خريج كلية الاداب كاتب و اديب، يهتم بالشعر والدراسات النقدية
تفسير سورة ق من كتاب في ظلال القران
سورة ق
[align=justify]ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
مقدمة لسورة ق
كان رسول الله [ ص ] يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ; فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها , في الجماعات الحافلة . . وإن لها لشأنا . .
إنها سورة رهيبة , شديدة الوقع بحقائقها , شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ,وصورها وظلالها وجرس فواصلها . تأخذ على النفس أقطارها , وتلاحقها في خطراتها وحركاتها , وتتعقبها في سرها وجهرها , وفي باطنها وظاهرها . تتعقبها برقابة الله ,التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد , إلى الممات , إلى البعث , إلى الحشر , إلى الحساب . وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة . تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا . فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا , ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا , ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا . كل نفس معدود . وكل هاجسة معلومة .وكل لفظ مكتوب . وكل حركة محسوبة . والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب , كما هي مضروبة على حركة الجوارح . ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة , المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة , في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة . ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة , تروع الحس روعة المفاجأة ;وتهزالنفس هزا , وترجها رجا , وتثير فيها رعشة الخوف , وروعة الإعجاب , ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب !
وذلك كله إلى صور الحياة , وصور الموت , وصور البلى , وصور البعث , وصور الحشر .وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس . وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض , وفي الماء والنبت , وفي الثمر والطلع . .(تبصرة وذكرى لكل عبد منيب). .
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف , وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال , في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ; وفي غير عبارتها القرآنية التيتشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال , إشعاعا مباشرا للحس والضمير .
فلنأخذ في استعراض السورة بذاتها . . والله المستعان . .
الدرس الأول:1 - 11 الرد على إنكار الكفار للبعث وإقامة الأدلة عليه.
ق . والقرآن المجيد . بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم , فقال الكافرون: هذا شيء عجيب . أإذا متنا وكنا ترابا ? ذلك رجع بعيد . قد علمنا ما تنقص الأرض منهم , وعندنا كتاب حفيظ . بل كذبوا بالحق لما جاءهم , فهم في أمر مريج . أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ? وما لها من فروج . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج . تبصرة وذكرى لكل عبد منيب . ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد . والنخل باسقات لها طلع نضيد . رزقا للعباد ,وأحيينا به بلدة ميتا . كذلك الخروج .
(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود , وعاد وفرعون وإخوان لوط , وأصحاب الأيكة وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد . أفعيينا بالخلق الأول ; بل هم في لبس من خلق جديد). .
هذا هو المقطع الأول في السورة . وهو يعالج قضية البعث , وإنكار المشركين له ,وعجبهم من ذكره والقول به . ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده . إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلا إلى الحق , ويقوم ما فيها من عوج ;ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود . ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث . وإنما يحيي قلوبهم لتتفكرهي وتتدبر , ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب . . وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب !
وتبدأ السورة بالقسم . القسم بالحرف:(قاف) وبالقرآن المجيد , المؤلف من مثل هذا الحرف . بل إنه هو أول حرف في لفظ "قرآن" . .
ولايذكر المقسم عليه . فهو قسم في ابتداء الكلام , يوحي بذاته باليقظة والاهتمام . فالأمر جلل , والله يبدأ الحديث بالقسم , فهو أمر إذن له خطر . ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء . إذ يضرب بعده بحرف (بل) عن المقسم عليه - بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب - ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج:
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم , فقال الكافرون: هذا شيء عجيب . أإذا متنا وكنا ترابا ? ذلك رجع بعيد .
