مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
[align=center][table1="width:100%;background-color:limegreen;border:7px double white;"][cell="filter:;"][align=justify]
الفكر الروحي الصوفي في الإسلام " أو العشق الإلهي " لا شك أنه يستحق أن نفرد له مساحة واسعة نتناوله فيها، تاريخه ومفاهيمه ومراتبه.. تأثر بعض فرقه وتأثيره على الديانات الأخرى
ومما لا شك فيه أن هذا الباب يستحق منا أن نتعاون كل بما لديه من معلومات لإثراء هذا الملف ورفده.
لم يتعرض مذهب من المذاهب لما تعرض له الفكر الروحي الصوفي في الإسلام من اهتمام بالغ حد الانبهار من الغرب وأصحاب الديانات الأخرى التي كثيراً ما حاولت التعمق في دراسة الصوفية والاقتباس عنها هذا من جهة ومن جهة أخرى تعرض المذهب الروحي الصوفي لكثير من العوامل التي أضرت بسمعته من خلال فرق أدخلت في فكرها التطبيقي بعض المفاهيم البوذية والمجوسية إلخ..
كذلك موضوع المريد والولدان وما شابه من شبهات، بالإضافة لتعطيل فريضة العمل عند بعض الفرق.
بين كل هذا وقف مذهب التصوف بين عدوين لدودين هما: " المذهب الوهابي السلفي " من جهة و " المذهب الشيعي " من الجهة الأخرى.
المذهب الروحي الصوفي في الإسلام عند أهل السنّة أو ما يعرف بالزهد والعشق الإلهي، ما له وما عليه وما هي مراتبه؟؟
بماذا يمتاز وما هي مفاهيمه ولمحات من سيرة أشهر المتصوفين؟؟؟
أتمنى أن نتشارك جميعنا في رفد هذا الملف وإثرئه
ودعوني أبدأ بنقل هذا الحوار عن الشيخ البصري
يقول الشيخ عبد الواحد بن زيد البصري :
رأيت رجلاً في بعض أسفاري ، وعليه ثوب من الشعر ، فسلمت عليه .
قلت : رحمك الله أسألك مسألة .
قال : أوجز ، فإن الأيام تمضي ، والأنفاس تعد وتحصى ، والرب مطلع يسمع ويرى .
قلت : ما رأس التقوى ؟
قال : الصبر مع الله تعالى .
قلت : ما رأس الصبر ؟
قال : التوكل على الله .
قلت : وما رأس التوكل ؟
قال : الانقطاع إلى الله .
قلت : وما رأس الانقطاع ؟
قال : الانفراد لله .
قلت : وما رأس الانفراد ؟
قال : التجريد عما دون الله .
قلت : ما ألذ الأشياء ؟
قال : الأنس بذكر الله .
قلت : ما أطيب الأشياء ؟
قال : العيش مع الله .
قلت : ما أقرب الأشياء ؟
قال : اللحوق بالله .
قلت : أي شيء أوجع للقلب ؟
قال : فراق الله .
قلت : ما همة العارف ؟
قال : لقاء الله .
قلت : ما علامة المحب ؟
قال : حب ذكر الله .
قلت : ما الأنس بالله ؟
قال : استقامة السر مع الله .
قلت : ما رأس التفويض ؟
قال : التسليم لأمر الله .
قلت : وما رأس التسليم ؟
قال : ذكر السؤال عند الله .
قلت : ما أعظم السرور ؟
قال : حسن الظن بالله .
قلت : من أعظم الناس ؟
قال : من استغنى بالله
قلت : من أقوى الناس ؟
قال : من استقوى بالله .
قلت : من المغبون ؟
قال : من رضي بغير الله .
قلت : ما المروءة ؟
قال : ترك النـزول بدون الله .
قلت : متى يكون العبد مبعداً عن الله ؟
قال : إذا صار محجوباً عن الله .
قلت : ومتى يكون محجوباً عن الله ؟
قال : إذا كان في قلبه هم غير الله .
قلت : ومن الغمر [الغافل الذي لم يجرب الأمور ] ؟
قال : من انفق عمره في غير طاعة الله .
قلت : ما الزهد في الدنيا ؟
قال : ترك كل شيء يشغل عن الله .
قلت : من المقبل ؟
قال : من اقبل على الله .
قلت : ومن المدبر ؟
قال : من أدبر عن الله .
قلت : ما القلب السليم ؟
قال : الذي لم يكن فيه سوى الله .
قلت : اخبرني ، من أين تأكل ؟
قال : من خزائن الله .
قلت : ما تشتهي ؟
قال : ما يقضي الله .
قلت : أوصني .
قال : اعمل بطاعة الله ، وارض بقضاء الله ، واستأنس بذكر الله ، تكن من أصفياء الله .
المصدر: حالة أهل الحقيقة مع الله للشيخ أحمد الرفاعي - ص 81 - 83
باسم الله الرحمان الرحيم .
الحمد لله الذي وهبنا نعمة العقل , وجملنا بموهبة الفكر , وأسبغ علينا آلاء المعرفة , وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير البرية , وسيد البشرية , كلما ذكره الذاكرون , وغفل عن ذكره الغافلون . آمين .
أما بعد ,,, سيدي الفاضلة : هدى نور الدين الخطيب
بداية , أشكر لك سيدتي هذا الإهتمام بموضوع على جانب كبير من الأهمية , من قبيل ما نحن اليوم بصدد الخوض فيه .
سيدتي ,, حين الحديث عن الفكر الروحي أو" العشق الإلهي " بالكيفية المشكورة التي وردت في مداخلة سيادتك , لاشك أن استقصاء مراتب هذا العشق , وتتبع مآلات مفاهيمه المختلفة عبر الزمان والمكان , يصبح متعة مسكرة على طريق العروج إلى الله تعالى , لكن القول بأن الفكر الروحي مذهب قائم الذات , والحكم بعداوة السلفية من جهة ’ والتشيع من جهة أخرى لمسالك العشق الإلهي لدى أهل السنة , قد يعتبره الكثيرون استباقا للأحكام , فيحجمون عن إبداء الرأي بما يضعف فرص طرق هذا الموضوع المهم من أبواب شتى .
سيدتي الفاضلة , أليس من الأولى أن نستجلي مقامات العشق عند كل عاشق أولا ؟؟؟
أعلم أنني أضع الأصبع ــ مرة أخرى ــ على مكمن مؤلم , ولكنني أبتغي من وراء ذلك أن يستبين كل مشارك عن قرب , شفافية هذا العشق عند هؤلاء وهؤلاء , وبعدها ,,, فلنحكم .
دمت سيدتي بخالص المحبة وجليل التقدير .
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:100%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit4/backgrounds/130.gif');border:4px double limegreen;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify] بسم الله الرحمن الرحيم[/ALIGN][ALIGN=justify]
مخلف بن يحيى العلي الحذيفي القادري الحذيفي /سورية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين ، الحمد لله الذي هدانا لطلب العلم واسأله تبارك وتعالى أن يكرمنا بنور الفهم وان يجعلنا من أهل الصبر والحلم واسأله جل وعلا أن يجملنا بالعافية ويكرمنا بالتقوى إنه على كل شي قدير وبعد :
انه من المعلوم للكبير والصغير وللقاصي والداني وللعربي والعجمي من علماء هذه الأمة الفاضلة أن علم التصوف هو من أجَّلِ العلوم الإسلامية التي قامت عليه الشريعة الإسلامية ، ونحن عندما نقول علم التصوف فإننا نعني بهذه الكلمة التصوف الصحيح الذي بُنيت أُسُسَهُ وقواعده على الكتاب والسنة .
