رد: الرواية العربية البناء والرُّؤيا ـــ د.سمر روحي الفيصل
[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]الفصل الأوّل: البناء الرُّوائيّ - مفهوم البناء الروائي
أعتقد أن البناء الفني للرواية العربية تقليديّ محدَّث ؛ أي أن طابعه العامّ هو طابع الرّواية التّقليديّة التي أفادت من الوسائل الفنّيّة الجديدة ووظَّفتها لخدمتها. ويُخيَّل إليَّ، وأنا ألاحظ سيادة البناء التقليديّ المحدَّث، أن الرواية العربية لم تعرف النّموذج التقليديّ الصّرف الذي عرفته الآداب الأجنبيّة، تبعاً لنشأتها المتأخِّرة ولأن الترجمة لم تكن منظَّمة بحيث تُعرِّف المتلقّي العربيّ بتاريخ الرواية الأجنبيّة. بيد أن هناك عاملين آخرين أسهما إسهاماً واضحاً في سيادة البناء التقليديّ المحدَّث، هما التّناصّ والشُّعور الثّقافيّ الجمعيّ.
1 / المعروف أنّ التّناصّ مصطلح دالّ على أنّ نسيج أيّ نصّ جديد اختزن نصوصاً كثيرة تأثُّر صاحب هذا النّصّ تأثُّراً غير مباشر بها، بوساطة القراءة، وكأنّ النّصّ الجديد غير بِكْر ؛ لأنّه مزيج من نصوص عدّة. وإنّني أقصد بالتّناصّ هنا علاقـة النّصّ الرّوائيّ العربيّ اللاحق بالنصّ الروائي العربيّ السّابق. ولهذا التناص سلسلة تبدأ أولى حلقاتها في القرن التاسع عشر، دون أن يضمّ القرن العشرون ما يدلُّ على انقطاعها. فقد حاكى الروائيون العرب، أوّل الأمر، روايات معرَّبة وملخَّصة ذات بناء فنيّ تقليديّ. غير أن محاكاتهم لم تكن دقيقـة لأسباب كثيرة، أولها أنهم لم يحـاكوا الأصل، بل حاكوا الفرع المعرَّب والملخَّص، وثانيها أنهم لم يتقيَّدوا بمنطق السّرد الروائي الغربيّ ؛ لأنهم لم يكونوا بمنجاة من السرد العربيّ الحكائيّ الذي نشؤوا في أحضانه ورُبِّيتْ أذواقهم الأدبيّة عليه. وهذا يعني أن البناء الفني للرواية التقليدية لم يدخل الأدب العربيّ كما قدَّمته الرواية الأجنبيّة، بل دخل هذا الأدب وقد حمل بعضاً من التعديلات(1)، أو قُلْ إن البناء الفنّيّ دخل الأدب العربي وهو يحمل بعض البصمات العربيّة(2)، ورسخ فيه على هذا النحو، بحيث أصبح اللاحق من الروائيين ينسج على منوال سابقه وهو يشعر بأنه يواجه جنساً أدبيّاً لا تُقيّده القواعد الصّارمة.
هل يُعلِّل هذا الأمر محافظة الروايات العربية التي صدرت حتى خمسينيات القرن العشرين على البناء الفنيّ التقليديّ المحدَّث تحديثاً طفيفاً ؟. لعلّه يُعلِّل ذلك، وخصوصاً إذا أضفنا إليه ما نعرفه من أن الروائيين العرب لم ينصرفوا إلى الرواية وحدها ؛ لأنها لم تكن سيّدة الأجناس الأدبيـة آنذاك، كما أنها لم تكن تملك القدرة والرصيد اللذين يساعدانها على منافسة القصة القصيرة. يصدق ذلك على محمد حسين هيكل وعباس محمود العقَّـاد وإبراهيم عبد القادر المازني وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور. ولكنه، في الوقت نفسه، لا يصـدق على نجيب محفوظ الذي قرأ في بداياته الروايات (البوليسيّة) المترجمة بتصرف(3) كما فعل سابقه محمود تيمور(4)، كما قرأ المنفلوطي قبل أن يقرأ ما كتبه طه حسين والعقّاد والمازني وهيكل والحكيم(5). ولم يلتفت محفوظ قبل عام 1936 إلى قراءة الروايات الجديدة لكافكا وبروست وجويس(6) باللغة الانكليزيّـة غالباً وبالفرنسيّـة قليلاً(7). ولهذا كله، فضلاً عن موهبته واستعداده الشخصيّ، ضمَّ البناء الفني التقليديّ في رواياته قدراً من التحديث لم يُحقِّقه سابقوه. فرواياته (من الثلاثيّة، وهي قالب جديد لم يعرفه البناء الفنيّ للرواية التقليديّة لدى سابقيه(8)، إلى ميرامار، وهي تضمُّ بناءً فنياً ذا تقنية حديثة لم تعرفها الرواية التقليدية هي تقنية الأصوات وتعدُّد الرواة) تكاد تشمل التنويعات الفنيّة التي ما زالت سائدة في البناء الفني للرواية العربية التقليدية المحدَّثة. ولكنْ، هل يعني ذلك أن الروائيين الذين برزوا بعد نجيب محفوظ خرجوا بطريقة أو بأخرى من معطفه بوساطة التناص ؟. وما مدى تأثُّر هؤلاء الروائيين بنجيب محفوظ ومحاكاتهم نصوصه الروائية(9) ؟. ألم ينتج بعض الروائيين العرب، كعبد الكريم ناصيف وخيري الذهبي ونبيل سليمان وخيري شلبي وأحمد إبراهيم الفقيـه وإبراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف، ثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات تعالج جوانب في مجتمعات بلدانهم تداني ما عالجه نجيب محفوظ في ثلاثيته مما يخص المجتمع في مصر ؟. ألم ينجح روائيون عرب آخرون في توظيف تقنية تعدُّد الأصوات بعد نجاح ميرامار في هذه التقنية ؟.
