في ضحى احد الايام كنت عائدا كعادتي الى البيت قادما من محضرة الكتاب .احمل ذلك اللوح الذي تارة ارفعه فوق راسي وتارة اسحبه على الارض . وفي اليد الاخرى احمل فردتي حذائي الاسود اللعين... فلقد كنت أكره الاحذية لدرجة المقت.كان هناك مجموعة من تلاميذ الصباح يقفون في الطريق بعد خروجهم من المدرسة وكانوا يتحدثون عن توزيع وجبة بسكويت بشكوط في المدرسة خلال فترة الاستراحة في الفترة المسائية ويجب على كل تلميذ أن يحضر معه خمسة قروش ليحصل على علبة بشكوط.
تلقفت الخبر ولم انتظر انهاء الحديث. انطلقت كالسهم الى البيت وبسرعة بدلت لي امي ملابسي بعد ان عنفتني على التاخير وبللت شعري بالماء ووضعت عليه ما كتب الله ان تضع من الدهانات والفومات وفرقته من منتصفه... وقدمت لي اشيائي وخرجت......
حملت تلك الحقيبة السوداء الثقيلة ذات السير الطويل وما ان جاوزت البيت حتى خلعت ذلك الحذاء اللعين وحملته بيدي وابقيت الجورب .....!!
سرت في الطريق الى المدرسة اتراقص كشيطان جائع فقد كنت هزيلا دقيقا رقيقا .
وصلت الى جانب سور المدرسة ... تذكرت الخمسة قروش رميت كل شيء وعدت اسابق الريح..... ابي..... الهث... مابك؟.... خمسة قروش... و حوار قصير وحصلت على الخمسة قروش تاملتها بتعاريجها المميزة دون باقي النقد وغلقت عليها يدي الهزيلة .... وانطلقت اعدو بفرح عارم البشكووووط ................
وحدثت الكارثة .المصيبة...توقف الزمن.....تبعثر جسمي على الطريق .، لقد ركلت حجرا بقدمي . طار الحجر عدة امتار تتهشم اصبعي.. طار ظفري... وطار عقلي كان الالم رهيب والدماء تخرج من الجورب الم لا يطاق ...
خلعت الجورب والدم بدا يقطر من ذلك الاصبع ... خطرت لي فكرةلايقاف النزيف
وهي استعمال نسيج العنكبوت والذي دائما ما تضعه لنا امهاتنا عند الاصابات الدامية على الجروح وفي الانوف عند الرعاف
دخلت الى المدرسة القديمة وحصلت على شيء منه في احد الشقوق ووضعته على ذلك الحطام النازف ولبست عليه الجورب!!!
كل ذلك والخمسة قروش لم تفارق يدي بل ونالها نصيب من دماء اصبعي ....
سمعت صوت الجرس معلنا بداية الطابور لبست الحذاء وكان الالم رهيب ولا يطاق عند المشي واحس بالدماء في الحذاء، وصلت الى الطابور واخذت اتباهى باخراج الخمسة قروش لزملائي ليروها وليعلموا بانني سوف احصل على علبة بشكوط في الاستراحة ....
وقفت اتململ في الطابور حتى انتهت طقوس الطابور وتحية العلم وجاء وقت الدخول.... وكان من العادة العدو اثناء الدخول ولكن العدو حلم بالنسبة لي...
ولم تفارق الخمسة قروش يدي..... رحت امشي رويدا رويدا وزملائي يدفعونني
والمعلم يصرخ ليحث التلاميذ على الجري .... اين انا من الجري؟ وانا ومع كل خطوة كنت اشعر بروحي ستخرج من فمي.... وفي ذلك الوضع العسير قررت امرا وبدات بالتنفيذ فورا ساخلع الحذاء وانحنيت لاخلعه بسرعة وتدافع زملائي فسقطت وسقطوا فوقي وقد تمكنت خلال ذلك الوقت الضيق من خلع فردة حذاء القدم المصابة وتمكن احدهم من اصبعي المصاب وبكعب حذائه ..... وكاد ان يغمى علي من الالم ... وبحجم الالم كانت يدي تعصر الخمسة قروش وكانها تعصر الاشيء..... وامتزج الغبار والفومات والدهانات على جسمي ... نهضت ودخلت الفصل وانا احمل الخمسة قروش والحقيبة والحذاء والاحلام والالام والاهات والدموع .... و الامل.
