[د. منذر أبوشعر]

[align=justify] يعد الصحابي حسان بن ثابت الأنصاري شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. قال المبرد (محمد بن يزيد، ت: 286 هـ): أعرق قوم في الشعراء آل حسان، فإنهم يعدون ستةً في نسق كلهم شاعر وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام (الكامل 1 / 342، وانظر: الأغاني 4 / 134 ) .
ومما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية اتهامه بالجبن، خاصة في غزوة الأحزاب / الخندق سنة 5 هـ ، مع أن هذه القصة لم تثبت من طرق صحيحة، ولا تصح سنداً ولا متناً.
1 قال ابن إسحاق (محمد بن إسحاق المطلبي، ت: 151 هـ): حدثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كانت صفية بنت عبد المطلب (ت: 20 هـ عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام) في فارع، حصن حسان بن ثابت، قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصبيان، فمرّ بنا رجل من يهود، فجعل يُطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ.

قالت: فقلت: يا حسان، إن هذا اليهودي، كما ترى يُطيف بالحصن، وأني والله ما آمنة أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لكِ يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فلمَّا قال لي ذلك، ولم أَرَ عنده شيئاً، احتجزتُ ثم أخذتُ عموداً، ثم نزلتُ من الحصن إليه، فضربتهُ بالعمود حتى قتلته. قالت: فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلاَّ أنه رجل، قال: مالي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب ( الروض الأنف 6 / 276)
ويحيى بن عبّاد وأبوه ثقتان، لكن الأب تابعي، فالخبر مرسل، فهو ضعيف. ورواه ابن سعد (محمد بن سعد البغدادي، ت: 230 هـ) مختصراً، والحاكم (محمد بن عبد الله النيسابوري، ت: 405 هـ) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن صفية بنت عبد المطلب. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي (محمد بن أحمد، ت: 748 هـ) فقال: عروة لم يدرك صفية ( طبقات ابن سعد 8 / 41، المستدرك 4 / 56). ورواه الحاكم من طريق آخر عن إسحاق بن إبراهيم الفروي، قال: حدثتنا أم فروة بنت جعفر بن الزبير، عن أبيها، عن جدّها الزبير، عن أمّه صفية بنت عبد المطلب . وقال: غريب الإسناد، ووافقه الذهبي ( المستدرك 4 / 56).
وأم فروة، الصواب في اسمها: أم عروة بنت جعفر، وهي لا تُعرف، وأبوها جعفر ذكره ابن أبي حاتم (عبد الرحمن بن محمد الرازي، ت: 327 هـ) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً ( الجرح والتعديل 2 / 478، وانظر: سير أعلام النبلاء 2 / 522).
وذكر الهيثمي (علي بن أبي بكر، ت: 807 هـ) القصة وقال عن حديث الزبير: رواه البزار (أحمد بن عمرو، ت: 292 هـ) وأبو يعلى (أحمد بن علي الموصلي، ت: 307 هـ) باختصار، وإسنادهما ضعيف. وقال عن حديث عروة: رواه الطبراني (سليمان بن أحمد، ت: 360 هـ) ورجاله إلى عروة رجال الصحيح، لكنه مرسل ( مجمع الزوائد 6 / 134، وانظر: كشف الأستار عن زوائد البزار 2 / 333 - 334 وفي إسناده: عبد الله بن شبيب، وهو ساقط ، يقلب الأخبار ويسرقها، وقال عنه فضلك الرازي (الفضل بن العباس، ت: 270 هـ): يحل ضرب عنقه. وانظر: مسند أبي يعلى الموصلي 683، والمعجم الكبير