إن التناص الروائي العربي يحتاج إلى باحثين ذوي معرفة وموهبة وقدرة على تحليل العلاقة بين النصوص العربية الروائيّة السابقة واللاحقة. ومسوّغ هذا الاقتراح هو اعتقادي بأن التناص عامل من عوامل استمرار الروائيين العرب في إنتاج نصوص روائية ذات بناء فني تقليديّ محدَّث، وفي إبقاء هذا البناء التقليديّ حياً متألِّقاً في أحايين كثيرة، وفي تشجيع الروائيين الجدد على التقيُّد بنهجه والإبداع في حدوده، تبعاً لتوافر الوضوح والتماسك فيه، وهما عاملان يستجيبان للذائقة العربية الراغبة في الفهم والتواصل مع المقروء، فضلاً عن الإيمان بوظيفة الرواية في المجتمع. وهذا الشعور الثقافيّ الجمعي ليس هيِّناً ؛ لأنه أعاق انتشار الرواية الجديدة، وقصر الإفادة منها على تقنيات عزّزت البناء التقليديّ وقوّت جذوره، وساعدته على أن يستمر في الحياة زمناً لا يعلم مداه أحد.
2 / بيد أن البناء الروائيّ العربيّ التقليديّ لا يتضح إذا لم أُشر، ولو إشارة موجزة، إلى المفهوم الغربي للروايـة التقليدية كما قنّنه النقاد ابتداءً من فورستر في كتابه (أركان الرواية) الصادر عام 1927. ذلك أن المفهوم الغربيّ للرواية التقليدية ينبع من منح الروائيّ صفة (الخالق) وحقوقه وامتيازاته، فيسمح له بانتقاء الحوادث التي يؤمن بقدرتها على تمثيل (الواقع) والتعبير عنه. كما يسمح له بخلق الشخصيات التي تتفاعل مع هذه الحوادث وتقود حركتها إلى الخاتمة حيث الدلالة النهائيّة المعبِّرة عن رؤيا محدَّدة أو مغزى معيَّن. وتشترط الرواية التقليديـة على هذا الخالق الاتصاف (بالموضوعيّة) و (الصدق) في (التعبير) عن (الواقع). والموضوعية في عرفها لا تعني (الحياد) أو منع الروائي من طرح رأيه الخاصّ، بل تعني (الصدق) في التعبير، وإشراف الروائي من علٍ على ساحة الرواية دون تدخُّل مباشر يجعل المتلقي يرى الروائي أو يشعر بوجوده. ومن ثَمَّ يبقى الروائي والمتلقّي معاً في موقع الملاحظ والمحلِّل والحَكَم(10).
هذا يعني أن الرواية التقليدية تحتاج إلى بناء روائي (متماسك) أو (شكل عضويّ) تلتحم فيه الأجزاء الفنيّة بغية إبراز المضمون على نحو يُمتِّع المتلقّي ويقنعه بما يقرأ ويؤثِّر في سلوكه ويُوسِّع رؤيته للواقع الذي يعيش فيه. وللروائي التقليدي، قبل ذلك وبعده، حرّيّة اختيار الوسائل التي تجعل عالمه الروائي جميلاً مقنعاً متماسكاً. فقد يختار بناء شخصياته من الخارج أو من الداخل، يتحدَّث عنها أو يتركها تتحدَّث عن نفسها. يلجأ إلى التسلسل التاريخيّ للزمـن أو يتلاعب به قليلاً(11). يسرد حوادث الرواية ضمن حبكة تعتمد التسلسل التاريخي أو يسردها ضمن حبكة تعتمد التقديم والتأخير والإزاحة. يختار الروائي التقليدي ما يشاء من الوسائل الفنية، ولكنّـه يجد نفسه دائماً في مواجهة مقياس يتيم هو (الفن) ؛ أي أنه مطالب بتقديم عمل فني. وكلُّ اختيار غير صحيح، أو استخدام منحرف للوسيلة، يؤثِّر في إبعاد العمل الروائي عن الفن. وإذا كان تحديد لفظة (الفن) صعباً لارتباطها بالإبداع، فإن نقّاد الرواية الذين حلّلوا الروايات المتَّفق على جودتها الفنية خرجوا بمقاييس يصحُّ اعتمادها معياراً للاستخدام السليم للوسيلة الفنية، على الرغم من أن الاستخدام السليم الدقيق للوسائل الفنية كلها غير قادر على أن يصنع وحده رواية فنية إذا لم يكن الروائي موهوباً ؛ لأن الإبداع يرتفع فوق المقاييس معلناً تمرُّده عليها، مشيراً إلى خصوصيّة المبدع وتفرّده.