بدا الدرس . جلست كالابله لا اعي ما يحدث . كنت في عالم اخر من الاحلام وكل تفكيري في المقصف البشكوط وتلك اليد المعرورقة النحيلة والتي تعلوها طبقة من المشن الدامي تقلب الخمسة قروش وتتحسس حوافها . لاشعر بقدر كبير بالارتياح
و الامل كبير في الحصول على البشكوط ونيل الخمسة قروش لحريتها من تلك اليد البغيضة...
كنت اردد كالببغاء ما يقوله زملائي وعيني تحت سطح المقعد ... فجاة.... توقف الزمن وعم صمت مطبق الفصل ... بطرف عيني رايت اقدام المعلم بجانب مقعدي
ياللهول..... صرخة من المعلم وصفعة كالصاعقة على قفاي كادت ان تكسر عنقي.... وكنت كشيطان اخرق ارتعد بجانب السبورة..... افتح يدك..... وكالقضاء كانت العصا تهوي على يدي.... افتح الثانية.... بدلت الخمسة قروش لليد الاخرى...وكالنار هوت العصا على تلك العصيات التي تسمى اصابعي.... بدل الكتاب .... اه لقد تغير الدرس !!!!!
جاءت ساعة الفصل.... الاستراحة.... خرج المعلم... لملمت كل شيء في الحقيبة بما في ذلك الحذاء . تاملت الخمسة قروش وخرجت كان التلاميذ يجرون وما ان وطات قدمي الممر حتى صدمني تلميذ بدين كان يجري بقوة فسقطت وسقط فوقي مجموعة كبيرة من التلاميذ ومن هول الالم الذي احسسته في قدمي وضلوعي ووجهي افلتت الخمسة قروش من يدي .... تعقبتها رغم كل هذا بنظري ولكنها غابت عن بصري فقد تلقفتها يد اخرى لم اعرف يد من كانت من كثرة الازدحام ..... لقدتبددت احلامي وامالي وذهب الجميع.... بقيت جالسا لوحدي في ذلك الممر الطويل الصامت اندب حظي العاثر..... انتهى كل شىء ..... استلقيت على ظهري احملق في السقف دون هدف. اغرورقت عيناي بالدموع . .... فجاة جاء المعلم ساعدني على النهوض ونفض عني الغبار.... سالني ..... ما بك ؟.... اجبت لقد وقعت..... مسح على راسي بيده مع نصف ابتسامة مائلة ولكنها كانت حانية وخرج بي الى الساحة..........
كانت الساحة مكتظة بالتلاميذ وتلك الاوراق الزرقاء تعبث بها تلك النسمات المسائية في ساحة المدرسة اتجهت ناحية المقصف وانا اتامل اولئك التلاميذ وهم يلتهمون البشكوط في نهم شديد ولذة اشد و اخذت اتذكر تلك الغائبة الحاضرة تلك التي شربت من دمائي وشهدت عذاباتي
جلست على درجات المقصف الرخامية وكانني تمثال اغريقي وظهري للمقصف ووجهي وقد وضعته بين يدي وانا لا اتحرك ....... كادت مرارتي ان تنفجر من الاسى..... اه لقد ضاعت الخمسة قروش ومعها الامال..... مددت يدي الى الجورب فوجدته وقد التصق تماما بالجرح وصار جزاء من جسمي..
وقف امامي زميل لي وقدم لي قطعة بشكوط ..... هززت راسي رافضا اياها.... وحاول اكثر من مرة وبالحاح وكنت ارفض في كل مرة ...... كانت العبرات تتصعد وانا ابتلعها ... اكتمها .... اكبتها.... انفاسي تضيق..... صدري ينتفخ..... الكل ياكل الا انا ........