للطبراني 24 / 321 - 322 / 809 وذكر الطبراني أن الخبر كان في غزوة أحد، وانظر: معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني 7493 وشك في كون هذه الحادثة أكانت في غزوة أحد أم غزوة الخندق، وانظر: تاريخ دمشق 12 / 429 ، 430 وهذه الأسانيد مدارها على إسحاق بن محمد الفروي، وهو صدوق، لكنه كُفَّ فساء حفظه. وقد اضطرب في الإسناد، فتارة يرويه موصولاً، وتارة يرويه منقطعاً بإسقاط الزبير. كما اضطرب في المتن، فتارة يذكر أنَّ الحادثة كانت في غزوة أحد، وتارة يذكر أنّها كانت في غزوة الخندق، وتارة يروي ذلك على الشك.
وفي الإسناد جهالة جعفر بن الزبير، وأم عروة، فلا يصلح في الشواهد والمتابعات.
وفي إسناد تاريخ دمشق (12/432)، وتَهذيب الكمال ( 2 / 98) انقطاع بين مصعب بن ثابت وبين عبد الله بن الزبير).
وأخرج الواقدي (محمد بن عمر، ت: 207 هـ) في "المغازي" (2/264-265)، قال: وحدثني شيخ من قريش قال: كان حسان بن ثابت رجلاً جباناً، فذكر الحديث مختصراً.
وفي الإسناد جهالة الشيخ القرشي، وكذب الواقدي. قال النسائي: الكذابون المعروفون بالكذب عن رسول الله أربعة: الواقدي بالمدينة (تهذيب التهذيب 3 / 572 ). وعزاه ابن حجر (أحمد بن علي العسقلاني، ت: 852 هـ) إلى الإِمام أحمد (بن حنبل الشيباني، ت: 241 هـ) عن عبد الله بن الزبير (ت: 73 هـ)، وقال: إسناده قوي ( فتح الباري 6 / 134)، وليس في (المسند) في مظنّته من ترتيب الشيخ الساعاتي (أحمد عبد الرحمن البنا، ت: 1387 هـ / 1958 م والد الإمام حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمون) باب ما جاء في غزوة الخندق أو الأحزاب ( الفتح الرباني 21 / 76) ولا في باب فرض خمس الغنيمة ( الفتح الرباني 14 / 74)
وقال ابن عبد البر (يوسف بن عبد الله النمري، ت: 463 هـ) في ترجمة حسان: قال أكثر أهل الأخبار والسير إن حسان كان من أجبن الناس، وذكروا من جُبنه أشياء مستبشعة رووها عن الزبير (بن بكار القرشي، ت: 256 هـ صاحب كتاب جمهرة نسب قريش) أنه حكاها عنها، كَرهتُ ذكرها لنكارتها، ومَنْ ذكرها قال: إن حسان لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من مشاهده لجبنه ( في الأصل: لحيته وهو تصحيف)، وأنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك وقالوا: لو كان حقًا لهجي به، فإنه قد هجا قومًا فلم يهجه أحد منهم بالجبن، ولو كان كذلك لهجي به ( الاستيعاب في أسماء الأصحاب بهامش الإصابة 1 / 340)
وقال السهيلي (عبد الرحمن بن عبد الله، ت: 581 هـ): محمل هذا الحديث عند الناس على أن حساناًّ كان جباناً شديد الجبن، وقد دفع هذا بعض العلماء وأنكره، وذلك أنه حديث منقطع الإسناد، وقال: لو صح هذا لهجي به حسان، فإنه كان يُهاجي الشعراء، كضرار (بن الخطاب الفهري، ت: 13 هـ)، وابن الزِّبعْرى (عبد الله بن الزبعرى القرشي، ت: 15 هـ)، وغيرهما، كانوا يناقضونه ويرودُّن عليه، فما عيّره أحد منهم بجبن، ولا وَسَمَه به، فدل هذا على ضعف حديث ابن إسحاق، وإنْ صحّ فلعل حسان أن يكون معتلاًًّ في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، وهذا أولى ما تُؤوِّل عليه، وممن أنكر أن يكون هذا صحيحاً أبو عمر (ابن عبد البر يوسف بن عبد الله النمري، ت: 463 هـ) في كتاب الدرر ( الروض الأنف 6 / 324).