ثم إن الرواية التقليديّة تعتمد اعتماداً رئيساً على السرد في نقل الحوادث الروائية إلى المتلقي. وعلى الرغم من أن الحوار يسهم أيضاً في نقل الحوادث إلى المتلقي، فإن الرواية التقليدية تحتفظ للسرد بمكانة خاصة لا ترقى إليها وسيلـة فنيّة أخرى، حتى إنه يصحُّ وصف الرواية التقليدية بأنها (فنّ سرد الحوادث). ولعلَّ إيثار السرد عائد إلى أن الروائي التقليديّ نفسه يقف من روايته موقف الخالق الراغب في الإشراف على خلقه، فضلاً عن الضرورات الفنيّة، كتلخيص الحوادث وتقديم الأخبار والوصف … وهذه الصفة السرديّة لا تعني(12) في الحالات كلّها أيَّ حكم معياريّ بالصـواب والخطأ، بالمدح أو الذَّم، بل تعني ضرورة (السّرد) للرواية التقليدية ليس غير.
ومن البديهيّ أن تكون الحوادث أهمَّ مكوِّنات السرد ؛ لأن الرواية التقليديـة تنقل إلى المتلقي (حكاية) ما، بل إنه ليس هناك روايـة تقليديـة دون حكاية واضحة محدَّدة تُعبِّر عن الواقع تعبيراً رمزياً. واستناداً إلى أن الحكاية تتألَّف من حوادث عدّة يجب نقلها إلى المتلقي، فإن السرد مطالَب بمهمّة إيصال الحوادث إلى هذا المتلقي. وناقد الرواية التقليدية يهتمّ في العادة بمنظور الروائيّ أو بالزاوية التي نظر منها الروائيّ إلى حوادث حكايته، لمعرفـة كيفيّة سرد الحوادث على القارىء المتلقي. والمعروف أن الرواية التقليدية لا تُقيِّد الروائي بطريقة محدَّدة يعرض الحوادث بوساطتها، ولكنّها تُفضِّل طريقة السرد التأريخيّ ؛ لأن هذه الطريقة تحافظ على عرض الحوادث من بدايتها إلى نهايتها دون تقديم أو تأخير، أو ما اصطلح النقّاد على تسميته بالنسق الزمني الصاعد. ولو كانت الرواية التقليدية تُقيّد الروائي بطريقة واحدة في السرد لما تعدّدت حبكاتها، ولما قبلت التقنيات السرديّة الحديثة، كالتلاعب بالأنساق الزمنية وتنويع الضمائر واللغة وخلخلة وحدة الحدث وما إلى ذلك من إزاحات فنية.
كذلك الأمر بالنسبة إلى تنويع طرائق سرد الحوادث، فهو تابع لمشيئة الروائي التقليدي وللزاوية التي ينظر منها إلى حوادث روايته، أو بتعبير أكثر حداثـة : قد يختار الروائي التقليدي موقعاً محدَّداً، أو يختار اللاموقع، أو يلجأ إلى الإفادة من تعدُّد المواقع. ويفضحه في ذلك كلّه راويه. فإذا حلَّ الراوي في إحدى الشخصيات كان راوياً ممثَّلاً ينمّ على أن الروائي اتخذ مـوقع المشارك المنحاز وموقفه. وإذا اختار راوياً عالماً بكلّ شيء دلَّ ذلك على أن الروائي اختار اللامـوقع، وترك لراويه العالِم فرصة السياحة في الرواية والانتقال من شخصية إلى أخرى. أما اختياره عدّة رواة، وتركه كلّ راو يحلُّ في إحدى الشخصيات ويُعبِّر عن وجهة نظرها، رغبةً منه في الإشارة إلى حياده وتعدُّد مواقعه، فطريقة لم تعرفها الرواية التقليدية بادىء الأمر ولكنّها استعملتها في تطوراتها التحديثيّة اللاحقة. ومن المفيد القول إن سرد الحوادث لا علاقة له بالحيل الأسلوبيّة التي يلجأ إليها الروائي التقليدي ليضفي شيئاً من المصداقيّة على ما يرويه، أو ليعلن انفصاله عمّا يرويه(13)، كإيرادها في شكل الترجمة أو الترجمة الذاتيّة أو أسلوب الرسائل أو المذكِّرات أو غير ذلك من الحيل التي لا تُؤثِّر في الطريقة التي يسرد بها الروائي حوادث حكايته. ويبدو أن هذه الحيل الأسلوبيّة بلغت من الشيوع في تاريخ الرواية التقليدية حدّاً دفع بعض النقاد إلى إدراجها في عداد طرائق عرض الحوادث(14).