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَاتَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم . وما في هذا من عجب . بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقبله الفطرة السليمة ببساطة وترحيب . الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحدا منهم , يحس بإحساسهم , ويشعر بشعورهم , ويتكلم بلغتهم , ويشاركهم حياتهم ونشاطهم , ويدرك دوافعهم وجواذبهم , ويعرف طاقاتهم واحتمالهم , فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه ; ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح ;ويبلغهم التكاليف التي يفرضها الاتجاه الجديد , وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف . ولقد عجبوا من الرسالة ذاتها , وعجبوا - بصفة خاصة - من أمر البعث الذي حدثهم عنه هذا المنذر أول ما حدثهم . فقضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة الإسلامية . قاعدة تقوم عليها العقيدة ويقوم عليها التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة . فالمسلم مطلوب منه أن يقوم على الحق ليدفع الباطل وأن ينهض بالخير ليقضي على الشر , وأن يجعل نشاطه كله في الأرض عبادة لله , بالتوجه في هذا النشاط كله لله . ولا بد من جزاء على العمل . وهذا الجزاء قد لا يتم في رحلة الأرض . فيؤجل للحساب الختامي بعد نهاية الرحلة كلها . فلا بد إذن من عالم آخر , ولا بد إذن من بعث للحساب في العالم الآخر . . وحين ينهار أساس الآخرة في النفس ينهار معه كل تصور لحقيقة هذه العقيدة وتكاليفها ; ولا تستقيم هذه النفس على طريق الإسلام أبدا . ولكن أولئك القوم لم ينظروا للمسألة من هذا الجانب أصلا . إنما نظروا إليها من جانب آخر ساذج شديد السذاجة , بعيد كل البعد عن إدراك حقيقة الحياة والموت , وعن إدراك أي طرف من حقيقة قدرة الله . فقالوا:(أئذا متنا وكنا ترابا ? ذلك رجع بعيد)! والمسألة إذن في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى . وهي نظرة ساذجة كما أسلفنا , لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى . كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة , وتحيط بهم في جنبات الكون كله . وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة . غير أننا قبل أن نمضي مع لمسات القرآن وآياته الكونية في معرض الحياة , نقف أمام لمسة البلى والدثور التي تتمثل في حكاية قولهم والتعليق عليه: أإذا متنا وكنا ترابا . . . ? . . وإذن فالناس يموتون . وإذن فهم يصيرون ترابا . وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه , وإلى غيره من الأحياء حوله . يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور . بل ليحس دبيب البلى في جسده وهو بعد حي فوق التراب ! وما كالموت يهز قلب الحي , وليس كالبلى يمسه بالرجفة والارتعاش . والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها ; وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئا فشيئا: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم , وعندنا كتاب حفيظ). . لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها , وتأكلها رويدا رويدا . ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى . ليقول:إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم , وهو مسجل في كتاب حفيظ ; فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا . أما إعادة الحياة إلى هذا التراب , فقد حدثت من قبل , وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي . وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها , وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال . وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها ! ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية . ذلك أنهم تركوا الحق الثابت ,
فمادت الأرض من تحتهم , ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدا:
(بل كذبوا بالحق لما جاءهم , فهم في أمر مريج). . وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت , فلا يقر لهم من بعده قرار . . إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه , ولا تضطرب خطاه , لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص . وكل ما حوله - عدا الحق الثابت - مضطرب مائج مزعزع مريج , لا ثبات له ولا استقرار , ولا صلابة له ولا احتمال . فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج , وفقد الثبات والاستقرار , والطمأنينة والقرار . فهو أبدا في أمر مريج لا يستقر على حال ! ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء , وتتناوحه الهواجس , وتتخاطفه الهواتف , وتمزقه الحيرة , وتقلقه الشكوك . ويضطرب سعيه هنا وهناك , وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال . وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين , ولا بملجأ أمين . . فهو في أمر مريج . . إنه تعبير عجيب , يجسم خلجات القلوب , وكأنها حركة تتبعها العيون ! واستطرادا مع إيقاع الحق الثابت المستقر الراسي الشامخ - وفي الطريق إلى مناقشة اعتراضهم على حقيقة البعث - يعرض بعض مظاهر الحق في بناء الكون ; فيوجه أنظارهم إلى السماء وإلى الأرض وإلى الرواسي , وإلى الماء النازل من السماء , وإلى النخل الباسقات , وإلى الجنات والنبات . في تعبير يتناسق مع صفة الحق الثابت الراسي . . الجميل . . (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ? وما لها من فروج). . إن هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه . أفلم ينظروا إلى ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار ? وإلى ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال وبراءة من الخلل والاضطراب ! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا . مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال . ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج . وكذلك الأرض صفحة من كتاب الكون القائم على الحق المستقر الأساس الجميل البهيج: (والأرض مددناها , وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج). . فالامتداد في الأرض والرواسي الثابتات والبهجة في النبات . . تمثل كذلك صفة الاستقرار والثبات والجمال , التي وجه النظر إليها في السماء . وعلى مشهد السماء المبنية المتطاولة الجميلة , والأرض الممدودة الراسية البهيجة يلمس قلوبهم , ويوجهها إلى جانب من حكمة الخلق , ومن عرض صفحات الكون: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب). . تبصرة تكشف الحجب , وتنير البصيرة , وتفتح القلوب , وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب , وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب . . تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب , يرجع إلى ربه من قريب . وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل . هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون , والتعرف إليه أثرا في القلب البشري , وقيمة في الحياة البشرية . هذه هي الوصلة.
التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم . وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية " في هذا الزمان . فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه . فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون ; وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير . وكل معرفة بنجم من النجوم , أو فلك من الأفلاك , أو خاصة من خواص النبات والحيوان , أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة - إذا كانت هناك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود ! - كل معرفة "علمية " يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري , وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون , وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء . وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه . . وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر , هي معرفة ناقصة , أو علم زائف , أو بحث عقيم !
إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح , الذي يقرأ بكل لغة , ويدرك بكل وسيلة ; ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ , والمتحضر ساكن العمائر والقصور . كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده , فيجد فيه زادا من الحق , حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق . وهو قائم مفتوح في كل آن:(تبصرة وذكرى لكل عبد منيب). . ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين . لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة "المنهج العلمي" . المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه ! والمنهج الإيماني لا ينقص شيئا من ثمار "المنهج العلمي" في إدراك الحقائق المفردة . ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض , وردها إلى الحقائق الكبرى , ووصل القلب البشري بها , أي وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود , وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم ; لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل ! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق . . وبعد هذه اللفتة يمضي في عرض صفحات الحق في كتاب الكون - في طريقه إلى قضية الإحياء والبعث: (ونزلنا من السماء ماء مباركا , فأنبتنا به جنات وحب الحصيد , والنخل باسقات لها طلع نضيد . رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا . كذلك الخروج). . والماء النازل من السماء آية تحيي موات القلوب قبل أن تحيي موات الأرض . ومشهده ذو أثر خاص في القلب لا شك فيه . وليس الأطفال وحدهم هم الذين يفرحون بالمطر ويطيرون له خفافا . فقلوب الكبار الحساسين تستروح هذا المشهد وتصفق له كقلوب الأطفال الأبرياء , القريبي العهد بالفطرة ! ويصف الماء هنا بالبركة , ويجعله في يد الله سببا لإنبات جنات الفاكهة وحب الحصيد - وهو النبات المحصود - ومما ينبته به النخل . ويصفها بالسموق والجمال:(والنخل باسقات لها طلع نضيد). . وزيادة هذا الوصف للطلع مقصودة لإبراز جمال الطلع المنضد في النخل الباسق . وذلك تمشيا مع جو الحق وظلاله . الحق السامق الجميل . ويلمس القلوب وهو يمتن عليها بالماء والجنات والحب والنخل والطلع: (رزقا للعباد). . رزقا يسوق الله سببه , ويتولى نبته , ويطلع ثمره , للعباد , وهو المولى , وهم لا يقدرون ولا يشكرون !