التصوف الذي بني على الزهد الذي هو من أصول الشريعة الغراء ، بل إن الزهد هو احد مصطلحات التصوف حتى أن الذين كتبوا في علم التصوف من الأوائل كتبوا باسم الزهد كأحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك ، وظاهرة الزهد والزهاد ظهرت في وقت مبكر من تاريخ هذه الأمة منذ عصر الصحابة الكرام كعبد الله بن رواحة وأبو ذر وأبو الدرداء وأبو هريرة الذين كانت لهم مدارسهم في الزهد الذي نشروه بين الناس وعلى رأسها مدرسة الزهد الكبرى مدرسة سيدنا علي بن أبي طالب ، فأخذه عنهم الحسن البصري , وعروة بن الزبير, وأويس القرني , وعبد الله بن المبارك ثم إبراهيم بن ادهم , والفضيل بن عياض , والجنيد البغدادي , وأبو بكر الشبلي , وسري السقطي , وذو النون المصري .
وهؤلاء هم الذين أسسوا علم التصوف فهو علم كبقية العلوم له أصوله وله أسسه وقواعده وهو نابع من الكتاب والسنة وأصحاب الصفة رضي الله عنهم ثم ازدادت في عصر التابعين وتابعيهم وكان ظهورهم نتيجة لتزايد انشغال الناس بالدنيا وترفها .
فكان ظهور هذه الفئة من العباد والزهاد تذكيراً للمجتمع وإيقاظاً له، خاصةً أن بوادر الترف في حياة المجتمع كانت قد بدأت تظهر فكان لظهور هؤلاء العباد ولأقوالهم وأحوالهم أثراً تحذيرياً للمجتمع من أن يقع فريسة الترف والغفلة وتذكيراً له بمهمته الأساسية من الذكر والعبادة، وإعلاناً بأن هذه الدنيا لا قيمة لها، فهذا كان له أثر الإيقاظ للمجتمع وبوادر الترف تهجم عليه، ولذلك كانت أقوال هؤلاء العباد تدور حول هذه المعاني وحول محبة الله _عز وجل_ والانقطاع لـه وتقديم محبته والتعلق به على سائر العلائق، وكانوا يوصون مع ذلك بأن يرد كل ما يصدر عنهم إلى الكتاب والسنة .
هكذا كانت نشأة هذا العلم الجليل (علم التصوف) ولم يكن يعرف بالتصوف ولكن أطلقت هذه التسمية فيما بعد .
واسمع إلى قول ابن خلدون في مقدمته ص 329 : (وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة , والانقطاع إلى الله تعالى , والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها , والزهد في ما يقبل علية الجمهور من لذة ومال وجاه , والإنفراد عن الخلق , والخلوة للعبادة , وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية) .
وأورد صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف في الصفحة 414 كلاماً عن الأمام القشيري قال فيه : (اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام , إذ لا أفضلية فوقها فقيل , لهم الصحابة ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعباد ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً , فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى , الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف , واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المأتين من الهجرة ولو رجعت إلى رجال التصوف الأوائل الذين أسسوه كأمثال (الحسن البصري , وعروة بن الزبير, وأويس القرني , وعبد الله بن المبارك ثم إبراهيم بن ادهم , والفضيل بن عياض , والجنيد البغدادي , وأبو بكر الشبلي , وسري السقطي , وذو النون المصري وعبد القادر الجيلاني والمحاسبي ) كانوا كلهم علماء عاملين دعاة إلى الله ساروا إلى الله بالكتاب والسنة ملتزمين بالسلوك المحمدي وبسيرة السلف العظام وكانوا دعاة إلى الله) .
فلذلك ظهرت أنوارهم وبقيت آثارهم فالتصوف حقيقة أن تتعلم العلم الشريف الذي هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة ثم يعمل بهذا العلم الذي تعلمه ثم يسعى لاكتساب الصدق والإخلاص وذلك يكون بالاستعانة بالله تعالى والعكوف على الذكر والعبادة لتصفية الروح وتزكية النفس وشفاء القلب السقيم فلا تصوف بدون علم ولا ينفع العلم بلا عمل ومن قال بغير هذا فهو ليس من التصوف في شيء .
فهذا هو إمام أهل السنة الأمام احمد بن حنبل رحمه الله يقول : (لولده عبد الله يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة ويقول عن الصوفية لا أعلم أقواماً أفضل منهم) . كتاب تنوير القلوب ص 405 وغذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للسفاريني 1120 .
وهذا هو حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله يقول :( ولقد علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق) . كتابه المنقذ من الضلال صفحة 49.
وهذا هو سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمة الله يقول : ( قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التي لا تتهدم دنيا وأخرى وقعد غيرهم على الرسوم ) كتاب نور التحقيق للشيخ حامد صغر ص 96 .
وهذا هو الأمام الحجة شيخ الشافعية النووي رحمه الله وهو ثقة بإجماع الأمة يقول : ( أصول طريق التصوف خمسة : تقوى الله في السر والعلانية , إتباع السنة في الأقوال والأفعال , الأعراض عن الخلق في الإقبال والأدبار , الرضا عن الله تعالى في القليل والكثير , الرجوع إلى الله في السراء والضراء ) كتاب مقاصد الإمام النووي والتوحيد والعبادات وأصول التصوف ص 20 .
وتحدث الأمام أحمد ابن تيمية رحمة الله تعالى عن تمسك الصوفية بالكتاب والسنة فقال : ( فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض , وإبراهيم بن أدهم , وأبي سليمان الدارني , ومعروف الكرخي , والسري السقطي , والجنيد بن محمد , وغيرهم من المتقدمين , مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني, والشيخ حماد , والشيخ أبي البيان , وغيرهم من المتأخرين فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين , بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت . وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف , وهذا كثير من كلامهم ) . الجزء العاشر من مجموع فتاويه .
وهذا هو الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى يقول : ( إن كثيراً من الجُهَّال يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الإتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون وحاشاهم ( الصوفية ) من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شي بنوا عليه طريقهم إتباع السنة واجتناب ما خالفها , الاعتصام لشاطبي) .
هذا هو علم التصوف وهكذا نشأ وهكذا كانت سيرة رجاله رضوان الله عليهم الذين التزموا بهذه القواعد والأسس الشريفة التي بني عليها هذا العلم الجليل وكانت ثمرة هذا الالتزام والتمسك الصحيح أن فتح الله عليهم واصطفاهم وأخلصهم لنفسه وأحبهم الله لزهدهم في الدنيا وأحبهم الناس لحب الله لهم ولزهدهم فيما أيدي الناس وذلك لحديث الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله دلني على عمل إذا فعلته أحبني الله وأحبني الناس ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أزهد في الدنيا يحبك الله ، وأزهد فيما عند الناس يُحبك الناس رواه ابن ماجة عن سهل بن سعد الساعدي .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الأرض .
وسخر الله لهم العباد وألقى هيبتهم في قلوب السلاطين والملوك والحكام فسعى الملوك ورائهم بينما الناس تسعى وراء السلاطين والحكام والأمراء ونظروا للدنيا بعين الحقيقة بنظرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ( لا تعدل عند الله جناح بعوضة ) فلذلك فتح الله عليهم وكثر السالكون على أبوابهم واتبعهم الناس واهتدى على أيديهم الضلال واسلم الكفار ورجع الفساق إلى جادة الصواب فكانوا مشاعل من نور أضاءت للناس طريقهم ووضحت لهم سبلهم خير مثال على هذا الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه .
