الغموض وإشكالية التأويل ..
إن إشكالية الغموض في الشعر إشكالية قديمة ، يثيرها الناقد المهتم والقارئ النموذجي مع كل قراءة يصعب معها فهم وتلقي معاني القصيدة المعاصرة ، وفك شفرات لغتها الترميزية ، على اعتبار أن لغة الشعر هي لغة الإشارة والغموض ، لغة الخلق والابتكار لا لغة الإيضاح والتعبير المباشر .
لقد أضحى الغموض مقوما من مقومات القصيدة المعاصرة ،يرتكز عليه الشاعر في استثارة خيال القارئ ، ودفعه إلى القراءة تلو الأخرى ، لإخراج مكنون القول وجميل المعنى ، وإعطاء القصيدة ديمومة واستمرارية ، حتى تبقى راسخة في ذهن القارئ ..وقد تزينت بأجمل رداء يكتسى به القول الشعري .. هو رداء الغموض وإشكالية التأويل..
لكن كيف تكتسب القصيدة غموضها،ولماذا الغموض في القصيدة المعاصرة ..؟؟؟
تنحو القصيدة المعاصرة منحى التكثيف ، وتحفل بالانزياح واختلال العلاقة الإسنادية بين الدال والمدلول، مما يخلق حالة القلق في تحديد العلاقة الدلالية، وتوترا في توجيه النص وتأويله لإدراك سر المعنى ، وجمالية التنسيق بين التعابير الشعرية،
هو توتر يخلق نوعا من الدهشة مع مزيد من الغموض حين تختلف دلالة الكلمة وتنتقل من المعنى الأصلي إلى معنى ثان وجديد ، وحين تحفل القصيدة بالصور الشعرية فترتدي شكلا وتخلع آخر، ، و حين تتكاثف الرموز "الشعرية" والأساطير وتحتشد في النص الواحد ،مما يجعل المتلقي في بعض الأحيان عاجزا عن استدعاء إطارها ومتعلقاتها وظلالها ، حائرا في تفريغها من دلالتها الأصلية المستقرة في الذهن ، وتحميلها دلالات أخرى جديدة ، وبالتالي يصبح الانحراف عن تلك الدلالات انحرافا بالتأويل عن المقاصد المنشودة والرؤى المبتغاة..
يزداد الغموض أكثر وتزداد الاحتمالات القرائية المتعددة حين يكون الضمير مبهما بلامرجع ، فيتيه القارئ بين تقديم وتأخير دون مراعاة القرينة الدالة مع إهمال حروف العطف ، لتزداد إشكالية التأويل و تفسير المعنى ،وتزداد المفاجآت ..مادامت "لغة الشعر المعاصر لغة عصيان .. على كل ما هو مألوف .. ومعرف .. ومكرس " على حسب تعبير نزار قباني
هكذا هو الغموض في الشعر المعاصر ،غموض يزيد النص إيحاء ودلالة وتوترا وانسجاما .. حين يتفتق المعنى الأول تلو الآخر فتتضح الرؤى المتعددة، والمعاني الخفية ، الدلالات الغرائبية والانزياحات المحملة بالجوانب الجمالية.
هو غموض شعري فني مستساغ ومطلب جمالي في القصيدة المعاصرة مادام يورط المتلقي في كشف المعنى وإزاحة رداء المعنى الظاهري المغلف بالعتمة للوصول إلى المعنى الباطني الجميل الخفي ..
****************************************
1- نزار قباني : ماهو الشعر ، منشورات نزار قباني ، بيروت لبنان ، ط3-2000- ص43