(وأحيينا به بلدة ميتا . كذلك الخروج). . فهي عملية دائمة التكرار فيما حولهم , مألوفة لهم ; ولكنهم لا ينتبهون إليها ولا يلحظونها قبل الاعتراض والتعجيب . . كذلك الخروج . . على هذه الوتيرة , وبهذه السهولة . . الآن يقولها وقد حشد لها من الإيقاعات الكونية على القلب البشري ذلك الحشد الطويل الجميل المؤثر الموحي لكل قلب منيب . . وكذلك يعالج القلوب خالق القلوب . . الدرس الثاني:12 - 15 عرض بعض مصائر المكذبين للبعث ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون , تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث , وكذبوا كما يكذبون بالرسل , فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود , وعاد وفرعون وإخوان لوط , وأصحاب الأيكة , وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد . أفعيينا بالخلق الأول ? بل هم في لبس من خلق جديد). . والرس:البئر:المطوية غير المبنية . والأيكة:الشجر الملتف الكثيف . وأصحاب الأيكة هم - في الغالب - قوم شعيب . أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة . وكذلك قوم تبع . وتبع لقب لملوك حمير باليمن . وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقاريء القرآن . وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام . ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين . حين كذبوا الرسل . والذي يلفت النظر هو النص على أن كلا منهم كذب الرسل: (كل كذب الرسل فحق وعيد). وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة . فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين ; لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون . والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان , وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها , وصورة منها . ومن يمس منها فرعا فقد مس الأصل وسائر الفروع . . (فحق وعيد)ونالهم ما يعرف السامعون ! وفي ظل هذه المصارع يعود إلى القضية التي بها يكذبون . قضية البعث- من جديد . فيسأل: (أفعيينا بالخلق الأول ?). . والخلق شاهد حاضر فلا حاجة إلى جواب ! (بل هم في لبس من خلق جديد). . غير ناظرين إلى شهادة الخلق الأول الموجود ! فماذا يستحق من يكذب وأمامه ذلك الشاهد المشهود ?! الدرس الثالث:مقدمة الدرس (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه , ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد . .) (ونفخ في الصور , ذلك يوم الوعيد . وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد . وقال قرينه:هذا ما لدي عتيد . ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد . قال قرينه:ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . قال:لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنابظلام للعبيد . يوم نقول لجهنم:هل امتلأت ? وتقول:هل من مزيد ? وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . ادخلوها بسلام , ذلك يوم الخلود , لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد). . مقدمة الدرس وهذا هو المقطع الثاني في السورة:استطراد مع قضية البعث , التي عالجها الشوط الأول ; وعلاج للقلوب المكذبة بلمسات جديدة , ولكنها رهيبة مخيفة . إنها تلك الرقابة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة . ومشاهدها التي تمثلها وتشخصها . ثم مشهد الموت وسكراته . ثم مشهد الحساب وعرض السجلات . ثم مشهد جهنم فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها البشري تقول: (هل من مزيد ?). وإلى جواره مشهد الجنة والنعيم والتكريم . إنها رحلة واحدة تبدأ من الميلاد , وتمر بالموت , وتنتهي بالبعث والحساب . رحلة واحدة متصلة بلا توقف ; ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد ; وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملص ولا يتفلت , وتحت رقابته التي لا تفتر ولا تغفل . وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة . وكيف بإنسان في قبضة الجبار , المطلع على ذات الصدور ? وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان , الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام ! إنه ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه , حين يشعر أن السلطان في الأرض يتتبعه بجواسيسه وعيونه , ويراقبه في حركته وسكونه . وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا الحركة الظاهرة . وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره , وإذا أغلق عليه بابه , أو إذا أغلق فمه ! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار . وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار . . فكيف ? كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة ?! الدرس الثالث:16 - 18 حياة الإنسان تحت رقابة الله (ولقد خلقنا الإنسان , ونعلم ما توسوس به نفسه , ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). . إن ابتداء الآية: (ولقد خلقنا الإنسان). . يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة . فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها . وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشيء مادتها , ولم يزد على تشكيلها وتركيبها . فكيف بالمنشيء الموجد الخالق ? إن الإنسان خارج من يد الله أصلا ; فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره . . (ونعلم ما توسوس به نفسه). . وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر , وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله , تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده ! (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). . الوريد الذي يجري فيه دمه . وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة , والرقابة المباشرة . وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب . ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها . بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول . وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة .
ولكن القرآن يستطرد في إحكام الرقابة . فإذا الإنسان يعيش ويتحرك وينام ويأكل ويشرب ويتحدث ويصمت ويقطع الرحلة كلها بين ملكين موكلين به , عن اليمين وعن الشمال , يتلقيان منه كل كلمة وكل حركة ويسجلانها فور وقوعها:
(إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). أي رقيب حاضر , لا كما يتبادر إلى الأذهان أن اسمي الملكين رقيب , وعتيد ! ونحن لا ندري كيف يسجلان . ولا داعي للتخيلات التي لا تقوم على أساس . فموقفنا بإزاء هذه الغيبيات أن نتلقاها كما هي , ونؤمن بمدلولها دون البحث في كيفيتها , التي لا تفيدنا معرفتها في شيء . فضلا على أنها غير داخلة في حدود تجاربنا ولا معارفنا البشرية . ولقد عرفنا نحن - في حدود علمنا البشري الظاهر - وسائل للتسجيل لم تكن تخطر لأجدادنا على بال . وهي تسجل الحركة والنبرة كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما وأشرطة التليفزيون . وهذا كله في محيطنا نحن البشر . فلا داعي من باب أولى أن نقيد الملائكة بطريقة تسجيل معينة مستمدة من تصوراتنا البشرية المحدودة , البعيدة نهائيا عن ذلك العالم المجهول لنا , والذي لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به الله . بلا زيادة ! وحسبنا أن نعيش في ظلال هذه الحقيقة المصورة , وأن نستشعر ونحن نهم بأية حركة وبأية كلمة أن عن يميننا وعن شمالنا من يسجل علينا الكلمة والحركة ; لتكون في سجل حسابنا , بين يدي الله الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير . حسبنا أن نعيش في ظل هذه الحقيقة الرهيبة . وهي حقيقة . ولو لم ندرك نحن كيفيتها . وهي كائنة في صورة ما من الصور , ولا مفر من وجودها , وقد أنبأنا الله بها لنحسب حسابها . لا لننفق الجهد عبثا في معرفة كيفيتها ! والذين انتفعوا بهذا القرآن , وبتوجيهات رسول الله [ ص ] الخاصة بحقائق القرآن , كان هذا سبيلهم:أن يشعروا , وأن يعلموا وفق ما شعروا . . قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية , حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة , عن بلال بن الحارث المزني - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى , ما يظن أن تبلغ ما بلغت , يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت , يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه " . . قال:فكان علقمة يقول:كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث . [ ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث محمد بن عمرو به وقال الترمذي:حسن صحيح ] . وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن . فسمع أن الأنين يكتب . فسكت حتى فاضت روحه رضوان الله عليه . وهكذا كان أولئك الرجال يتلقون هذه الحقيقة فيعيشون بها في يقين . الدرس الرابع:19 لقطة من الإحتضار تلك صفحة الحياة , ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار: (وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد). .
والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه , أو يبعد شبحه عن خاطره . ولكن أنى له ذلك:والموت طالب لا يمل الطلب , ولا يبطيء الخطى , ولا يخلف الميعاد ; وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال ! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان: (ذلك ما كنت منه تحيد). وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة ! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات ! وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ ص ] لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول:" سبحان الله . إن للموت لسكرات " . . يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء الله . فكيف بمن عداه ?