واسمع إلى قول شيخ الإسلام الشيخ محي الدين النووي رحمه الله في الشيخ عبد القادر الجيلاني : (كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد وانتهت إليه رياسة العلم في وقته , وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق وتتلمذ له خلق لا يحصون عدداً من أرباب المقامات الرفيعة , وانعقد علية إجماع المشايخ والعلماء رضي الله عنهم بالتبجيل والإعظام , والرجوع إلى قولة والمصير إلى حكمه ,وأُهرع إليه أهل السلوك من كل فج عميق وكان جميل الصفات شريف الأخلاق) . قلائد الجواهر ص 137 نقلا عن بستان العرافين .
وقد ذكر هذا الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه ( هكذا ظهر جيل صلاح الدين) فقال : (وتدل الأخبار المتعلقة بالمدرسة على أنها لعبت دوراً رئيسياً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية . فقد كانت المدرسة تستقبل أبناء النازحين الذين فروا من وجه الاحتلال الصليبي , ثم تقوم بإعدادهم ثم إعادتهم إلى مناطق المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكية . ولقد اشتهر ـ فيما بعد ـ نفر من هؤلاء الطلاب منهم ابن نجا الواعظ الذي أصبح فيما بعد مستشار صلاح الدين السياسي والعسكري , والحافظ الرهاوي , وموسى ابن الشيخ عبد القادر الذي انتقل إلى بلاد الشام ليسهم في النشاط الفكري , وموفق الدين ـ صاحب كتاب المغني ـ وأحد مستشاري صلاح الدين , وقريبه الحافظ عبد الغني اللذين وفدا للالتحاق بمدرسة سيدي الشيخ عبد القادر بعد أن نزحت أسرتهما من جماعيل في منطقة نابلس إلى دمشق) .
ولقد وصف ابن قدامة المقدسي طريقة عبد القادر في التعليم وأثره في طلبته فقال : ( دخلنا بغداد سنة إحدى و ستين وخمسمائة . فإذا بالشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علماً وعملاً وحالاً واستفتاءً . وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم , والصبر على المشتغلين وسعة الصدر . وكان ملء العين وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة وما رأيت بعده مثله ) .
واستطاع الشيخ عبد القادر ومن عاصره وعلى رأسهم الإمام الغزالي الذي سبق الجيلاني بهذا وغيره من السادة الصوفية أن يتصدوا للهجمات التي تعرض لها العالم الإسلامي .
وقد ذكر الشيخ عبد الرزاق الكيلاني في كتابه الشيخ عبد القادر عن دور الصوفية في التعامل مع الأحداث العامة للبلاد فقال : لقد كان نشوء التصوف رداً على انحراف ميزان المجتمع الإسلامي بشدة نحو المادة ونحو الدنيا وزينتها وقد نجح في إيقاف السيل الجارف , أو الحد من قوته في كثير من الأحيان ووقف الكثير من أئمة التصوف في وجه الظلم والطغيان , وقالوا كلمة الحق غير خائفين أو وجلين , تحقيقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الجهاد كلمة عدل _أو حق _ عند سلطان جائر ) . كموقف سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني مع الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله , وعز الدين بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل ثم مع نجم الدين أيوب ومماليكه في مصر , ومنذر بن سعيد البلوطي مع عبد الرحمن الناصر في قرطبة , والنووي مع الظاهر بيبرس , والشيخ سعيد الحلبي مع إبراهيم باشا المصري , وكثير غيرهم , هذا بالإضافة إلى إسلام كثير من الكفار وتوبة كثير من العصاة والفساق على أيديهم , كما حدث لسيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني , إذ أسلم على يديه خمسة آلاف من الكفار وتاب أكثر من مائة ألف من العصاة , كما أن بعضهم قد جاهده بيده وسيفه . وكذلك سيدي أحمد البدوي ومريدوه قد ساهموا مساهمة فعالة في رد الحملة الصليبية على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا .
والمرابطون في إفريقية , وأصلهم من قبيلة لمتونة , تنسك أولاً رجل منهم يدعى يحيي بن عمر على يد عبدا لله بن ياسين الجزولي , وصاروا يعبدون الله سبحانه وتعالى في ربوة سموها رباطاً , وأخذ عددهم يزداد حتى بلغ ألفاً من الرجال , وكانوا في بدء الأمر قد تفرغوا للعبادة والتأمل والتعلم وإصلاح الباطن وتزكية الأخلاق مدة عشر سنوات , وعند ذلك قال لهم شيخهم : اخرجوا الآن و جاهدوا فلن تغلبوا من قلة ولا من ضعف , فخرجوا وغلبوا على إفريقية وشكلوا دولة المرابطين , وبعد وفاة يحيي بن عمر تولى يوسف بن تاشفين الذي بني مدينة مراكش ثم انجد المسلمين في الأندلس وكان السبب في تأخير خروج المسلمين منها لمدة أربعة قرون أخرى , وذلك بعد انتصاره على ملك الإفرنج ألفونسو في معركة الزلافة سنة 479هـ . وهي من المعارك الفاصلة في التاريخ , قضى فيها المرابطون على جيش ألفونسو , وكان 50 ألفاً وقيل أكثر من ذلك , فلم ينجُ منهم سوى خمسمائة جندي .
وعبد القادر الجزائري رحمه الله تعالى , حارب المستعمرين الفرنسيين في الجزائر مدة خمس عشرة سنة , ومحمد غازي والشيخ شامل اللذان حاربا الروس خمساً ثلاثين سنة هما من الطائفة النقشبندية , والحركة السنوسية التي حاربت إيطاليا في ليبيا , والحركة المهدية التي حاربت الإنكليز في السودان , هما حركتان صوفيتان أيضاً .
وهذه هي مواقف السابقين من أئمة التصوف في الوقوف أمام التيارات المعادية للإسلام والتصدي لها وكما كان لهم مواقف عظيمة في حماية الإسلام كان لهم أيضاً دور فعال في إصلاح المجتمع وتنشئة جيل صالح من العلماء والمريدين وأعظم مثال على ذلك هو منهاج الغزالي لإيجاد جيل جديد من العلماء والصالحين .
هكذا كانت حقيقة التصوف والتصوف هو علم شريف ومستمد من الشرع وقائم على الشرع ولا يخرج عن الشرع قيد أنملة وهكذا بقيت مسيرته وفي القرون المتأخرة بدأت مسيرة التصوف تتغير وذلك بسبب دخول الأدعياء في صفوف الصوفية الكرام والأدعياء هؤلاء هم الذين أرادوا أن ينالوا ما ناله رجال التصوف الذين مر ذكرهم لكن دون تعب ودون بذل ودون مجاهدة وكانت نفوسهم أضعف من أن تفني في حب الله تعالى فلم يجدوا سبيلا لذلك إلا الدخول في التصوف فأخذوا بالقشور وتركوا اللب والأصل وسموا أنفسهم بالصوفية بل والبعض منهم تصدر للمشيخة واتبعه المريدين فهلك وأهلكهم .
ويتحقق فيهم قول الله تعالى(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) ( المنافقون : 4 ) ، ويتجلى في قول العالم الجليل الفاضل الأمام السيوطي رحمه الله تعالى : ( إن التصوف في نفسه علم شريف وإن مداره على أتباع السنة وترك البدع وعلمت أيضاً أنه قد كثر الدخيل فيه من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم فأدخلوا فيه ما ليس منه فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع ) . كتاب تأييد الحقيقة العلية للسيوطي ص 57.