إن الروائي التقليدي معنيّ بسرد (حكاية) ما، ذات حوادث محدَّدة واضحة، تحافظ على منطق روائي مقبول من القارىء، مقنع له لأنه مستمدّ من منطق الحياة نفسها(15). وهذا يعني أن الروائيّ التقليديّ (يُعْلِم)(16) القارىء (ليؤثِّر) فيه. ولا يكون التأثير سليماً إذا لم يكن الإعلام دقيقاً. ولهذا السبب تتشبّث الرواية التقليدية بالشكل العضويّ الذي ينبع من تماسك الحوادث الروائية وارتباطها ببيئتها الزمانيّة والمكانيّة وبالشخصيات التي تخلقها وتتفاعل معها. ومن ثَمَّ كان ناقد الرواية التقليدية مطالباً بالالتفات إلى تماسك الحوادث ووحدتها وجريانها نحو التعبير عن رؤيا معيَّنـة، أو تفكّكها ومجافاتها منطق التسلسل والسببيّة وعزلتها عن الشخصيات وغرابتها وبُعْدها عن المألوفيّـة وتعدُّد مراكزها، وأثر ذلك كله في منح الحوادث التماسك المرغوب فيه للإسهام في صنع الشكل العضويّ للرواية. والناقد، عادةً، يتساءل : ما المنطق الذي يُسيِّر حوادث الرواية ؟. وما مدى الارتباط بين هذه الحوادث ؟. وما صلتها ببيئتها الزمانيّة، وبالمكان الذي تتحرّك فيه ؟. هل تطغى الحوادث فيها على الشخصيات أو الشخصيات على الحوادث أو أن هناك اتحاداً بينهما ؟. وهل هناك ارتباط بين معطيات المكان ومنطق الحوادث ؟. إن الإجابة عن هذه الأسئلة جزء من مهمة ناقد الرواية التقليدية ؛ لأن هذه الرواية تعتمد التماسك مبدأً، وتعير المرتكز الواحد شيئاً غير قليل من اهتمامها، وتُدقِّق في البيئة الزمانية والمكانيّة. بل إن البناء الدراميّ للرواية التقليدية قائم على ارتباط الحوادث بالشخصيات ضمن بيئة زمانيّة ومكانيّة محدَّدة، من بداية الحوادث إلى تعقُّدها وخاتمتها.
ودون شكّ فإن الأمور السابقة مكوِّنات العالم المتخيَّل المغلق الذي يحاول الروائي التقليدي إقناع القارىء بوجوده وقدرته على احتواء العالم الخارجيّ وكأنه ينقله أو ينسخ منه شيئاً. وإن الحادثة في هذا العالم متخيَّلة، ولكنّ العنصر التخيُّليّ فيها لا يعني أنها منفصلة عن الواقع الحياتي الخارجيّ، أو أنها من كوكب آخر غير كوكب القارىء. إنها في إطارها العامّ وتفصيلاتها الصغيرة مستنبطة من الواقع، ولكنّها مؤلَّفة بوساطة الخيال لتؤدّي دلالة محدَّدة. فالحياة الحقيقيّة ذات الحوادث المتفرِّقة التي تتعذَّر ملاحقتها ومعرفة مصائر أفرادها، لا تسمح للإنسان بالإمساك بها ورؤيتها على نحو سليم. وقد تنطَّعت الرواية التقليدية لمهمّة تكثيف حوادث الحياة وعرضها متماسكة مقنعة تؤول إلى خواتيم طبيعيّة، حتى إذا قرأ الإنسان رواية ما، واقتنع بما قدَّمته له، انفعل بها وكان انفعاله مقدّمة لتغيير سلوكه وتعديله، أو ما نقول عنه عادةً : توسيع حساسيّته تجاه الحياة، أو تغيير نظرته إليها. ثم إن الروائي التقليديّ يرى الحياة الحقيقيّة منطقيّةً، ولهذا السبب يحرص على أن يُدقّق في هذه الحياة ليخلق عالمـاً روائياً مشابهاً لها في أطره العامة وتفصيلاته الصغيرة، وعلى اختيار الشخصيات التي تتفاعل منطقياً مع هذه الحوادث، وعلى الزمان والمكان لأن الحوادث لا تقع في الفراغ.
3 / إن الحديث السابق عن مفهوم الرواية التقليدية ينطلق من مفهوم محدَّد للنص الروائي، هو أنه نصّ تخييليّ مغلق على نفسه، يُعبِّر بلغته عن معناه ودلالته دون حاجة إلى مرجع خارجيّ ؛ أي أنه نصّ مكتف بقوانينه الداخليّة، يُقدِّم مجتمعاً متخيًّلاً يُحيل إلى نفسه. والروائيّ، تبعاً لهذا المفهوم، مبدع خالق يُطلُّ من علٍ ولكنّه لا يتدخَّل في خلقه. وهذا يعني أن الروائي يبدع الرواية ولكنّه يوهم القارىء المتلقي بابتعاده ابتعاداً كاملاً عنها. ولو دقّقنا في البناء الفني للرواية العربية استناداً إلى مفهوم النص والروائي في الرواية التقليدية لاكتشفنا أن الجيد من الروايات العربيّة هو الذي جسَّد المفهوم السابق للنصّ المغلق والروائيّ الخالق، وأن المتوسط والضّعيف منها هما اللذان خرقا هذا المفهوم، ووضعا الرواية العربية في مشكلات (المطابقة) و (السيرة) و (التاريخ). ومن المفيد أن نتعرَّف البناء الفني لهاتين الفئتين لنعي الطبيعة الفنيّة للرواية العربية التقليدية المحدَّثة التي نُحلّل نصوصاً منها في هذا الكتاب.