لاح من اخر الساحة ذلك العجوز بفانيلته الزرقاء الداكنة وقد اكلت وجهه تعاريج السنين واختلط سواد شعر راسه ووجهه ببياض المشيب .... هرب الجميع من امامه ولكنني لم اهرب .... ليس شجاعة مني ولكنه الشرود والالم والحسرة ..... وقف امامي وحملق بي مليا بعينيه الغائرتين في تعاريج وجهه الاسمر المشرب بالحمرة وسالني ...... ما بك ؟هنا انفجرت عبرتي والتي كانها كانت تنتظره... بصوت باك مخنوق مشهوق اجبته وبسرعة .... ضاعت مني خمسة قروش ما حصلت بشكوط .....فصدرت منه ضحكة مبحوحة كصوته ولكنها كانت حانية ودافئة ولا تزال والى الان رغم مرور ثلاثة عقود ترن في اذني وكانها بالامس......
تقدم نحو المسطبة التي يبيعون عليها البشكوط وما هي الا ثوان حتى وجدت يد العم محفوظ تمتد الى بتلك العلبة الاسطوانية الزرقاء.... وابتسامة عريضة من ذلك الوجه والذي يومىء لي بان اخذ العلبة .....للحظة تخيلت بانه يمزح معي ولكن بريق الصدق في عينيه ووجهه قتل ذلك الخيال....مددت يدي اخذت العلبة ..خرجت روحي الى حلقومي من شدة الفرح فبلعتها الى جسدي مثلما كنت ابلع عبراتي .... الجرس .... انتهت الاستراحة . رميت الحقيبة عند قدمي عمي محفوظ .وانطلقت اعدو مخترقا الساحة لا الى الطابور ولكن الى البيت وضحكة عالية من العم محفوظ تدفعني كالسهم عبر الساحة..... نسيت كل الامي ... اقدامي...وانا اعوا الى البيت
جلست في السياج الخلفي للبيت وانا الهث بشدة والدماء تخرج من الجورب وبدات التهم البشكوط والتهم معه كل الامي ودموعي وعبراتي واحزاني...تمت
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: خمسة قروش
أخي عبد القادر ..
تابعت القصة بشغف و شوق لمعرفة مآل الخمسة قروش و صاحبها ..
حقا .. قليلون هم من يشعرون باحتياجات الآخرين ومعاناتهم وخصوصا الأطفال منهم ..
مزيدا من الإبداع أخي ..
ودمت بكل المودة
شاعرة، ناشطة في اليونان وأوروبا في مجال حقوق المرأة والطفل وعضو مجلس إدارة المنتدى الأوروبي للمرأة المسلمة
رد: خمسة قروش
رائع.. رائع.. سلمت يداك على هذه القصة الجميلة، لقد دمعت عيني على هذا الصغير، وعادت الي بعض الصور من طفولتي.. الممر، الحقيبة، الاستاذ، الكتاب، الدرس، البكاء، التدافع، الجرس...
انها قصة جميلة تعج بالصور وبالواقع..
سلم قلمك المبدع واتشوق لقراءة المزيد لك..
تقبل تحيتي وتقديري..
بسم الله الرحمن الرحيم
اخوتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اشكركم على المرور الكريم على قصتي اشكرك
سيد رشيد واشكرك اختي الفاضلة هلا وانا هو دلك الطفل
وهده القصة نبشتها وغيرها من >اكرتي على هيئة م>كرات مدرسية
اكرر شكري لكم
اخوكم عبد القادر العرابي
[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=center]قصة مميزة فعلا. غنية بأحاسيس ومعاناة وألم طفل كل حلمه علبة بسكويت ينجح لحسن الحظ في نيلها أخيرا بعد عثرات و دموع.
تقديري لما اجد به قلمك أستاذ عبد القادر.[/align][/cell][/table1][/align]
هيئة فيض الخاطر قسم " كلمات " خريجة تربية من الجامعة الاسلامية بغزة تكتب الخاطرة والقصة القصيرة
رد: خمسة قروش
ابتسامة مشوبة بألم رافقت قراءتي لقصتك الجميلة
آه لو كان الفقر رجلا بالتاكيد لم اكن سأتزوجه !
هي قصة الطفولة المسحوقة والأحلام البريئة البسيطة
تقديري لك