تراها مطاردة بالجحود والحسد من قبل النقاد, والكتّاب والأصدقاء, ومطاردة بالقنابل والخوف والمحق من قبل الحرب التي تتبدى في زي النار التي راحت تلتهم كل ما يعترض طريقها؛ لذلك أرادت توديع الحياة, وأختها, وزوجها ليونارد وولف برسالة أخيرة:‏

"أيها الأعز, أنا واثقة أنني سأجن مرة أخرى, وأشعر أننا لا نستطيع أن نعاني مجدداً شيئاً من تلك الأوقات الفظيعة, إني لن أشفى هذه المرة, بدأت أسمع الأصوات.‏

ولا أستطيع التركيز, لذا فأنا فاعلة ما يبدو لي أنه أفضل شيء أفعله. لقد منحتني أعظم سعادة, وكنت دائماً الشخص الأمثل من جميع الجوانب. لا أظن أن هناك شخصين يمكنهما أن يكونا أسعد منا إلى أن جاء هذا الداء الوبيل, لا أستطيع المقاومة.‏

بعد الآن, أنا أعرف أنني أفسد عليك حياتك, ولكني أعرف أنك ستستطيع أن تعمل بدوني, أعرف أنك ستفعل, ألا ترى أنني لا أستطيع حتى كتابة هذه الرسالة على الوجه اللائق؟! أنا لا أستطيع القراءة, والذي أريد أن أقوله هو أنني مدينة بسعادتي كلها ذلك, كنت صبوراً معي كل الصبر وكنت طيباً على نحو لا يصدق, أريد أن أقول هذا وهو ما يعرفه الجميع, لو كان هناك أحد ينقذني فهو أنت, لقد زايلني كل شيء إلا الثقة بطيبتك, لا أستطيع الاستمرار في إفساد حياتك بعد الآن.‏

لا أظن أن هناك شخصيتين يمكنهما أن يكونا أسعد مما كنا".‏

هذه الرسالة الأخيرة التي كتبتها فرجينا وولف لزوجها ليونارد, وضعتها على رف الموقد في غرفة الجلوس صباحاً, ثم خرجت تتوكأ على عصاها, واتخذت طريقها عبر الحقول نحو نهر (أوز), تركت عصاها على ضفة النهر, وملأت جيوب معطفها بالحجارة, ثم دسَّت نفسها في النهر كأنها تدس جسدها في الفراش... حتى انغمر رأسها تماماً.‏


[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
د.حسن حميد غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 17 / 09 / 2009, 31 : 01 AM   رقم المشاركة : [2]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: فرجينا وولف

رائع أن أقرأ سيرة فيرجينيا وولف بهذا السرد الشيق المتقن.كتبت أخي الكريم فأتقنت التنقل بين فصول حياة الكاتبة وشخصيتها وأهم معالمها.
يمكن التساؤل في النهاية مجددا عن علاقة الجنون والمشاكل النفسية بالعبقرية والإبداع كما يمكن أن نتوقف أمام :
تقول فرجينا وولف في تلك المحاضرة علينا أن ننحي جانباً: "الروايات الأنيقة الناعمة, وتلك السير السخيفة ذات النفخة الفارغة, وذلك النقد الهزيل, وتلك القصائد التي تتنغم ببراءة الزهرة والحمل... وكلها للأسف تعتبر, في الوقف الحاضر, أدباً"!‏
وأمام مقولتها:"عيون الآخرين سجوننا و أفكارهم أقفاصنا"
لنستنتج مجددا أنها أحبت الأدب وكانت غيورة عليه وفيه كات تحس حتما تحررا من السجون و الأقفاص.
تحياتي و تقديري لك أستاذي الكريم
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
فرجينا وولف‏


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 36 : 10 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|