شبح الجنون ..8
صور من الذاكرة
الصورة الثالثة
عصفورتي .. صباح الورد يا عصفورتي .. أم بت تكرهين الورد الذي جرّ عليك قصة مؤلمة ؟
صباحك شهد وياسمين يا شبحي ..لا لم أكره الورد ..أنا اقتنعت بكلامك .. كل شيء بهذه الدنيا نصيب ..حتى تواجدك معي طوال تلك الفترات بهذا الصمت الرهيب أيضا ً نصيب .. أليس كذلك ؟
عصفورتي .. أنت لن تغفرين لي صمتي وأنا الذي أخاف عليك من نسمة الهواء العليل .. أخبرتك أنني كنت لا أريد أن أقتل الطفولة في أعماقك ..كنت أريد أن تعيشي سني ّعمرك نبضة نبضة ..لم أرغب باستعجال الزمان وإقحامك في أجواء أكبر منك ..لكنك الآن تلقين باللوم علي ّ..
لا تغضب يا شبحي أنا أحيانا ً تنتابني موجة من الغضب لصمتك طوال هذه الفترة ولكني ما ألبث أن أنتحل لك العذر .. ألست أبرع من انتحل الأعذار لكل من غرس سكينه في قلبي .. ألست أنا التي أغفر وأسامح بلا حدود فلماذا لا أغفر لك وأسامحك ؟
عصفورتي .. ما رأيك أن نتوقف عن تصفح ألبوم الصور ؟ أشعر أنك أصبحت كئيبة وحزينة وأنا أخبرتك أن مدينة العقلاء لم تعد مدينتك وأهل مدينة العقلاء ليسوا أهلا ً لإقامة عصفورة طيبة مثلك بينهم ..دعينا نرحل الآن إلى عالمي الجميل وأعدك بأن تجدي هناك حياة لا تشبهها حياة .
ولكني ما زلت متألمة من صورة ما لا تبرح فكري ولا تزال تقض مضجعي .
إذا تفضلي بالحديث ولكن في المرة القادمة أنا من سيغلق البوم الصور ..بل سألقيه في المحيط .. هذا الألبوم سيبقى نقطة ألم في قلبك الطاهر العفيف .. ولابد من استئصالها .
صدقت يا شبحي بعد أن أحدثك عن هذه الصورة التي مزقت قلبي سألقي أنا وأنت بألبوم الصور إلى الجحيم وليس فقط إلى المحيط .
هات ما عندك يا عصفورتي وكلي آذان صاغية .
التقيت به ذات يوم كان وسيما ً لدرجة أن جميع الفتيات كن يتسابقن للتعرف عليه ومحاولة الإيقاع به .. ولأكون أكثر صدقا ً معك كانت الكثير من الفتيات قد أغرمن به .
وهو ماذا كانت ردة فعله على جل هؤلاء المتيمات به ؟
هو أغرم بيّ أنا .. أحبني وأحببته حب لم أعرفه من قبل ولن أشهده في أي يوم قادم .. كان فتى أحلامي بل فتى أحلام أي فتاة في سني.. لم يكن يأبه لوجودهن .. جل همه أنا ..أغدق عليّ الحب بشكل طبيعي وعفوي .. دون تصنع .. دون رياء .. دون كذب .. دون مجاملة .. كنت أطير في السحب .. لم تطأ قدماي الأرض يوما ًوأنا معه ولكنني ..
ولكنك ماذا يا عصفورتي .. هل دبت فيك نار الغيرة ؟
لا يا شبحي لم تكن غيرة بالمعنى الدقيق ولكني أردت أن أقيده برابط يربطني به إلى الأبد .. أردته الزوج .. أردته الأسرة .. تاقت نفسي إلى طفل يناديني ماما .. أليس هذا من حقي يا شبحي الصامت ؟
بلى من حقك أيتها العصفورة الجميلة .. ولكن هل مانع هوفي ذك وهو يكن لك كل هذا الحب ؟
نعم لقد مانع ذلك .. بل جن جنونه .. كان يكره فكرة الزواج .. تخنقه هذه الفكرة .. أخبرني عنها في أول يوم بل وفي كل يوم ولكني أحببته جدا ً والفتيات المغرمات والمتيمات به كثر فكان لا بد أن أمتلكه بعقد .. حبر على ورق .. المهم أن يشهد كل العالم أنه لي .