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق: (وجاءت سكرة الموت بالحق). . وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت . تراه بلا حجاب , وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد , ولكن بعد فوات الأوان , حين لا تنفع رؤية , ولا يجدي إدراك , ولا تقبل توبة , ولا يحسب إيمان . وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج ! . . وحين يدركونه ويصدقون به لا يجدي شيئا ولا يفيد ! الدرس الخامس:20 - 35 من مشاهد النعيم والعذاب يوم القيامة ومن سكرة الموت , إلى وهلة الحشر , وهول الحساب: (ونفخ في الصور . ذلك يوم الوعيد . وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك , فبصرك اليوم حديد . وقال قرينه:هذا ما لدي عتيد . ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد . قال قرينه:ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . قال:لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد). . وهو مشهد يكفي استحضاره في النفس لتقضي رحلتها كلها على الأرض في توجس وحذر وارتقاب . وقد قال رسول الله [ ص ]:" كيف أنعم , وصاحب القرن قد التقم القرن , وحنى جبهته , وانتظر أن يؤذن له ? " " قالوا:يا رسول الله , كيف نقول ? قال [ ص ]:" قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل " . فقال القوم:حسبنا الله ونعم الوكيل " . . (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد). . جاءت كل نفس . فالنفس هنا هي التي تحاسب , وهي التي تتلقى الجزاء . ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها . قد يكونان هما الكاتبان الحافظان لها في الدنيا . وقد يكونان غيرهما . والأول أرجح . وهو مشهد أشبه شيء بالسوق للمحاكمة . ولكن بين يدي الجبار . وفي هذا الموقف العصيب يقال له:(لقد كنت في غفلة من هذا . فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). . قوي لا يحجبه حجاب , وهذا هو الموعد الذي غفلت عنه , وهذا هو الموقف الذي لم تحسب حسابه , وهذه هي النهاية التي كنت لا تتوقعها . فالآن فانظر . فبصرك اليوم حديد ! هنا يتقدم قرينه . والأرجح أنه الشهيد الذي يحمل سجل حياته:(وقال قرينه هذا ما لدي عتيد). . حاضر مهيأ معد . لا يحتاج إلى تهيئة أو إعداد ! ولا يذكر السياق شيئا عن مراجعة هذا السجل تعجيلا بتوقيع الحكم وتنفيذه . إنما يذكر مباشرة النطق العلوي الكريم , للملكين الحافظين:السائق والشهيد: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . مناع للخير معتد
مريب . الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد). . وذكر هذه النعوت يزيد في حرج الموقف وشدته . فهو دلالة غضب الجبار القهار في الموقف العصيب الرهيب ; وهي نعوت قبيحة مستحقة لتشديد العقوبة:كفار . عنيد . مناع للخير . معتد . مريب . الذي جعل مع الله إلها آخر . وتنتهي بتوكيد الأمر الذي لا يحتاج إلى توكيد: (فألقياه في العذاب الشديد)بيانا لمكانه من جهنم التي بدأ الأمر بإلقائه فيها .
عندئذ يفزع قرينه ويرتجف , ويبادر إلى إبعاد ظل التهمة عن نفسه , بما أنه كان مصاحبا له وقرينا:(قال قرينه:ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد). . وربما كان القرين هنا غير القرين الأول الذي قدم السجلات . ربما كان هو الشيطان الموكل به ليغويه . وهو يتبرأ من إطغائه ; ويقرر أنه وجده ضالا من عند نفسه , فاستمع لغوايته ! وفي القرآن مشاهد مشابهة يتبرأ فيها القرين الشيطاني من القرين الإنساني على هذا النحو . على أن الفرض الأول غير مستبعد . فقد يكون القرين هو الملك صاحب السجل . ولكن هول الموقف يجعله يبادر إلى التبرؤ - وهو بريء - ليبين أنه مع صحبته لهذا الشقي - فإنه لم تكن له يد في أي مما كان منه . وتبرؤ البريء أدل على الهول المزلزل والكرب المخيف . هنا يجيء القول الفصل , فينهي كل قول:(قال:لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد - ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد). . فالمقام ليس مقام اختصام . وقد سبق الوعيد محددا جزاء كل عمل . وكل شيء مسجل لا يبدل . ولا يجزي أحد إلا بما هو مسجل . ولا يظلم أحد , فالمجازي هو الحكم العدل . بهذا ينتهي مشهد الحساب الرهيب بهوله وشدته ; ولكن المشهد كله لا ينتهي , بل يكشف السياق عن جانب منه مخيف: (يوم نقول لجهنم:هل امتلأت:وتقول:هل من مزيد ?). إن المشهد كله مشهد حوار . فتعرض جهنم فيه في معرض الحوار وبهذا السؤال والجواب يتجلى مشهد عجيب رهيب . . هذا هو كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . . هؤلاء هم كثرة تقذف في جهنم تباعا , وتتكدس ركاما . ثم تنادى جهنم: (هل امتلأت ?)