تشير الرواية العربية إلى أن الروائيين مختلفون في تحديد مواقعهم من رواياتهم. فهم نظرياً يعترفون باستقلاليّة نصوصهم، ويبتعدون عن التدخُّل فيـها، ويبقون خارجها يُحرِّكون خيوطها بوساطة الراوي. ولكنّهم – كما تدلُّ نصوصهم الروائية – فريقان : فريق يُجسِّد ما آمن به نظرياً فيروح يستخدم الراوي المشارك المنحاز الممثَّل، وفريق لا يُطبِّق ما آمن به ويروح يستعمل الراوي الحياديّ العالم بكل شيء. ولا بأس في أن أُقدِّم هنا تدقيقاً في عمل هـذين الفريقين، عماده التفريق بين الروائيين الذين اتخذوا اللاموقع ستاراً للسيطرة على المجتمع الروائي، والذين اتخذوه وسيلة لخلق هذا المجتمع ؛ لأن هذا التفريق ضروري للناقد الراغب في التمييز بين روايـة فنية استخدمت الراوي الحيادي العالم بكل شيء، وأخرى ضعيفة استخدمت الراوي نفسه. وإلا فإن الظن سيذهب إلى أن استعمال الراوي العالم بكل شيء سيِّىء دائماً لا يُخلِّف وراءه غير النصوص الضعيفة، وهذا أمر يجانب واقع الرواية العربية. ذلك أن الروائيين العرب استعملوا الراوي العالم بكلّ شيء، وأنتجوا بوساطته نصوصاً انعقد الإجماع على دقتها الفنية، كما هي حال غالبيّة روايات نجيب محفوظ(17) وعبد السلام العجيلي(18) والطاهر وطّار(19) وأحمد إبراهيم الفقيه(20) وغيرهم.
ولا أشكُّ في أن استعمال الراوي العالم بكلّ شيء يعني أن الروائي متشبِّث باللاموقع. بيد أن هذا التشبُّث ينمُّ حيناً على الرغبة في السيطرة على المجتمع الروائي، ويدلُّ أحياناً على أن الروائيّ راغب في خلق مجتمع روائي. ومعيار التمييز بين هذين الأمرين ينبع من الروايات العربيـة نفسها. فناقد روايـة (الدّوّامة)(21) لقمر كيلاني و( ريح الجنوب)(22) لعبد الحميد بن هدوقة و (نداء الصفصاف)(23) ليحيى قسام و (سلاماً يا ظهر الجبل)(24) لوهيب سراي الدين و(البحر ينشر ألواحه)(25) لمحمد صالح الجابري قادر على أن يحكم على هذه الروايات بتوافر الحدّ الأدنى من المستوى الفني، وقادر أيضاً على أن يحكم على (ليلة المليار)(26) لغادة السّمَّان و (سلام على الغائبين)(27) لأديب نحوي و(الأسماء المتغيرة)(28) لأحمد ولد عبد القادر و (العودة من الشمال)(29) لفؤاد القسوس و (فياض)(30) لخيري الذهبي بالجودة الفنية على الرغم من أنها كلها استعملت الراوي العالِم بكل شيء. وإذا رغب الناقد في أن يكون حكمه موضوعياً فإنه مطالب بالالتفات إلى أن الروايات المتوسطة الجودة أعطت الراوي العالِم بكل شيء سلطات واسعة فجعلته ينقل إلى المتلقي دخيلة الشخصيات وحركتها الخارجية، دون أن يترك لها فرص التعبير عن نفسها، ومن ثَمَّ بدت الشخصيات في هـذه الروايات جامدة أو أقرب إلى الجمود. لا يشعر القارىء أنها حية في المجتمع الروائي، بل يشعر أنها مقيَّدة، ويلاحظ في مقابل ذلك الحرية الواسعة الممنوحة للراوي. والقارىء، عادةً، يُحبُّ أن يرى الشخصيات تُعبِّر بملفوظها وسلوكها عن نفسها، ولا يحبُّ أن يُحدِّثه شخص آخر عنها. أما الروايات الأخرى التي يمكن الحكم عليها بالجودة الفنية فقد قيَّدت الراوي العالِم بكل شيء، وحدّت من سلطاته، فقصرته على أمكنة رأى الروائيُّ نفسَه عاجزةً عن التعبير عنها دون وساطة الراوي. وهذا الراوي المقيَّد موضوع في هذه الروايات في خدمة الشخصية، لا يطغى عليها، بل يخدم سعيها في عالم الرواية، وتبدو معرفته محدودة بالقياس إليها.
