عرس القبطان
ولد القبطان ( وهو تحوير لإسم رمضان ) أواخر الأربعينيات من القرن الماضي و قد أصيب في صغره بتلين العظام ما جعل هيئة ساقيه وركبتيه على شكل مخروط ، وبالإضافة إلى قصر قامته فقد أصيب إصابة حادة بالثعلبة أتت على كامل شعر رأسه ما أجبره على لبس العمامة منذ الصغر على غير عادة أقرانه في القرية .
عرف القبطان بالدعابة والنكتة وخفة الروح وما تكلم في مجلس إلا وشد السامعون على بطونهم من شدة الضحك .
شب القبطان وبدأ كبقية أقرانه يبحث عن رفيقة دربه غير أن كل فتيات القرية
رفضنه وأبين الزواج منه ومنهن من فضلت العنوسة مدى الحياة على الإقتران به ، و مما دأب عليه في هذا الأمر أنه كان ينظم قصيدة عقب كل مغامرة خطوبة فاشلة يفرج بها كربته ويواسي بها نفسه ويهجو فيها الفتاة التي رفضته بكلمات لا يفهمها أحد سواه. ولما كان الحال هكذا عمد إلى توسيع مجال البحث في القرى والمداشر المجاورة ، وما لبث كثيرا حتى تناهى إلى سمع أمه أن فتاة جميلة في مقتبل العمر لم يطلبها أحد تقطن بقرية
أبعد لم تكن مدرجة ضمن دائرة البحث المعدة سلفا .
قررت الأم طلب يد هذه الفتاة لأبنها ، غير أن هاجس الرفض كما في الجولات السابقة ظل يراودها و يشغل بالها وبال ولدها وبقية أفراد العائلة ، فعمدوا إلى حيلة تتمثل في تقديم الأم لعائلة الفتاة عند الطلب صورة إبنها الأكبر ( عيد ) ذي الشكل المقبول رغم قصر قامته هو أيضا ، أما القبطان فيبقى حيث هو .
و " عيد " هذا معروف بالدهاء والمكر والهدوء وبالصوت المنخفض فهو لا يصارع خصمه بالشجار والصراخ و إنما بالمهادنة والمراوغة إلى أن يجد هذا الخصم نفسه قد خسر المعركة ودفع الثمن ، ومن أشهر قصصه في هذا المجال تصرفه مع عروسه ليلة زفافه وكانت ليلة باردة ، إذ لما دخل عليها وهي لم تكن ترتدي كعادة العرائس ليلة الدخلة إلا ما يسمى بـ" قميص العروس ليلة الزفاف " ، ودنا منها تمنعت وتكورت كحبة الكرنب ، فأبتعد عنها قليلا وتغطى بالبرنوس ولم تكد تمر ساعة واحدة حتى سمع عروسه تناديه وهي تبكي : هاااء...هاااء ...هل تريد أن يقتلني البرد ؟...... ".
وفقت الأم هذه المرة وعادت إلى بيتها فبشرت إبنها القبطان الذي أنطلق إلى الخارج وهو في غاية الفرح والسرور ليخبر اصدقاءه وليغيظ ويتحدى الفتيات الائي رفضنه وأبين الزواج به بشعر هذه المرة مفهوم وواضح لكنه
لايستند إلى قاعدة من قواعد ه المعروفة : ومما جاء في قصيدته المشهورة تلك :
جبتها من بعيد ما شي من هنا
شعرها طويل مدلي على الركبة
وعينيها عينين غزال ورجليها
ما شي مشققين .
بقاي أنت في دار أمك
بقاي يامولات لخنونة
بقاي بعينيك معمشين .
وما لم يكن يحسب له القبطان وعائلته أي حساب هو أن عائلة العروس ستفاجئه بحيلة
كمثل حيلته أو أكثر فالعروس المعنية بالزواج لم تكن هي التي قدمت لأمه إنما هي فتاة أخرى على ظهرها حدبة ، كبيرة الصدر ولا رقبة لها ، أما تلك التي قدمت فهي أختها المتزوجة منذ أشهر من شاب يقطن بالمدينة الكبيرة .
وفي ليلة الزفاف ( الدخلة ) إلتقى لأول مرة القبطان بعروسه بل تفاجأ بها وتفاجأت هي به ، وعلا الصراخ داخل غرفة العرس التي ضاقت بما رحبت ولم تعد تكفي كميدان لمعركة حامية الوطيس ، فخرجا إلى الفناء المضاء بنور القمر وأستوفت المفاجأة كامل عناصرها لما سقطت العمامة وظهر رأس القبطان كدائرة مشعة كأنها إشارة مرور عاكسة لضوء السيارات في العتمة ، وندب كل منهما حظه لكنه وقف دونه في آخر المطاف وأقتنع بقسمته ورضي بها
. هذا في الداخل أما في الخارج فقد وجد المراهقون الصغار والكبار في عرس القبطان فرجة مجانية وفرصة للإبحار في الخيال والحلم السعيدين اللذين يعتبران عملة نادرة أو مفقودة في تلك القرية النائية البائسة ، فحجز كل واحد منهم لنفسه مكانا خلف جدار منزل الزفاف ليعيش فصلا من فصول مسرحية على خشبة الواقع قبل فوات الأوان وإسدال الستار .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|