واكتفيت ! ولكنها تتلمظ وتتحرق , وتقول في كظة الأكول النهم: (هل من مزيد ?!). . فيا للهول الرعيب ! وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف , رضي جميل . إنه مشهد الجنة , تقرب من المتقين , حتى تتراءى لهم من قريب , مع الترحيب والتكريم: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود . لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد . والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة . فالجنة تقرب وتزلف , فلا يكلفون مشقة السير إليها , بل هي التي تجيء: (غير بعيد)! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة:(هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب). . فيوصفون هذه الصفة من الملأ الأعلى , ويعلمون أنهم في ميزان الله أوابون , حفيظون , يخشون الرحمن ولم يشهدوه , منيبون إلى ربهم طائعون . ثم يؤذن لهم بالدخول بسلام لغير ما خروج:(ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود). . ثم يؤذن في الملأ الأعلى , تنويها بشأن القوم , وإعلانا بما لهم عند ربهم من نصيب غير محدود:(لهم ما يشاؤون فيها , ولدينا مزيد). . فمهما اقترحوا فهم لا يبلغون ما أعد لهم . فالمزيد من ربهم غير محدود .
الدرس السادس:36 - 45 إشارات لحقائق حول الكون والحشر والعبادة والتذكير ثم يجيء المقطع الأخير في السورة , كأنه الإيقاع الأخير في اللحن , يعيد أقوى نغماته في لمس سريع . فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين . وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين . وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد . ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي العميق للمشاعر والقلوب:
(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا , فنقبوا في البلاد هل من محيص ? إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب . فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب . يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير . يوم تشقق الأرض عنهم سراعا . ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون , وما أنت عليهم بجبار , فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). . ومع أن هذه اللمسات كلها قد سبقت في سياق السورة , إلا أنها حين تعرض في الختام تعرض جديدة الإيقاع جديدة الوقع . بهذا التركيز وبهذه السرعة . ويكون لها في الحس مذاق آخر غير مذاقها وهي مبسوطة مفصلة من قبل في السورة . وهذه هي خصيصة القرآن العجيبة ! قال من قبل:(كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود , وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع . كل كذب الرسل فحق وعيد). . وقال هنا:(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا , فنقبوا في البلاد . هل من محيص)? الحقيقة التي يشير إليها هي هي . ولكنها في صورتها الجديدة غيرها في صورتها الأولى . ثم يضيف إليها حركة القرون وهي تتقلب في البلاد , وتنقب عن أسباب الحياة , وهي مأخوذة في القبضة التي لا يفلت منها أحد , ولا مفر منها ولا فكاك:ف (هل من محيص)? . . وعقب عليها بما يزيدها جدة وحيوية: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب , أو ألقى السمع وهو شهيد). . وفي مصارع الغابرين ذكرى . ذكرى لمن كان له قلب . فمن لا تذكره هذه اللمسة فهو الذي مات قلبه أو لم يرزق قلبا على الإطلاق ! لا بل إنه ليكفي للذكرى والاعتبار أن يكون هناك سمع يلقى إلى القصة بإنصات ووعي , فتفعل القصة فعلها في النفوس . . وإنه للحق . فالنفس البشرية شديدة الحساسية بمصارع الغابرين , وأقل يقظة فيها وأقل تفتح كافيان لاستجاشة الذكريات والتصورات الموحية في مثل هذه المواقف المؤثرة المثيرة . وعرض من قبل صفحات من كتاب الكون:(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج , والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي , وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج). . وقال هنا:(ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام , وما مسنا من لغوب). . فأضاف هذه الحقيقة الجديدة إلى جانب اللمسة الأولى . حقيقة: (وما مسنا من لغوب). . وهي توحي بيسر الخلق والإنشاء في هذا الخلق الهائل . فكيف بإحياء الموتى وهو بالقياس إلى السماوات والأرض أمر هين صغير ? وعقب عليها كذلك بإيحاء جديد وظل جديد: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . .
وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب . . كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض . وهو يربط إليها التسبيح والحمد والسجود . ويتحدث في ظلالها عن الصبر على ما يقولون من إنكار للبعث وجحود بقدرة الله على الإحياء والإعادة . فإذا جو جديد يحيط بتلك اللمسة المكررة . جو الصبر والحمد والتسبيح والسجود . موصولا كل ذلك بصفحة الكون وظواهر الوجود , تثور في الحس كلما نظر إلى السماوات والأرض ; وكلما رأى مطلع الشمس , أو مقدم الليل ; وكلما سجد لله في شروق أو غروب . .
ثم . . لمسة جديدة ترتبط كذلك بالصفحة الكونية المعروضة . . اصبر وسبح واسجد . وأنت في حالة انتظار وتوقع للأمر الهائل الجلل , المتوقع في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . لا يغفل عنه إلا الغافلون . الأمر الذي تدور عليه السورة كلها , وهو موضوعها الأصيل: (واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب . يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير . يوم تشقق الأرض عنهم سراعا . ذلك حشر علينا يسير). . وإنه لمشهد جديد مثير , لذلك اليوم العسير . ولقد عبر عنه أول مرة في صورة أخرى ومشهد آخر في قوله:(ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد . وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . .)الخ . فأما هنا فعبر عن النفخة بالصيحة . وصور مشهد الخروج . . ومشهد تشقق الأرض عنهم . هذه الخلائق التي غبرت في تاريخ الحياة كلها إلى نهاية الرحلة . تشقق القبور التي لا تحصى . والتي تعاقب فيها الموتى . كما يقول المعري: رب قبر قد صار قبرا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين في طويل الآجال والآماد كلها تشقق , وتتكشف عن أجساد ورفات وعظام وذرات تائهة أو حائلة في مسارب الآرض , لا يعرف مقرها إلا الله . . وإنه لمشهد عجيب لا يأتي عليه الخيال ! وفي ظلال هذا المشهد الثائر المثير يقرر الحقيقة التي فيها يجادلون وبها يجحدون:(إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير). . (ذلك حشر علينا يسير). . في أنسب وقت للتقرير . . وفي ظلال هذا المشهد كذلك يتوجه بالتثبيت للرسول [ ص ] تجاه جدلهم وتكذيبهم في هذه الحقيقة الواضحة المشهودة بعين الضمير: (نحن أعلم بما يقولون . وما أنت عليهم بجبار . فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). . (نحن أعلم بما يقولون). . وهذا حسبك . فللعلم عواقبه عليهم . . وهو تهديد مخيف ملفوف . (وما أنت عليهم بجبار). . فترغمهم على الإيمان والتصديق . فالأمر في هذا ليس إليك . إنما هو لنا نحن , ونحن عليهم رقباء وبهم موكلون . . (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). . والقرآن يهز القلوب ويزلزلها فلا يثبت له قلب يعي ويخاف ما يواجهه به من حقائق ترجف لها القلوب . على ذلك النحو العجيب . وحين تعرض مثل هذه السورة , فإنها لا تحتاج إلى جبار يلوي الأعناق على الإيمان . ففيها من القوة والسلطان ما لا يملكه الجبارون . وفيها من الإيقاعات على القلب البشري ما هو أشد من سياط الجبارين ! وصدق الله العظيم . . [/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
التعديل الأخير تم بواسطة مازن شما ; 08 / 07 / 2009 الساعة 33 : 03 AM.
سبب آخر: فك الحروف المتلاصقة