بيد أن الروائيين العرب الذين أساؤوا استعمال الراوي العالِم بكل شيء أكثر عدداً من الروائيين الذين نجحوا في توظيفه لخدمـة الشخصيات في رواياتهم. والنوعان معاً دليل على أن الروائيين العرب ما زالوا يؤثرون (اللاموقع) موقعاً، ويجعلونه الدليل على رغبتهم في التحكُّم المباشر بعالم الرواية، سواء أكان تحكُّمهم شاملاً أم محدوداً. وهذا التحكُّم يجافي الموقف الديمقراطيّ من عالم الرواية، كما يجافي تصريحات الروائيين النظرية باستقلاليّة نصوصهم الروائيّة. وإذا كان لكلِّ شيء سبب فإنني أعتقد أن الولوع بالراوي العالِم بكل شيء نابع من الأمرين الآتيين :
أ – مأزق الروائيّ العربيّ في التعبير عن دخيلة شخصياته. ذلك لأن هذا الروائي يعي جيداً أن إضفاء الحياة على الشخصية الروائية يحتاج إلى رصد سلوكها الخارجيّ وأفكارها وأحاسيسها الداخليّة وردود أفعالها على الحوادث الخارجيّة، ولكنّه يجد نفسه عاجزاً عن التعبير عن دخيلة الشخصية بوساطة الحوادث، فيلجأ إلى الراوي العالم بكل شيء ليُقدّم بوساطته العبارات التي تنمّ على هذه الدخيلة، كفكَّر وتمنّى ورغب وفرح … وإذا أحسنا الظنّ قلنا إن هناك تناصاً ؛ أي تأثُّراً بالروايات التي قرأها الروائي وكانت تضمُّ راوياً عالماً بدخيلة الشخصيات، عاملاً على نقلها إلى القارىء المتلقي بوساطة الأفعال السابقة. والدليل على ذلك أنني عثرتُ على العبارات نفسها لدى عدد كبير من الروائيين العرب. من أمثلة ذلك في سورية روايتا حسن جبل (1969) وآن له أن ينصاع (1978) لفارس زرزور. ففي هاتين الروايتين عبارات استعملها الراوي العالم بكل شيء لا تكاد تختلف عن العبارات التي استعملها في رواية (الدوامة) لقمر كيلاني.
حسن جبــل : ضحك في سرّه – فكّر – يردّد في نفسه – قال في نفسه – تذكَّر – تساءل .
آن له أن ينصاع : فكّر – شعر – قرّر بينه وبين نفسه – تذكّر – أحسّ – تمنّى – قال في نفسه .
الدوامـــة : تفكّر – تتذكّر – تشعر – تتمنّى – تحسّ – تقول في نفسها – لنفسها تردّد .
وليس استعمال الراوي الأفعال السابقة خاصاً بسورية وحدها، بل هو عام شامل الدول العربية. رأيتُـه عند غالب هلسا في (الخماسين)، وفيصل حوراني في (المحاصرون)، وشريف حتاتـة في ثلاثيته (العين ذات الجفن المعدنية – جناحان للريح – الهزيمة). فقد أكثر غالب هلسا في الخماسين من الأفعال الثلاثة الآتية : قال لنفسه – قالت لنفسها – فكّر(31). كما أكثر فيصـل حوراني من فعلي : فكّر وتذكّر(32). أما شريف حتاتة فقد بالغ في استعمال الأفعال الدالة على دخيلة شخصياته على الرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة وبُعْد الشخصيات أو قربها من الراوي(33).
ب – رغبة الروائي العربي في التعبير المباشر عن أيديولوجيته. ذلك لأن الروائي الجيّد يُعبِّر عن أيديولوجيته تعبيراً غير مباشر، فيخلق عالماً روائياً يضجُّ بالصراعات والآراء التي تُقـدّم للقارىء ما يرغب الروائي في التعبير عنه. ولكنّ الروائي المتوسِّط الجودة لا يملك القدرة على الخلق السوي، فيحتال على ضعفه باستعمال التعبير المباشر الذي يُقدّمـه الراوي العالم بكل شيء. وهذا الأمر يتصل بموضوع طرح (الرؤيا) في الرواية، تلك الرؤيا التي آثرتُ الحديث عنها في الفصل الثاني من هذا الكتاب. ذلك أن الرؤيا في الرواية الجيدة تنبع من النصّ، وفي المتوسطة تتحكّم فيه، وفي الضعيفة تُفرض عليه. ولعلَّ الروائيين(34) متوسطي الجودة هم الذين أكثروا من استعمال الراوي العالم بكل شيء ستاراً للسيطرة على رواياتهم ووسيلة لتحكُّم الرؤيا فيها أو فرضها عليها.