فراحوا يحرفون في هذا العلم ويغيرون في قواعده ويدسون في كتب القوم ما يناسب أهوائهم وحتى يجدون ما يستدلون به على أفعالهم وسوء أحوالهم ويبررون مخالفاتهم للكتاب والسنة ، فوضعوا الدسائس في كتب القوم ومن أكثر الذين دس في كتبه من العلماء هو الأمام الشعراني رحمه الله الذي كرس علمه وكتبة لمحاربة هؤلاء الأدعياء ولما صار لهم عقبة وعليهم نقمة دسوا في كتبة وأدخلوا فيها ما خالف الشرع .
واسمع إلى قوله يقول شيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه لطائف المنن : (ومما منَّ الله تبارك وتعالى به علي صبري على الحسدة والأعداء لما دسوا في كتبي كلاما يخالف ظاهر الشريعة وذلك لما صنفت كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود وكتب عليها علماء المذاهب الأربعة بمصر وتسارع الناس لكتابته فكتبوا منة نحو أربعين نسخة غار من ذلك الحسدة فاحتالوا على بعض المغفلين من أصحابي واستعاروا منة نسخته وكتبوا لهم منها بعض كراريس ودسوا فيها عقائد زائفة ومسائل خارقة لإجماع المسلمين وحكايات وسخريات عن جحا وابن الرواندي وسبكوا في ذلك غضون الكتاب في مواضيع كثيرة حتى كأنهم المؤلف ثم اخذوا تلك الكراريس وأرسلوها إلى سوق الكتب في يوم السوق وهو مجمع طلبة العلم فنظروا في تلك الكراريس ورأوا اسمي عليها فاشتراها من لا يخشى الله تعالى ثم دار بها على علماء الجامع الأزهر فأوقع ذلك فتنة كبيرة ومكث النادي يدورون في المساجد والأسواق وبيوت الأمراء نحو سنة وانتصر لي لشيخ نصر الدين القاني وشيخ الإسلام الحنبلي والشيخ شهاب الدين بن الحلبي كل ذلك وأنا لا اشعر فأرسل لي شخص من المحبين بالجامع الأزهر واخبرني الخبر فأرسلت نسختي التي عليها خطوط لعلماء فنظروا فيها لم يجدوا فيها شيئا مما دس هؤلاء الحسدة ) لطاف المنن ج 2 ص 190 .
وكذلك ما دس في كتب الشيخ محي الدين العربي رضي الله عنه وقد ذكر العلامة ابن عابدين الفقيه الحنفي وصاحب أكبر موسوعة في الفقه الحنفي : (أن الراجح عنده بالنسبة لما ورد في كتب الشيخ محيي الدين بن عربي مما يخالف الشرع بأنه مفترى عليه ولذلك تجد نص عبارة صاحب الدر المختار ج 3ص 303 : ولكن الذي تيقنته أن بعض اليهود افتراها علي الشيخ قدس الله سره) .
بل إن ابن تيمية نفسه يعترف بالدس على السيدة رابعة العدوية حيث يقو ل: (وأما ما ذكر عن رابعة عن قولها عن البيت الحرام انه الصنم المعبود في الأرض كذب على رابعة المؤمنة التقية) ، وذلك في كتاب مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية ج 1ص 80 .
وهذه الفترة مابين القرن الخامس الهجري وحتى القرن العاشر تحرفت الكثير من علوم التصوف ودخلت فيه من العلوم الأخرى ما شوهته وأكثرت من أعداءه ولكن هيهات هيهات أن يستطيعوا أن يغيروا هذا العلم ففي كل زمن يهيئ الله لهذا العلم من يجدده ويذود عنه ويدافع عنه .
قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي عن الصوفي : (إنَّ سالك سبيل الله قليل والمدعي فيه كثير ونحن نعرفك علامتين له:
الأولى : أن تكون جميع أفعاله موزونة بميزان الشرع موقوفة على توفيقاته إيرادا وإصدارا وإقداما وإحجاما إذ لا يمكن سلوك هذا السيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها .
والثانية : لا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل فكيف يصل إلية من أهمل الفرائض ).
وجزا الله ساداتنا العارفين الذين وضعوا لنا قواعد وأسس تكون حجة على هؤلاء الأدعياء وإليك بعض هذه القواعد من أقوالهم رضي الله عنهم :
فهذا هو سلطان الأولياء والعارفين سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله يقول : (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة هي زندقة , طر إلى الحق عزَّ وجلَّ بجناحي الكتاب والسنة ادخل عليه ويدك في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك العبادات المفروضة زندقة وارتكاب المحظورات معصية) . الفتح الرباني ص 179 .
ويقول: (كل باطن خالف ظاهراً فهو باطل).
وهذا الشيخ أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصر باذي رحمه الله يقول: (أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الهواء والبدع , وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق , وحسن صحبة الرفقاء , والقيام بخدمتهم , واستعمال الأخلاق الجميلة ,والمداومة على الأوراد , وترك ارتكاب الرخص والتأويلات , وما ضل احدٌ ف بهذا الطريق إلا بفساد الابتداء يؤثر في الانتهاء) , طبقات الصوفية ص 488 .
وقال سيد الطائفتين العارف بالله أبو القاسم الجنيد البغدادي رحمه الله تعالى : (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته ,فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه) , طبقات الصوفية ص 159 .
ويقول : ( من لم يحفظ القران ولم يكتب الحديث لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ).
وورد عن العارف بالله الشيخ أبو يزيد البسطامي رحمه الله تعالى أنه يقول : (لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة) .
ويقول أبو الحسن الشاذلي رحمة الله : (إذا تعارض كشفك مع الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف وقل لنفسك أنَّ الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضها علي الكتاب والسنة إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي تبين إن الاستقامة على الشريعة المطهرة هي أفضل من أي كرامة) .
وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : (أصول طريقتنا ـ أي منهج الصوفية ـ سبعة : التمسك بالكتاب , والاقتداء بالسنة , وأكل الحلال , وكف الأذى , وتجنب المعاصي , لزوم التوبة , وأداء الحقوق) .
وقال أبو حفص احد كبار الصوفية : (من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال) .
وورد عن العارف بالله الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى أنه يقول : (قد درج أشياخ الطريق كلهم على أن أحداً منهم لا يتصدر في الطريق إلا بعد تبحره في علوم الشريعة) .
وقال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته المشهورة متحدثاً عن الصوفية : ( جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه , وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم وجعل قلوبهم معادن أسراره واختصَّهم من بين الأمة بطوالع أنواره , فهم الغياث للخلق , والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق . صفَّاهم من كدورات البشرية , ورقَّاهم إلى محل المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية , ووفَّقهم للقيام بآداب العبودية , وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية , فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف وتحققوا بما مَنَّة سبحانه لهم من التقليب والتصريف , ثم رجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصدق الافتقار ونعت الانكسار , ولم يتَّكِلوا على ما حصل منهم من الأعمال أو صفا لهم من الأحوال , علما منهم بأنه جلَّ وعلاَّ يفعل ما يريد ويختار من يشاء من العبيد , لا يحكم عليه خلق , ولا يتوجه عليه لمخلوق حق ثوابه ابتداء فضل , وعذابه حكم بعدل , وأمره قضاء فصل ) . الرسالة القشيرية للأمام أبي القاسم القشيري ص2.
ونتيجة ظهور هؤلاء الأدعياء وتربع الكثير منهم على عروش التصوف وتصدرهم للمشيخة فتح أبواب العداء للتصوف فظهر من يحاربه ويحاول النيل منه متخذا من هؤلاء وسيلة للتحقيق غاياته ومن أسوء ما أدخلوه في هذا العلم هو بعض العلوم التي أخذت من الأمم الأخرى كعلوم السحر ولشعوذة والزندقة والفلسفة المنحرفة فهم عندما عجزوا عن التحقق بما تحقق به السادة الصوفية الذين أظهر الله على أيديهم الخوارق والكرامات التي قوت ثقة الناس بهم وأيد الله بها مناهجهم فاتبعهم الناس .
