زورا وصمنا نهايات العصر العباسي بالانحطاط ، وقلنا إن أهل الأدب اهتموا بالشكل الخارجي للكلام ، أي بالمحسنات البديعية !
وهذا إجحاف كبير بحق ذلك العصر !
فالاهتمام بشكل الكلام ترف أنيق ، وعادة ، وطابع شخصي ، في أحايين كثيرة . بل كثيرا ما يكون صفة ونسج الكاتب ، يتوحد معه ، ويصير جزءا منه .
قال ابن شرف القيرواني :
يا ثاويا في معشرٍ قد اصطلى بنارهم
فما بقيت جارهم ففي هواهم جارهم
وأرضهم في أرضهم ودارهم في دارهم
وقال الشمس الخجندي إمام المسجد النبوي الشريف :
حسبي جوار محمد وكفى به دفعا لما ألقاه من أوصابي
لم أخش ضيما في حماه ولا أذى أنَى وجبرائيل قد أوصى بي
فالتجنيس ، وكل المحسنات البديعية ، يستحسن إذا كان سهلا لا أثر للكلفة عليه . وأما إن خرج عن هذا الحد فإنه معيب عند أهل النقد ، ويذهب بهجة الشعر وحسنه ، وهذا وقع في أكثر شعر المتأخرين ( عبد الرحيم بن أحمد العباسي ت : 963 هجرية / 1556 م من كتابه : معاهد التنصيص 3 / 241 ) ، ومن هذا الباب أيضا قول عبد الملك بن محمد أبي منصور الثعالبي 350 هجرية _ 429 هجرية ):
فإذا البلابل أفصحت بلغاتها فانفي البلابل كاحتساء البلابل
البلابل الأول : جمع بلبل ، وهو الطائر الغرد المعروف . والبلابل الثاني : جمع بلبال ، وهو الهم وهواجس القلب والخواطر . والبلبال الثالث : جمع بلبلة ، وهي في الأصل قناة الكوز التي يصب منها الماء ، وأراد منها الخمر، من باب إطلاق اسم المحل على الحال .
وهذا الإغراق ، أدى إلى تناسي روائع الموسوعات الأدبية والفكرية واللغوية والفلسفية والتاريخية . وتعميم (الخاص) على (الكل ) ، فطويت الروائع الفكرية في هذا الطوفان المجحف .