أما الراوي الممثَّل فيختلف اختلافاً واضحاً عن الراوي العالم بكل شيء. وينبع هذا الاختلاف من موقع الروائي ويؤثِّر تأثيراً كبيراً في بناء الرواية. ذلك أن الراوي الممثَّل يدلُّ على أن الروائي راغب في أن تُعبِّر إحدى الشخصيات عن وجهة نظره، ولهذا السبب يترك راويه (نائبه) يتماهى بهذه الشخصية مكتفياً بما تراه وتسمعه وتفكّر فيه. إنه راو محدود المعرفة، مشارك في حوادث الرواية ومنحاز إلى إحدى شخصياتها. وهذا يعني أن الروائي اتخذ لنفسه موقعاً محدَّداً وترك للشخصية التي تماهى راويه بها فرصة التعبير عن نفسها بنفسها. ولو أنعمنا النظر في بناء الرواية العربية استناداً إلى هذا الراوي الممثَّل لاكتشفنا ما اكتشفناه في أثناء الحديث عن الراوي العالم بكل شيء من أن هناك استعمالين للراوي الممثَّل، التزم الراوي الممثَّل في أولهما بشخصيـة واحـدة ولم يجاوزها إلى غـيرها، كما هي الحال في (صوت الليل يمتد بعيداً)(35) لعبد النبي حجازي و (هزائم مبكِّرة)(36) لنبيل سليمان و( أنت منذ اليوم)(37) لتيسير سبول. فالراوي الممثَّل في الأولى يتماهى بعرندس، وفي الثانية بخليل، وفي الثالثة بعربي، ويبقى في الروايات الثلاث ملتزماً بدقة بهذه الشخصيات، ولا يمتدُّ علمه إلى شيء خارج ما تراه وتسمعه وتشعر به. بيد أننا نرى الراوي نفسه مختلفـاً في (الحـلم الوردي)(38) ليحيى قسّام و (الأشرعة)(39) لنبيل سليمان. ففي الرواية الأولى يتماهى بشخصية أحمد سعيد ولكنه لا يقصر علمه عليها، بل يهيمن على الشخصيات الأخرى ويروح يعكس أفعالها ويخفي أفعاله، ومن ثَمَّ لم يؤدّ الوظيفة التي اصطُنع من أجلها وهي الإسهام في خلق شخصية أحمد سعيد. وفي روايـة (الأشرعة) نرى هذا الراوي لا يكتفي بشخصية واحدة، بل ينتقل من شخصية إلى أخرى، وحين يحلُّ في إحدى الشخصيات يتماهى بها، حتى إذا غادرها إلى غيرها نقل تماهيه معه، وبالتالي جسَّد وظيفة لم يُصْطَنع لها أيضاً، هي الإسهام في خلق عدد من الشخصيات. وراوي (الأشرعة) في هذه الحال أشبه بالراوي الحيادي العالم بكل شيء في رواية (ليلة المليار) لغادة السمّان، وخصوصاً التشابه بينهـما في بناء الرواية استناداً إلى الراوي الرَّحَّالة، وكأنّ اللاموقع طابق الموقع في هاتين الروايتين، وأسهم مثله في بناء رواية درامية تبدأ بالحديث عن نقاط عدّة مختلفة متباعدة ثم تترك الخيوط تلتقي في بؤرة مركزيّة تتعقّد قبل أن تؤول إلى الحلّ.
وإذا كانت روايتا (الحلم الوردي) و (الأشرعة) تُمثِّلان خرق السائد في استعمال الراوي الممثَّل فإن هناك روايتين أخريين استعملتا الراوي نفسه والتزمتا بشخصيـة واحدة، هما (صوت الليل يمتد بعيداً) و (هزائم مبكّرة). فقد التزمت الشخصية في هاتين الروايتين (ووراءها الراوي الممثَّل) بالتعبير عن نفسها بضمير المتكلّم، ولكنّ بناء الرواية الأولى أشد إحكاماً وتماسكاً وقدرة على خلق شكل عضوي من الرواية الثانية. وربّما علّل التفاوت بين الروايتين ما هو معروف عن خبرة عبد النبي حجازي في بناء رواية الشخصية(40)، ولكنّ هذا التعليل يجب أن يُرَافق بمأزق بناء الرواية العربيّة استناداً إلى الراوي الممثَّل. ذلك أن الروائيين العرب شعروا بأن الراوي الممثَّل يوفِّر لهم فرصة خلق إحدى شخصيات الرواية، ولكنه لا يعينهم على خلق مجتمع روائي يضجُّ بالحياة والصراع وإنْ وفَّر لهم فرصة الغوص في إحدى الشخصيات. وعبد النبي حجازي نفسه لم ينجـح في رواياتـه السابقـة كما نجح في (صوت الليل يمتد بعيداً) على الرغم من أنه استعمل فيها كلها الراوي الممثَّل ذاته. وأعتقد أن انتقال راوي (الأشرعة) من شخصية إلى أخرى، وهو راو ممثَّل، لم يكن غير حلٍّ فنيّ ارتآه نبيل سليمان للتخلُّص من مأزق الانصراف إلى شخصية واحدة على حساب المجتمع الروائي.
ولا أشكُّ في أن تعدُّد الرواة والمواقع مؤهَّل أكثر من الراوي الممـثَّل والراوي العالم بكل شيء لتقديم بناء روائي مقنع مؤثِّر. ذلك أن الراوي في هذه الحال يختفي ويترك النصّ لعدد من الرواة، لكلِّ راو وجهة نظره في الحكاية الروائيّة. وإنني أفضِّل تسمية الشخصية في هذه الحال صوتاً، وأعتقد أن الرواية التي تنصرف إلى تعدُّد الأصوات تُعبِّر عن أن القصة، وهي الشيء الذي يُحْكَى في الرواية، ليست مطلقة بل هي نسبيّة تختلف باختلاف الراوي القائم بالقصِّ (الحكي). وقد لاحظتُ أن مظهر التحديث في الرواية التقليدية العربية انطلق من تعدُّد الرواة. وأبرز الأمثلة هنا الثلاثية وميرامار لنجيب محفوظ ومصرع ألماس(41) لياسين رفاعية. ففي هذه الروايات التزام تامّ بمنظـور الشخصية وابتعاد كامل عن تدخُّل الراوي(42). ولكنّ تحديث الرواية التقليدية لم يقتصر على تعدُّد الرواة، بل قدَّم استعمالات أخرى للراوي القديم. ففي رواية (رحيل البحر)(43) لمحمد عز الدين التازي راو غير مشارك في الحوادث ولكنّه يُوهم القارىء بأنه مشارك(44)، ومن ثَمَّ كان هنـاك ضميران : هو – نحن. وفي رواية (تلك الرائحة)(45) لصنع الله إبراهيم بطل ليس له اسم ولا عنوان على الرغم من أننا نراه راوياً منحازاً يستعمل ضمير المتكلم(46). كما أننا في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)(47) للطيِّب صالح نرى الراوي شخصية من شخصيات الرواية، تصف، كما يقول سامي سويدان، وتُوصف(48). وهذه الأمثلة الروائية تدلُّ دلالة لا يرقى إليها الشّكُّ على أن الرواية التقليديـة لم تتردّد في قبول التقنيات الحديثة وإنْ جهدت في توظيفها لخدمتها، وكادت الخيوط تفلت منها لصالح الرواية الجديدة في عدد من الروايات كرحيل البحر وموسم الهجرة إلى الشمال وتلك الرائحـة والمجوس(49) لإبراهيم الكوني.