ولكن الأدعياء محرومون من هذا فكان لابد من التشبه بأحوال الرجال فاستخدموا هذه العلوم والخزعبلات والخرافات والشعوذات من أجل إيهام أتباعهم بأنهم أولياء مقربون من الله أعاذنا الله منهم ولقد تبين من خلال ما مضى من بحثنا أن التصوف هو علم جليل وعظيم ولكنه ابتلي في الآونة الأخيرة بثلة من المتصوفة الذين دخلوا فيه وهم ليسوا منه . كما ابتلي الإسلام بالمنافقين في أول ظهوره الذين أبطنوا الكفر واظهروا الإيمان .
وكما قيل لكل قاعدة شواذ . والعجب كل العجب أنَّ الكثير من أعداء التصوف راحوا يتكلمون عليه من خلال هؤلاء الأدعياء وهو منهم براء , وهذا ظلم عظيم .
وما مثل التصوف إلا كمثل باقي العلوم الأخرى , فقد دس في علم الحديث من ليس من أهله فدسوا الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلك وكذلك علم الكلام والعقيدة والسير والتاريخ والفقه وغيرها من العلوم . فكذلك التصوف ابتلي بالأدعياء كما ابتلي غيره لكن ميزان التصوف أصبح واضحاً وحقيقته مشرقة .
هذا هو حال التصوف بين رجاله الذين أسسوه وفق الكتاب والسنة وبين الأدعياء الذين يسعون لتشويهه لتلبية حاجاتهم وشهواتهم وملذاتهم غير مبالين بغيرهم وبنتيجة أفعالهم ونحن الآن في هذا الزمان أحوج ما نكون إلى صحوة ويقظة صوفية نعيد من خلالها التصوف الصحيح إلى أصوله الصحيحة وبحاجة إلى مرحلة تصحيحة وتجديدية للتصوف فنخرج منه ما ليس منه مهما كلفنا ذلك لأننا نرى بأعيننا كيف أن أعداءه يحاولون مسحه من الوجود والتصوف مدرسة كبرى في حياة المسلمين لا يمكن إلغاؤها بجرة قلم، بل يجب الإفادة من صوابها وعرض ما سوى ذلك على الكتاب والسنة المطهرة .
ولذلك ينبغي على أهل التصوف العلماء منهم والحكماء والمريدين والسالكين أن يبادروا إلى إصلاح التصوف من داخله حتى يلحقوا بالركب المبارك - ركب الصحوة : صحوة أهل السنة والجماعة – يلحقوا بركب الصالحين الذين أسسوا هذا العلم وإن لم يفعلوا فسيبقى التصوف بهذا الشكل الذي نشاهده اليوم ، غائب بين الأدعياء والصالحين .
واعلم أن الناس من أهل التصوف قد انقسموا قسمين :
القسم الأول :
قسم يسعى للتصحيح : وهؤلاء جزاهم الله خيرا على مرادهم فهم يسعون جاهدين لإظهار حقيقة التصوف فراحوا يبادرون للعلم الشريف والسلوك الصحيح متمسكين بالمنهج الصحيح الذي يبيناه باذلين في ذلك كل جهودهم وأنفسهم وأموالهم وقد كثروا في هذا الزمان وانتشروا في أصقاع الأرض فالذي يتفكر وينظر ويبحث في التصوف يراه ينتشر انتشارا عجيبا وكبيرا في العالم الإسلامي ونرى الكثيرون يتوجهون إلى التصوف توجها كبيرا وخاصة على شبكة الانترنت وهناك المئات من المواقع التي تتكلم عن التصوف بالشكل الصحيح وهناك العشرات من العلماء الذين يتبنون هذا العلم العظيم ونرى المؤلفات الصوفية في كل يوم تنشر وتطبع والحمد لله وهذه بشارة خير وكلنا ينبغي أن نلحق بركب هؤلاء ولا نستحي من الحق حتى على أنفسنا فهناك الكثير من الطرق الصوفية دخل فيها ما لا يوافق الكتاب والسنة وما لا يوافق منهج الصوفية فينبغي أن نتخلى عنه مهما كلفنا ذلك فعلى عقلاء التصوف وعلماء التصوف أن ينقوا صورته التي شوهت كثيراً، وأن يبادروا بحركة الإصلاح وإعادة هذا التصوف إلى وجهه الصحيح وجذوره الأولى و إلا فالفناء حق عليهم وركب الصحوة سائر في طريقه إليهم .
القسم الثاني :
قسم يسعى للتبرير: وأقصد بالتبرير ( يعني يخلقون الأعذار والحجج الواهية لإثبات منهجهم وإلصاقه بركب الصالحين وبمنهج المتصوفين ) .
وهؤلاء ينقسمون لثلاثة أقسام هم :
أولا : الغارقون في البدع والمخالفات هؤلاء هم مخلفات الأدعياء الذين يتنعمون بأتباع يفنون أنفسهم في خدمتهم ويبذلون أموالهم في سبيلهم ويعظمونهم ويقدسونهم ولا يخالفون لهم أمرا فكيف يتركون هذه النعم ويرجعون إلى الطريق الصحيح طريق الزهد والتواضع والخضوع لله إن هذا صعب على أنفسهم كما كان الإسلام صعب على زعماء مكة كيف يخضعون ويأتمرون .
ثانياً : الضعفاء الجاهلون الذي تصدروا للتصوف والمشيخة وهم لا يعرفون منه إلا الرسم والقشور وقد نشئوا على هذا واستقرت أحوالهم فلا يتكبدون صعوبة التصحيح والرجوع للعلم والعمل .
ثالثاً: الدخلاء والأدعياء الذين دخلوا التصوف للنيل منه فدخولهم بقصد التحريف كما دخل الكثير من المجوس واليهود في الإسلام في عصر الفتوحات بقصد النيل منه والدس فيه وهذا هو حال التصوف صراع دائم بين أهل التصحيح وأهل التبرير وهناك من يتربص بكليهما وهم أعداء التصوف من المستشرقين ومن أدعياء السلفية وغيرهم ونصيحتنا الأخيرة لأهل التصوف أهل التصحيح أن يبذلوا قصار جهدهم في النهضة والصحوة واليقظة لتجديد وتصحيح التصوف ونسأل الله أن نكون منهم ومن أتباعهم وخدامهم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .
المصدر: موقع الصوفية طريق الى الله
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا [ للتسجيل اضغط هنا ]
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]
تحياتي أستاذ حسن الحاجبي
قد يكون معك الحق فيما تفضلت بالإشارة له لكن هذا ليس رأيي الشخصي.