فالقصة لم تروَ بسند صحيح متصل، ولو عُرف الجبن من حسان لهجاه شعراء المشركين، كما لم يذكر الرواة تخلفه عن شيء من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ملاحظة أنه لم يكن في غزوة الخندق قتال مباشر بين الطرفين، ولم يكن بينهما إلا المراماة، ومنها أصيب سعد بن معاذ (الأنصاري، ت: 5 هـ سيد الأوس) فلا تخلف في مثل هذا الموطن. قال المبرد (محمد بن يزيد، ت: 286 هـ): وحُدِّثْتُ أنَّ الأصمعي (عبد الملك بن قُريب، ت: 215 هـ) قال: الدليلُ على أنَّ حَسَّاناً لم يكن جباناً من الأصل أنّه كان يُهاجي خَلْقاً فلم يعيره أحدٌ منهم ( الفاضل 13 ).
وملاحظة ثانية: أنََّ حسان بن ثابت كان له من العمر في غزوة الخندق ما بين إحدى وسبعين إلى خمسٍ وثمانين سنة (وهذا مبني على الخلاف في سنة وفاته وعمره عند الوفاة)، قال ابن حجر (أحمد بن علي العسقلاني، ت: 852 هـ): مات حسان قبل الأربعين في قول خليفة (بن خياط الشيباني العصفري، ت: 240 هـ)، وقيل سنة أربعين، وقيل خمسين، وقيل: أربع وخمسين وهو قول ابن هشام (عبد الملك بن هشام الحميري، ت: 218 هـ)، والجمهور على أنه عاش مائة وعشرين سنة، وقيل مائة وأربع سنين (الإصابة 1 / 325)، وهي سنّ يُعذر صاحبها عن التخلف عن مثل هذه المحافل.

2 وأخرج ابنُ عساكر (علي بن الحسين، ت: 571 هـ) من طريق الزبير بن بكار، حدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، أنه سمع [أنَّ] حسان أنشد رسول الله:
لَـقَدْ غَدَوْتُ أَمَامَ الْقَوْمِ مُنْتَطِقاً بِصَـارِمٍ مِثْلَ لَـوْنِ الْمِلْحِ قَطَّـاعِ
تَحْفِزُ عَنِّي نِجَادَ السَّيْفِ سَابِغَةٌ تغشى الأَنَامِلِ مِثْلُ لَوْنِ النَّهْيِ بِالْقَاعِ
قال: فضحك رسولُ الله ، فظن أنه يضحك من ضعفه وجبنه (تاريخ دمشق 12 / 413 ).
والإسنادٌ ضعيفٌ جداً فعبد الله بن مصعب الزبيري (114 هـ - 184 هـ) ثقة جليل، تكلموا فيه دون دليل، لكن بينه وبين الحادثة مفاوز.
وعلي بن صالح، هو المدني، مستور (تقريب التهذيب 4752، ط . دار ابن رجب).
فتناقل هذه القصة الكذابون والمجاهيل فأضافوا وغَيَّروا فيها، ليثبتوا هذه التهمة لهذا الصحابي الجليل. قال هشام بن محمد الكلبي (ت: 204 هـ): حسان بن ثابت كان لسناً شجاعاً، فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال ولا شهده ( تاريخ دمشق 12/433).
وقال ابن سعد (محمد بن سعد البغدادي، ت: 230 هـ): ولم يشهد مع النبي مشهداً، وكان يجبن ( الطبقات الكبرى 4 /322).
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري (ت: 236 هـ): وقد كان حسان يجبن في آخر عمره (تاريخ دمشق 12/429).
وقال ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم الدينوري، ت: 276 هـ): لم يشهد مع النبي مشهداً، لأنه كان جبانا( الشعر والشعراء 1 /305).

وجميع هذا كلامٌ ساقطٌ، وافتراء على هذا الصحابي، لا يوجد عليه دليل صحيح.

** ** **

[/align]

[محمد الصالح الجزائري]

أديبنا الكبير الأستاذ القدير منذر..اشتقنا كثيرا إلى مثل هذه الصفحات..شكرا لك ..

[رشيد الميموني]

بارك الله فيك أخي منذر .
ما أطللت مرة على المنتدى إلا وحملت في جعبتك كل ما هو مفيد وممتع .
محبتي لك

[د. منذر أبوشعر]

[align=justify]الشاعر الحر أخي الأديب محمد الصالح الجزائري صوت الجزائر:
أمير أناقة الحرف الجميل، أخي الأديب رشيد الميموني:
طيب جمال زيارتكما لي، تُكسبني جناحين من نور، فأحلق بهما أكثر وأكثر إلى فضاءات صدق المودة، أقطف نجوم الامتنان وأضعها طوقاً على هامتكما. والشكر، كل الشكر لكما، ونبقى مع مواضيع تمشي في رحب كل اتجاه.
[/align][align=justify][/align][align=justify][/align]