وماذا كانت ردة فعله ؟
أجابني بكل برود أنا لم أخلق للزواج .. هذه هي حياتي .. لن أغيرها ما حييت وأتمنى أن تعدلي عن جنونك ولا تفسدي حبنا بتفاهات مثل هذه.. وعاد يحتسي المشروب أكثر من ذي قبل مع انه التزم لبعض الوقت بالامتناع عنه لأجلي لأنني كنت ارفض هذه العادة السيئة التي كان يدمن عليها ولا يتركها .
وماذا فعلت انت ؟
أصبت بإحباط .. بخيبة أمل .. بخيبة رجاء .. صدمت فيه وفي هذا البرود القاتل ..هربت إلى صومعتي وأغلقت على روحي بابها وألقيت بالمفتاح إلى الجحيم .
نعم اعتكفت وزهدت بالدنيا وكنت انتظر الموت في كل ثانية .. فراقه لم يكن بالسهل ابدا ً .. كنت أشعر بروحي وهي تتأرجح في صعودها للسماء وهبوطها في قلبي تارة أخرى فتمزقني أكثر مما مزقني فراقه .. أحيانا كنت أشعر بالضعف وأتمنى الهروب إليه ولفظ فكرة الزواج من مخيلتي .. لكن الأمر انتهى .
وهل انتهت حكايتك معه عند هذا الحد؟
لا يا شبحي أنا التي انتهيت .. حبست روحي وخنقتها .. لم أدر كم مرّ عليّ من الوقت والسنين وأنا اخنقها حتى تعفنت وأخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة فأشفقت عليها وخرجت من صومعتي إلى الحياة لكن بخطوات ثقيلة وأنفاس منهكة .. لكني خرجت .
أحسنت يا عصفورتي .. هو لا يستحق أن تموتي من أجله .. هذا الفارغ التافه الأجوف ... ماذا حصل معك فيما بعد يا عصفورتي ؟
التقيت صديقة قديمة لم التق بها منذ زمن .. منذ زمن الإعنكاف .. ذعرت عندما رأتني وعندما تفحصت ملامح وجهي الذائبة أصابها الوجوم وسألتني وهي منقطعة الأنفاس :..هل مت ِ؟
فأجبتها بعفوية زائدة : على وشك .
وعادت لسؤالي من جديد .. أين اختفيت .. ولماذا انفصلت عنه ؟
قلت كل شيء نصيب وهذا قدرنا ؟
قالت : لقد تزوج ورزق بالأبناء
شعرت بالأرض وهي تدور تحت أقدامي وقلت بصوت يكاد يكون مسموع .. تزوج .. ورزق بالأبناء ؟
قالت : نعم أنت لماذا اختفيت ؟ بحث عنك طويلا ً ثم تزوج إمرأة تشبهك تماما ً .. هل تذكرينها .. تلك التي كانت تشبهك في كل شيء .. كنا نضحك عليكما حينما تظهران أنت وهي صدفة فنقول ظهرت الشبيهتان ..
وهو ..هل هو سعيد معها ؟
أجابتني وقد اتسعت عيناها وفرجت كل أساريرها.. سعيد .. ها .. غاية في السعادة .. إنه يحبها جدا ً .. لا تعلمي كم غيرت فيه أشياء .. لقد أصبح رجلا ًآخر .
كيف .. أفصحي ؟؟
هو اليوم رجل متدين يتردد على المساجد يصلي كل الصلوات حاضرة .. هو يحفظ القرآن .. بعضه ليس كله .. لكنه مواظب عليه ..
فقلت بلهجة تهكم : والمشروب أقبل الصلاة أم بعدها ؟
قالت : لا .. لا مشروب .. لا نساء ..لا ملهى ..
أصبح رجلا ً ملتزما ًبكل ما في الكلمة من معنى .
قالت بخبث شديد : هل أنقل له تحياتك ؟
قلت لا بل انقلي له عودتي للحياة لكن بعيدا ً عن حياته .. لم يعد لي كما لم يكن لي في يوم .. قد كنت واهمة واليوم فقط عرفت كم كنت واهمة ..ولكن أسفي على هذه الروح التي أفنيتها في حبه ومزقتها في فراقه وحاولت وأدها لأنه خرج من حياتها .. أنا آسفة على روحي .
عصفورتي .. كان معي حق قبل أن أعرف هذه الحكاية أن أقول لك كفى .. كفى جراح .. كفى تمزيق لروحك .. أعطيني البوم الصور.. سألقيه إلى الجحيم .. هو وكل صوره القاتلة .
لك ما تشاء يا شبحي
وسترحلين معي
لك ما تشاء يا شبحي
إذا أعدي نفسك للرحيل
لك ما تشاء يا شبحي