لا بد للملف أن يكون جامعا وشاملا ومفتوحا لكل الآراء وحبذا لو نتعاون عليه
واسمح لي في هذا السياق أن أطلب منك شخصياً الاهتمام بهذا الملف ورفده
تقبل عميق تقديري واحترامي
[/align][/cell][/table1][/align]
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
الكاتب: حسن مظفر الرزّو مدير المكتب الاستشاري العلمي كلية الحدباء الجامعة
إن التصوف علم وسلوك يستند الى المعرفة بوصفها ذوق يترعرع عبر معاناة ومجاهدة روحية ترقى بصاحبها الى مرتبة فهم عميق يستمد مادته من جدلية التصفية الدائمة للروح من آفات النفس ونزعاتها الدائمة صوب الحياة الدنيا. ولما كانت عملية التصفية تجربة ذاتية تسعى الى الكمال عبر سلسلة دائمة من المجاهدات اليومية لنزعات النفس، فإن لكل سالك منهج ذوقي يليق به دون غيره، فالمقام الذي يلبث بساحته يثمر علماً بالله، والعلم يثمر عملاً يتوجه صوب مرضاة الله، ثم يثمر العمل المقبول حالاً ونوراً يضيء زوايا القلب. من أجل هذا الأمر فقد عني الصوفية عناية بالغة بتناول العلم بوصفه طريقاً لنيل القرب من الحضرة الإلهية، بعد أن أضفوا على دلالته معنى جديداً ينيطه بالمجاهدة والتحلية الذاتية، لأن العلم إن لم يثمر عن معرفة جديدة، وارتقاء بالأحوال فلا فائدة منه للمسلم في سعيه الدائم لمرضاة البارئ. وقد أرسى مشايخ القوم أسساً متينة لطلب العلم بمعيارهم، نستطيع تقسيمها الى المراحل التالية: المرحلة الأولى: بيان حدود العلم ومورده لهذه المرحلة مقامان ، (المقام الأول) أن المعالجة الصوفية الجديدة للعلم أثمرت عن ظهور جملة حدود له: الأول: يرتكز الى تأسيس دائرة العلم بكل ما يهم المؤمن في حفظ دينه، وديمومة معاشه بعيداً عن إضاعة الأوقات الثمينة بالبحث عما لا طائل وراءه. قال اللهيسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي... فكل خوض بمسألة لا ينبني عليها عمل القلب أو الجوارح بطاعة اللههو خوض فيما لا يدلّ دليل شرعيّ على استحسانه. لذا قال أئمة الطريق: ما وجب عليك عمله وجب عليك العلم به. الثاني: أن العلم علمان، علم ظاهر ساحته عالم الأمر، ومادته الشريعة الغرّاء ومداره على الالتزام بالعبودية؛ وعلم باطن ساحته عالم الغيب ومداره على الحقيقة التي تعنى بمشاهدة الربوبية. الثالث: لما كان العلم هو إدراك للمدرك على ما هو عليه بذاته، لذا فماامتنع إدراكه بمعيار الشريعة يكون العلم به عند التسليم بالعجز عن إدراكه كما قال الصديق:العجز عن درك الإدراك إدراك) فجعل العلم باللههو لا إدراكه. الرابع: أن العـــلم(بمفهومه الشائع) يحمل معه برهانه، أما العلم الصوفي-الذوقي فعلمه مقصور على ذائقيه. من أجل هذا أطلق عليه معرفة لأن المعرفة معاناة علم بمجاهدة ذاتية. وقد حدّت للمعرفة الصوفية حدوداً خاصة تعالج مواردها من خلال الحال ، والمقام، واللوائح، والشواهد، والتلوين، والتمكين. الخامس: لضمان التباس العلم بالوهم تصبح عملية اتخاذ المرشد أمراً لا مناص منه. لأن المرشد الكامل يمتاز بكونه عالماً بكمالات القلوب، وآفاتها، وأمراضها، وأدوائها، وبكيفية حفظ صحتها واعتدالها، وله القدرة على إرشاد المريد والارتقاء بمقاماته في طريق المعرفة بالله، مع بيان مواطن الوهم التي تعترض رحلة طالب العلم. (المقام الثاني): أولى رسول اللهاهتماماً خاصّاً بالقلب وأناط به جملة من المهام الجسام فهو موطن العلم الحق والمعارف اللدّنية، فلا نهاية لغور بحاره، ولا عدد لكثرة أنهاره. قال سهل بن عبد الله التستري: ما خلق اللهمكاناً أعزّ وأشرف عنده من قلب عبده المؤمن، وماأعطى كرامة للخلق، أعزّ عنده من معرفة الحق . فجعل الأعزّ في الأعزّ، فما نشأ من أعزّ الأمكنة يكون أعزّ مما نشأ من غيره. وقال سهل : فتعس عبد أشغل المكان الذي هو أعزّ الأمكنة عندهبغيره سبحانه. والقلب يعاني من التقليب في الأحوال في كل وقت وآن، ففي كل وقت له تجلّ يضيء زواياه، وهو بهذه الصفة يجافي العقل الذي ينشد الثبات بتقييد العلوم الدنيوية بعقاله لكي يسهل إدراكها، بينما يقيم القلب في رياض المعارف اللدنية التي تتوالى على قلب العبد المؤمن من الحضرة الإلهية، وتتقلب بحسب الأزمنة والأمكنة، والأحوال والمقامات بلا قيد ودون أن ينشد ثباتاً لها. لأن المعرفة الصوفية تعاني من جدل وتغير دائم، فلكل مفردة مفهوم ينبع من ذاتها وينعكس على ذات العارف فيثمر مفاهيم تتسم بالجدة في كل وقت وآن، فلا نهاية للمعاني التي تحملها المفردة ، لكثرة التجلّيات التي تعاني منها والتي تزيد بعددها على عدد آنات الزمان وتنمو لتسع دائرة المكان. المرحلة الثانية: المباشرة بالعلوم الشرعية ينبغي على سالك طريق القوم المباشرة بعملية التحلّي قبل التخلّي، فلا تصوف بدون معرفة فقهية رصينة بواجبات العبادات، ومندوباتها، وآدابها، والتفريق بين البدعة والسنة في الأحوال. فالعلوم تنعكس أنوارها على طاعات العبد فتلبسها لباس السنة التي ترقى بصاحبها عبر فضيلة الاتباع. وقد قيل بأن الشريعة باب، والحقيقة بيت، ولا مدخل للبيت إلا من بابه. فلا تصوف حقيقي إلا بفقه، قال الإمام مالك: من تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقّه ولم يتصوف فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق . المرحلة الثالثة: آداب طلب العلم تبدأ رحلة العلم بالاستماع والقبول عن أئمة الفقه والعقيدة، ثم التصوّر والفهم ومباشرة العمل للوصول الى المعرفة الحقّة، والتوقف في محل الاشتباه دون الخوض فيه، واعتبار المهم وتقديمه على غوامض علوم القوم. وينبغي أن لا يغيب عن ذهن الصوفي أن الفقه يمتلك حكماً عاماً مقصده إقامة رسم الدين، ورفع مناره، وإظهار كلمته. أما التصوف فهو تجربة ذاتية ومعاملة بين العبد وربّه ، لذا يلزم الرجوع من التصوف الى الفقه ويكفي الفقه عن التصوف، ولم يكف التصوف عن الفقه. من أجل هذا قيل: كن فقيهاً صوفياً، و لا تكن صوفياً فقيهاً؛ وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم، لتمام حاله. قال أبو حفص الحداد: التصوف كله أدب ، ومن ضيّع الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردود من حيث يظن القبول. المرحلة الرابعة: التقلب بين الطاعات أراد اللهأن يشغل عباده بعبادته فأزعجهم من كل شيء سواه وقد قيل: فرّغ القلب من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. وخير تفريغ للقلب يكون اشتغاله فـي عبـادة الله والقيام بأوامـره، والانتهاء بنواهيـه، واتباع سـنة نبيـه محمـداً . قال الشيخ الأكبر في فتوحاته: العبادة اسم حقيقي للعبد، فهي ذاته وموطنه، وحاله وعينه، ونفسه وحقيقته، ووجهه. قد تختلف مسالك العبادة بالتوجه الى اللهبيد أن هذه المسالك تصب في بوتقة واحدة، فمن غلب عليه العمل، فعابد، ومن مال الى الترك فزاهد، أمامن أدام النظر في تصاريف الحق بالأكوان فعارف، والكل ينتسبون الى التصوف بوشيجة محكمة. المرحلة الخامسة: التمييز بين العلوم قال القوم خير العلم ما صاحبته خشية اللـه، قال ابن عطاء الله الاسكنـدري: شاهـد العلم الـذي هو مطلـوب اللهوجود الخشيـة لله . وإنما كان الأمر كذلك لثلاثة أوجه: (أحدها) إن الخشية تحجز عن المعاصي والقبائح وتدعو الى صالح الأعمال، فينشب عن فقدها زوال الخشية والتهافت على المعاصي. (الثاني) أن الخشية تغالب الهوى،والشهوة اللتان تغطيان العقل، فتطفئا نور القلب. (الثالث) أن الخشية تحمل صاحبها على طلب الآخرة وإرادة وجه اللهعن طريق العلم به، وفقدها يغمس المؤمن بالدنيا ومفاتنها فيلفته عمّـا أراد الله منه. قال الشعبي: إنّ العالم مَن فَقِه عن اللهما توعّده به فخافه. المرحلة السادسة: نيل ثمرة العلم: ينال العبد بساط العلم ثمرة لتقواه، قال اللهفي كتابه العزيزواتّقـوا الله ويعلمكم الله ..