4 / مهما يكن الأمر فإن البناء الفني لعدد لا يُستهان به من الروايات العربية أُصيب بالخلل نتيجة سيطرة المفهومات غير السليمة على النقَّاد والروائيين، وخصوصاً مفهوم المطابقة الذي يعني التطابق بين الواقعين الروائي والخارجي، ومحاكمة الأول استناداً إلى الثاني. ذلك أن مفهوم المطابقة أثَّر في مخيِّلة الروائيين العرب فأبعدها عن أن تُنْشِىء عملاً تخييلياً يكتفي بقوانينه الداخلية ويحيل إلى نفسه، ودفعها إلى التشبُّث بالمرجع الخارجيّ وتفصيل العالم المتخيَّل على مقاسه. ومن ثَمَّ لم تكن المطابقة مجافاة لمفهوم الرواية التقليدية فحسب، بل كانت، قبل ذلك وبعده، خرقاً للفنّ نفسه. ففنُّ الرواية التقليديّة يؤمن بخلق الشخصية الروائيّة المتخيَّلة، ويعدُّها مكوِّناً روائياً مهماً جـداً. ولكنّ العاملين في حقل علم النفس أثروا في النقاد والروائيين، فصرنا نرى الروائي نتيجة ذلك يُقدِّم ذاتاً فرديّة خاصّة أو استثنائيّة بغية الحديث عن جوهرها السيكولوجيّ الذي يتـفق وما قدَّمه المحلّلون النفسانيّون. والروائي، في هذه الحال، يقيم مطابقة بين المحتوى النفسي للإنسان في الواقـع الخارجي، والمحتوى نفسه للشخصية الروائية داخل المجتمع الروائي، غافلاً عن أنه يكفي داخل الرواية أن تنسجم الشخصية وطبيعتها النفسيّة والمزاجيّة وعلاقاتها الاجتماعيّة.
وهناك نوع آخر من المطابقة يتجسَّد في العلاقة بين الشخصية الروائيّة وخالقها الروائي. إذ انطلق بعض الروائيين العرب من أن الشخصية داخل المجتمع المتخيَّل انعكاس للتجارب المعيشة للروائيّ، وخصوصاً في الروايات التي تستعمل ضمير المتكلِّم(50)، وكأنّ الرواية سيرة ذاتيّـة لمؤلِّفها، أو هي سيرة إنسان آخر رغب الروائي في نقلها إلى القارىء. والمعروف أن الرواية التقليدية لا تقرُّ المطابقة بين الشخصية والروائي لسبب مهمّ هو أنها تعدُّ الشخصية ابتداعاً من الخيـال جسَّده الروائيّ ليحقِّق بوساطته غاية فنيّة محدَّدة(51). وليس ببعيد عنا ما فعله الروائيون ذوو العقائد السياسيّة من نقل الصفات التي يرونها صحيحة في الواقع الخارجي إلى شخصيات رواياتهم في نوع من الإسقاط يرضي نزوعهم الأيديولوجيّ. ولهذا السبب أصبحنا نلاحظ في البناء الروائي العربي نوعين من الشخصيات : شخصيات خيِّرة وأخرى شِرِّيرة، الأولى في القاع الاجتماعيّ الروائي والثانية في أعلى السُّلَّم الاجتماعيّ، بغية إقامة صراع بينها تستند إليه حركة الرواية الدرامية التي تنتهي في الغالب بانتصار العامل والفلاح والمظلوم على البرجوازي والإقطاعي والظالم. إن ثنائيّة الخيِّر والشِّرِّير، وهي ثنائيّة ضدّيّة، إحدى الثنائيّات التي نبعت من مفهوم المطابقة وربطت الروائي بالفكر وأبعدته عن رؤية الواقع الموضوعيّ للمجتمع العربي، وبالتالي أصابت البناء الفني للرواية العربية بالخلل لأنها جعلت مخيلة الروائيين مقيَّدة بالتعليمات الأيديولوجيّة، لا تملك القدرة على التحليق في الخيال لبناء عالم فني مقنع بقوانينه الداخلية وشرطه الإنسانيّ، وماتع ببنائه، ومؤثِّر بقدرته على فضح الدميم وترسيخ النبيل. [/align][/cell][/table1][/align]
|