[خيري حمدان]

يبدو القاضي يجلس على المنصّة أمام الحضور، وعلى الصفّ الأول من المقاعد يجلس محامي الدفاع (سارة بروكمان) وفي الجانب الآخر وكيل المحكمة وعدد من الحقوقيين والصحفيين، وفي الجزء الخلفي من الصالة نشاهد مجموعة من الكاميرات، الصالة مليئة بالحضور، وهناك العديد من النساء اللواتي يضعن على رؤؤسهن مناديل سودا وقد بان الحزن والحداد على تقاطيع وجوههنّ.

القاضي: أنت الآن بين يدي العدالة، ربّما شاءت الظروف أن تقع أسيراً لدينا في هذا التوقيت من الألفية التالية، في الوقت الذي تمكنت جيوش دولتك من هزيمة إرادة أمّة بأكملها. حين اعتقلناك، كان في حوزتك الكثير من الأسلحة، ويداك ملوّثة بدماء الفلسطينيين، وهذه جريمة "مسبوقة" من جيوشكم عبر التاريخ المعاصر والبعيد. لهذا قررنا إجراء هذه المحاكمة، حتى تنال العقوبة التي تستحقّ، أنت لست أسير حرب بالطبع، لأنّك تعرضت للكثير من المدنيين، وأطلقت الرصاص على الأطفال والنساء العزّل. نريد أن نفهم الأسباب والمنطق الذي جعلتك أنت وأبناء جلدتك من الشروع بالقتل بهذه السهولة. فلتبدأ المحكمة أعمالها.

ديفيد: إذا أردتم محكمة عادلة كما تدّعون، فلا بدّ من توظيف محامي قادر على فهم مشاعري ومنطقي ودوافعي، وهذا يعني بأنّ المحامي يجب أن يكون يهوديا أولاً، وإسرائيلياً ثانيّاً. هل أنتم قادرون على تأمين هذه الشروط.

القاضي: في الوقت الذي لم تراعِ محاكمكم مشاعر السجناء الفلسطينيين، والذين يعدّون بالآلاف، قمنا نحن بدورنا لتأمين محامي دفاع تنطبق عليه كافّة الشروط التي ذكرتها. سارة بروكمان ناشطة حقوقية ومحامية شهيرة، وستقوم السيدة بالدفاع عن حقوقك، وجميع أتعابها مدفوعة، أؤكد لك بأنّ هذه المحاكمة ستكون عادلة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى.

سارة بروكمان: هل هذه محاكمة عسكرية؟

القاضي: لو كانت محاكمة عسكرية لما كنتِ هنا، هذه محاكمة طارئة، يشارك فيها ممثلون عن كافّة طبقات الشعب الفلسطيني، يوجد بيننا كتّاب ومثقّفون وعمّال ومواطنون عاديّون.

سارة بروكمان: سؤال آخر يا فضيلة القاضي، قبل البدء بهذه المحاكمة أريد أن أعرف إذا ما كانت خاضعة لتعاليم الإسلام، أم أنّها محاكمة مدنية.

القاضي: بل مدنية وإنسانية، وإذا كنتم تخشون الموت لهذه الدرجة، فاعلموا بأنّ عقوبة الإعدام معلّقة، بالرغم من أنّ الموت رحيم في كثير من الأحوال. على أيّة حال، دعونا بداية نقدّم المتّهم الرئيسي في هذه الجلسة.وأترك المجال للسيدة سارة القيام بذلك.

ديفيد: لا .. أرغب بتقديم نفسي شخصيّاً، ليس لدي ما أخجل منه على الإطلاق. اسمي ديفيد سرسرين، ورتبتي عريف في جيش الدفاع الإسرائيلي.

وكيل المحكمة (يضرب على الطاولة أمامه): أعترض على هذه التسمية يا فضيلة القاضي، كيف يمكن تسمية هذا الزمرة من القتلة بجيش الدفاع؟ إنّهم يقومون يوميّاً بقتل الأبرياء من المواطنين، وقصف المنشآت المدنية، وهدم المباني وخطف المواطنين، هذا جيش منذ تأسيسه هجوميّ، وآخر ما يمكن تسميته "جيش الدفاع."

سارة بروكمان (بهدوء): فضيلة القاضي، هذه التسمية معتمدة لدى الكنيست وفي بيان استقلال دولة إسرائيل ..

وكيل المحكمة (غاضباً): هذه مغالطة جديدة، الاستقلال عن ماذا، هل كنتم قبل هذا البيان تقعون تحت الاحتلال الفلسطيني، حتى تسمّون عملية الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ومقدّراته ومستقبل أبناءه، بل وسرقة تاريخه "استقلال؟!"

القاضي (باسماً): أحاول حتى اللحظة أن أحافظ على هدوئي، متى ستبدءون هذه المهزلة؟

سارة بروكمان: كما ترى يا فضيلة القاضي، وكيلكم لا يترك الفرصة لإتمام جملة مفيدة، منذ بداية هذه المحاكمة والتي أجد بأنّها غير عادلة على الإطلاق. إذا كنتم ترغبون بتحويلها لمحاكمة تاريخية فأنا أعلن انسحابي منذ هذه اللحظة. هناك تهم موجّهة لموكّلي ديفيد، وأريد العمل في هذا السياق فقط.

