سرقات واجبة (من الأدب الساخر )
د. ناصر شافعي
منذ سنوات عديدة .. عندما كنت صبياً صغيراً ألعب و أمرح في شوارع القاهرة الواسعة الهادئة الجميلة .. كان يستوقفني و يستهويني الحاوي , الذي يقدم عروضه المتواضعة الساذجة في الطريق .. ومعه مجموعة من المهرجين الغلابة, بملابسهم الرثة القذرة , التي تدعو للشفقة و الإحسان , لا للإعجاب و الإستحسان . وفي نهاية العرض أكتشف سرقة نقودي القليلة . ينظر إلىّ صديقي في إستهزاء و شماته ويقول : " أنا قلت لك .. إبعد أحسن .. حتتسرق حتتسرق !"
وتمر السنوات .. ويجري قطار العمر مسرعاً , حتى بدون أن أشعر بمحطات التوقف . وفي رحلة لليونان , وأثناء قضاء وقت ممتع على متن الباخرة السياحية الفخمة , طُلب منا تسليم أموالنا والغالي الثمين من ممتلكاتنا للأمانات , همس صديقي في إذني قائلاً :" حذاري .. حاميها حراميها !! " . تجاهلت تنبيهاته و تحذيراته .. وعند عودتنا من جزيرة الأحلام , لم أجد نقودي و كاميرا الفيديو التي أودعتها في الحفظ و الصون في الأمانات . ضحك صديقي متألماً , مشفقاً , ومتعجباً . قال " ده مصيرك و قدرك .. تتسرق .. تتسرق !!" .
وبعد سنوات قليلة و أثناء حضوري لمؤتمر طبي في بيروت , في فندق خمس نجوم, إبتسم لي مدير الفندق وهمس قائلاً :" ما تخاف .. أهم شئ يكون مفتاح الغرفة معك " .. وأثناء تواجدي في قاعة المحاضرات , سرقت جميع ملابسي و مشترياتي الثمينة من الغرفة . ضحك صديقي ضحكات هستيرية , ومازحني قائلاً : " مش قلت لك حتتسرق !! .. تعيش و تتسرق غيرها !! .. تبقى تخلي بالك من مفتاح الغرفة"
وتمر السنوات , و تتعدد السرقات وتتنوع . سرقة نقود , سرقة وظيفة , سرقة مؤلفات , سرقة أفكار . وفي كل مرة يطالعني وجه صديقي , بإبتسامته الساحرة الساخرة , وضحكاته الإستفزازية القاتلة , وأقواله وتحذيراته المتكررة المملة.
أحاول إستفزازه و إثارته بسؤال مباشر : إذن ما العمل ؟ .. كيف أتفادى السرقة ؟
كان رده جاهزاً و حاضراً و صريحاً و مباشراً : عليك بالبنك .. مكان آمن ولن تطوله يد اللصوص أو المحتالين . وبناء على رأي الخبراء من رجال المال و الدين , وللإبتعاد عن شك الربا , وضعت أموالي في صناديق المرابحات . وخسرت جميع ما أملك من أموال . ضحك صديقي ضحكاته الهستيرية وقال كلماته المكررة , بكل شماته و سخرية : " مبروك .. ألف مبروك .. إتسرقت تاني !! .. أنا قلت لك حتتسرق .. حتتسرق !! ..
مللت من الضحكات الساخرة .. و الإستهزاءات اللاذعة .. و الكلمات الموجعة . وقررت أن أمتنع عن التجوال و الخروج و المغامرة .. أغلقت جميع النوافذ و الأبواب و أحكمت غلقها خوفاً من السرقة و اللصوص .. ليس خوفاً على القليل المتبقى , ولكن خوفاً من المزيد من الإستهزاء و المهانة . جرس الباب يدق .. فاتورة الكهرباء بالمئات بدون قراءة حقيقية للإستهلاك .. فاتورة إستهلاك مياه بالمئات بدون وجود عداد , و المياه دائماً مقطوعة , فاتورة نظافة ولا يوجد عامل للنظافة . فواتير تليفون أرضي و جوال .. فواتير إصلاحات وتجديدات في المبنى .. فاتورة إستهلاك غاز .. فواتير .. مطالبات .. مدفوعات .. ضحكت في وجه صديقي العزيز وصرخت في وجهه بغيظ و ألم : " أنا قلت لك , حأتسرق .. حأتسرق " !
إنتهى .
د. ناصر شافعي . 2 يونية 2009