القاضي (نحو وكيل المحكمة): وهذه رغبة المحكمة يا وكيل، هل هذا واضح؟

وكيل المحكمة: فضيلة القاضي، حضرات السادة، السيدة سارة بروكمان، جميع القضايا التي اعترضت عليها مرتبطة عضويا بهذه المحاكمة، لا يمكن فصل التاريخ عن هذا الصراع، وإلا فستكون هذه المحاكمة بمثابة البحث عن إبرة في كومٍ من القش. إذا افترضنا بأنّ هذا الجيش المجرم..

القاضي (يضرب بمطرقته الصغيرة على الطاولة): ابتعد عن التوصيف يا وكيل وإلا سأكون مضطراً لطردك من حرم المحكمة.

وكيل المحكمة: حسناً، سألتزم بعرف المحكمة يا فضيلة القاضي، إذا افترضنا بأنّ مهام هذا الجيش تتمثل فقط بالدفاع عن هذه الدولة .. (يتمكن من ضبط أعصابه ويمتنع عن توصيف الدولة وشتمها في اللحظة الأخيرة)، إذن فديفيد على حقّ في كلّ ما قام وما سيقوم به! لذا، يجب توضيح هذه النقطة قبل المضيّ قدُماً بهذه المحاكمة.

القاضي: المحكمة ترى بأنّ على محامي الدفاع توضيح هذه النقطة حتى نتمكن من المضي بهذه المحاكمة إلى نهايتها، أم أنّكم ترغبون البقاء في هذه الصالة إلى الأبد؟ هل ستستخدمين مصطلحات كجيش الدفاع وبيان الاستقلال وما شابه ذلك خلال هذه الجلسة؟

سارة بروكمان: فضيلة القاضي، كثيراً ما كنت أدافع عن العديد من الفلسطينيين إثر قيامهم أو محاولتهم للقيام بعمليات إرهابية..

وكيل المحكمة (غاضباً): نقطة نظام يا فضيلة القاضي، أنا لا أسمح باستخدام توصيف المناضلين الفلسطينيين ضدّ الاحتلال بالإرهابيين. يجب ألا ننسى بأنّ الأمم المتّحدة شرّعت الدفاع عن الأراضي المحتلة وبكافة الوسائل الممكنة، بما في ذلك استخدام السلاح، لهذا يجب أن يتراجع محامي الدفاع عن هذه التوصيفات..

القاضي (نحو سارة بروكمان ووكيل المحكمة): اقتربوا منّي لو سمحتم. (بعد أن أصبح كلاهما بجانبه) أريد أن تعلموا جيّداً بأنّ لديّ الدهر كلّه. أستطيع أن أنتظر إلى الغدّ وما بعد الغدّ، أتمنى أن تجدوا طريقة للتواصل حتى تستمر المحكمة أعمالها.

وكيل المحكمة: ولكن هذه القضايا مصيرية يا فضيلة القاضي، ولا أدري إذا كان من الممكن أن نجد لغة مشتركة مع محامي الدفاع، هناك مغالطة تاريخية في كلّ كلمة يتفوّه بها محامي الدفاع.

سارة بروكمان: أنا أتحدث بهذه اللغة يوميّاً وفي كافة ممارساتي المهنية، أنا لا أستطيع أن ألغي قاموسي مرّة واحدة. العالم كلّه يعتبر العمليات الانتحارية إرهابية حتى وفي الأوساط العربية يا فضيلة القاضي، وإذا اتفقنا على استخدام قاموس معيّن من المصطلحات خلال هذه المحاكمة، فهذا لن يغيّر شيئاً من سير المحاكمة، لأنّ موكّلي باختصار بريء من كافة التهم الموجّهة له، فهي مجرّد عريف في الجيش الإسرائيلي، هل أنتَ راضي الآن (موجّهة حديثه لوكيل المحكمة) استخدمت الجيش الإسرائيلي بدلاً من جيش الدفاع الإسرائيلي.

القاضي: مكانكم لو سمحتم

صحفيّ مستقلّ: نرجو أن نشهد محاكمة عادلة اليوم؟

القاضي: ومن سمح لك بالتحدّث، إذا قاطعت عملنا ثانية فسوف تٌطْرَدْ من صالة المحكمة، هل هذا واضح؟ محامي الدفاع، أكملي مرافعتك لو سمحتِ.

سارة بروكمان: أنا أطالب بإصدار قرار بتبرئة موكّلي ديفيد، لأنّه كان يؤدي واجبه الوطني، وينفّذ تعليمات القيادة العسكرية.

وكيل المحكمة: فضيلة القاضي، تقدّمنا كذلك بطلب لمحاكمة العديد من القادة العسكريين الإسرائيليين، ومن الممكن أن يتحقّق ذلك في هاغا أو لدى ربّ العالمين، هذه قضية لا تهمّنا الآن، لأنّ المتّهم الرئيسي واسمه ديفيد سرسرين يمثل بين يدينا ويعترف جهاراً بجميع التهم الموجّهة له بل حتى يفخر بذلك! يتبع