، والامساك بزمام هذا البساط دائم ما دام العبد يجاهد في تزكية نفسه وتطهيرها من العيوب. يعرف وصول القلب الى ثمرة العلم بوصوله الى العلم بجلال اللهوعظمته على وجه يمتلك القلب بجملته، ويسع بين ثناياه كل ما حوله. فلا وحـشة مـع اللـه، ولا راحـة مع غيره. وقد ثبت في صحـيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرةعن النبيقال:(يقول اللهمن عادى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة) وفي رواية:(فقد آذنته بالحرب وما تقرّب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ولأن سألني لأعطينه ولأن إستعاذني لأعيذنّه. وما تردّدت في شيء أنا فاعله تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له منه). ولا شكّ بأن من كان يبصر باللهويسمع به ويبطش به ويمشي به له حال يخالف حال من لم يكن كذلك لأن بصيرته قد استوعبت مفردات المعرفة فانكشفت له الأمور كماهي وزال حجاب الظاهر عنها الذي يحجب إدراك ماهيتها الباطنة. والصوفي يرقى المراتب بعبادته وينهل المعرفة من عين الجود، وبذل المجهود. المرحلة السابعة:المعرفة الصوفية: تنمو المعرفة الصوفية مع تعمّق فقه الصوفي بشريعته، وتأدبه بآدابها، وحسن اتباعه لما ثبت من سنة نبينا محمد. وتثمر هذه المعرفة نظراً يختص به الصوفي عند معالجته لأمور الشريعة ومقاصدها. فالفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج عن المكلف، ويسم طاعته بسمة القبول، والصوفي ينظر الى ما يحصل به كمال العبادة كحدّ للقبول. وتحمل الآية الكريمة أو الحديث الشريف الى الصوفي إشارة تضاف الى ما أثبته المفسّرون يستمد منها معرفة جديدة يتقوّى بها يقينه. تترسخ المعرفة فتؤتي ثمارها، فتظهر بجلاء أمام الصوفي بأن الشريعة أن تعبده حقّ عبادته، والحقيقة أن تشهده في كل شيء من مخلوقاته، فيمسي ونور معرفته يقصر عن إطفاء نور ورعه، ولا يعتقد باطناً من العلم ينقض عليه ظاهراُ من الحكم الشرعي ولا تحمله كثرة نعم اللهعليه وكرامته على هتك حرمة اللهبحجة كمال أو إسقاط تكليف . وتستمر رحلة الصوفي مع العلم بالصدق في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية بالتشمير للحقوق، والإعراض عن كل مخلوق والاستسلام تحت جريان المقادير الإلهية في الأكوان، واليقين بأنه لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك اليه، ولا قطيعة بينك وبينه حتى تمحيهاوصلتك فأينما تولّوا فثم وجه الله. وتكتمل دائرة المعرفة إذا تذوّق الصوفي لذّة اجتماع المتفرقات، واستواء الأحوال والأماكن، وسقوط رؤية التمييز لديه، فتتجلى له الأسماء والصفات العليّة، وتظهر حقيقة سريانها في المكونات، وتغيب علة الإضافة، وتتلاشى المحدثات هيبة من موجدها، وتفنى العبارات، وتضمحلّ الإشارات : ألاحظـه في كـل شيء رأيته وأدعوه سرّاً باطناً فيجيب ملأت به قلبي وسمعي وناظري وكلّي وأجزائي فأين يغيب وتمسي المعرفة الصوفية رؤية باطنة لا علم ظاهر، وعين لا خبر، ومشاهدة لا وصف، وكشف لا حجاب، وغيبة لا صحو. قال الشيخ أبو يزيد البسطاميمن عرف الله بهت ولم يتفرغ الى الكلام! .
الهوامش : . التعريفات : 182 . . بيان الفرق : 35 – 36 . . شرح الحكم العطائية : 347. . الفتوحات المكيّة 2 : 153 . . صحيح البخاري : 6021 . . اللمع في التصوف : 56. . اللمع في التصوف : 62 . . القصد المجرد : 11 . . القصد المجرد : 89 . . النور من كلمات أبي طيفور : 165 .
المراجــع 1.بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب ، لأبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي ، تحقيق الدكتور نقولا هير، الطبعة الأولى، 1958 م، دار إحياء الكتب العربية، بيروت. 2.التعريفات، للإمام علي بن محمد الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى، 1405 هـ ، دار الكتاب العربي، بيروت . 3.الجامع الصحيح، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق الدكتور مصطفى البغا، 1407 هـ، دار ابن كثير، اليمامة . 4.شرح حكم ابن عطاء الله الاسكندري، للشيخ أحمد بن زروق ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، 1969 م، مكتبة النجاح، القاهرة . 5.الفتوحات المكّية، للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي الحاتمي، بدون تاريخ، دار صادر ، بيروت . 6.القصد المجرد في معرفة الاسم المفرد، لابن عطاء الله الاسكندري، بدون تاريخ ، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة . 7.النور من كلمات أبي طيفور، مؤلفه مجهول ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن البدوي ، كتاب شطحات الصوفية ، الجزء الأول ، بدون تاريخ، وكالة المطبوعات، الكويت .
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس) ["تعريفات السيد" ص48].
وقال العارف بالله ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (التوكل: ثقة القلب بالله حتى لا يعتمد على شيء سواه، أو التعلق بالله والتعويل عليه في كل شيء، علماً بأنه عالم بكل شيء، وأن تكون في يد الله أوثق منك بما في يدك) ["معراج التشوف" ص8].
وقال بعضهم: (هو اكتفاؤك بعلم الله فيك عن تعلق القلب بسواه ورجوعك في كل الأمور إلى الله) ["دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" للعلامة محمد بن علان الصديقي. ج2. ص2].
وقال أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى:(التوكل: هو التصديق لله عز وجل، والاعتماد عليه، والسكون إليه، والطمأنينة إليه في كل ماضمن، وإخراج الهم من القلب بأمور الدنيا والرزق وكل أمر تكفل الله به) ["الطريق إلى الله" لأبي سعيد الخراز ص56].
فالتوكل على الله تعالى تفويض الأمر إليه، والاعتماد في جميع الأحوال عليه، والتبرؤ من الحول والقوة له، وهو مرتبة قلبية، كما يلاحظ من التعاريف السابقة وغيرها، ولهذا لا تعارض بين التوكل على الله تعالى وبين العمل واتخاذ الأسباب، إذ التوكل محله القلب، والأسباب محلها البدن. وكيف يترك المؤمن العمل بعد أن أمر الله تعالى به في كثير من الآيات الكريمة، ودعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث جمة.
فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له فقال: يا رسول الله أأرسل ناقتي وأتوكل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة. وقال: غريب].
ولهذا اعتبر العلماء ترك الأسباب والتقاعس عن السعي تواكلاً وتكاسلاً لا يتفق مع روح الإِسلام، كما أكد الصوفية هذه الناحية تصحيحاً للأفكار، ورداً للشبهات، وبياناً للناس أن التصوف هو الفهم الحقيقي للإسلام.
قال القشيري رحمه الله تعالى: (التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لاتنافي التوكل بالقلب، بعد ما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى، وإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره) ["الرسالة القشيرية" ص76].
وقال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: (قد يظن الجهال أن شرط التوكل ترك الكسب وتركُ التداوي والاستسلامُ للمهلكات. وذلك خطأ لأن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، وندب إِليه فكيف يُنال ذلك بمحظوره) ["الأربعين في أصول الدين" للغزالي ص246].
وقد نبَّه الصوفية إلى ناحية قلبية دقيقة، وهي أنه يجب في كل عمل من الأعمال أن يتخذوا أسبابه، مع عدم الاعتماد على تلك الأسباب أو الالتفات إليها بقلوبهم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: (ذهب المحققون من الصوفية إلى ضرورة السعي فيما لا بد منه، ولكن لا يصح عندهم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته، والثقة بأنها لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، والكل من الله) ["دليل الفالحين" ج2 ص3].
فضله وآثاره:
التوكل نتيجة من نتائج الإِيمان، وثمرة من ثمار المعرفة، فعلى قدر معرفة العبد بالله وصفاته يكون توكله، وإنما يتوكل على الله من لا يرى فاعلاً سواه.
والمتوكل على الله تعالى معتز به لا يذل إلا له، واثق به لا يطلب إلا منه، وقد قالوا: قبيح بالمريد أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه ما يريد.
ولهذا ربط الله تعالى التوكل بالإيمان فقال: {وعلى اللهِ فليَتَوَكَّلِ المتوكِّلونَ} [المائدة: 23].
ومن يتوكل على الله تعالى حق التوكل ملتجئاً إليه بصدق الحال يكرمْه بالمحبة، ويكفِه ما يهمه من محن وفتن، ويملأ قلبه غنى ويقيناً، ويزيّن ظاهره بالعفة والكرم، قال تعالى: {واللهُ يُحِبُّ المتوكلينَ} [آل عمران: 159]. وقال: {ومَنْ يتوكَّلْ على اللهِ فهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 23].
والتوكل على الله تعالى يبعث في القلوب السكينة والطمأنينة، وخصوصاً عند الشدائد والمحن. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام، حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران].
فالمتوكل على الله تعالى حقيقةً راضٍ بقضائه، مستسلم لفعله، مطمئن لحكمه، قال بشر الحافي رحمه الله تعالى: (يقول أحدكم: توكلت على الله، وهو يكذب على الله تعالى، ولو توكل على الله تعالى لرضي بما يفعله الله تعالى به) [الرسالة القشيرية ص76].
وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التوكل، وبيّن أهميته في الحياة وقيمته في إحلال الطمأنينة في النفوس فقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بِطاناً" [رواه الترمذي في كتاب الزهد وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (ج4/ص318) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: الحديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين]. أي تذهب صباحاً وهي جائعة، وتعود مساءً شباعاً. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن التوكل لا يتعارض مع الأسباب، بدليل أن الطير غادرت عشها صباحاً باحثة عن رزقها معتمدة على ربها، واثقة به، ولذلك فهي لا تعرف الهم ولا الأحزان.
وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإِسلامية إِلى التوكل على الله تعالى في كل حال، لاسيما عندما يخرج المرء من بيته فقال: "من قال حين يخرج من بيته: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي" [رواه أبو داود والنسائي والترمذي في كتاب الدعوات عن أنس بن مالك وقال: حديث صحيح غريب].
مراتبه:
الناس في التوكل على مراتب، لأن التوكل كغيره من مقامات السير إلى الله تعالى تتدرج مراتبه، ويسمو المؤمن في معارجه على حسب معرفته.
ولهذا عد بعض العارفين ـ كالغزالي وابن عجيبة رحمهما الله تعالى ـ للتوكل ثلاث مراتب:
فالأولى: وهي أدناها، أن تكون مع الله تعالى، كالموكِّل مع الوكيل الشفيق الملاطف.
والثانية: وهي أوسطها، أن تكون مع الله تعالى كالطفل مع أُمه لا يرجع في جميع أُموره إِلا إِليها.
والثالثة: وهي أعلاها، أن تكون مع الله تعالى كالمريض بين يدي الطبيب.
والفرق بين هذه المقامات، أن الأول قد يخطر بباله تهمة. أما الثاني فلا اتهام، ولكن يتعلق بأمه عند الحاجة. أما الثالث فلا اتهام ولا تعلق، لأنه فانٍ عن نفسه، ينظر كل ساعة ما يفعل الله به [انظر "معراج التشوف" ص8].
الخلاصة:
إن التوكل من أعظم ثمار الإِيمان والمعرفة، وأهم أسباب السعادة والطمأنينة، وقد فهمه السادة الصوفية على حقيقته، ونبهوا إلى أنه ليس بترك الأسباب والتخلي عنها، بل هو انحصار الأمل في الله، والالتجاء إلى تدبيره وحكمته، وعدمُ تعلق القلب بالأسباب، لأنها وحدها لا تغني من الله شيئاً.
وهكذا تحقق السادة الصوفية بأعلى مراتب التوكل، فقلوبهم مطمئنة بالله تعالى، معتمدة عليه، واثقة به، متوجهة إليه، مستعينة به لأنه لا فاعل في الوجود سواه.
وأبدانهم تأخذ بالأسباب امتثالاً لأمره، وتمسكاً بشرعه، واقتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
يقول الشيخ أبو موسى الديبلي :
« قيل لأبي يزيد [ البسطامي ] ما التوكل ؟
فقال لي : ما تقول أنت ؟
قلت : إن أصحابنا يقولون لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك .
فقال أبو يزيد : نعم هذا قريب ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ، ثم وقع بك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل » .
ويقول الشيخ الأكبر ابن عربي :
« التقى إبراهيم ابن ادهم وشقيق البلخي بمكة ، فقال إبراهيم لشقيق : ما بدء أمرك الذي بلغك هذا ؟
قال: مررت ببعض الفلوات ، فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فلاة من الأرض ،
فقلت : انظر ، من أين يرزق هذا ؟ فقعدت بحذائه ، فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة ، فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين .
فقلت لنفسي : يا نفس ، إن الذي قيض هذا الطير الصحيح لهذا الطير المكسور الجناحين في فلاة من الأرض قادر أن يرزقني حيث كنت ، فتركت التكسب ، واشتغلت بالعبادة .
فقال إبراهيم : يا شقيق ، ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم العليل حتى تكون أفضل منه ؟ أما سمعت عن النبي : اليد العليا خير من اليد السفلى ، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار … فأخذ بيد إبراهيم فقبلها وقال : أنت أستاذنا يا أبا اسحق .
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
[align=center][table1="width:100%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit4/backgrounds/73.gif');border:7px groove green;"][cell="filter:;"][align=justify]
تعريف الزهد عند المتصوفة
تعريف الزهد:
قال ابن الجلاّء: (الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها) ["الرسالة القشيرية" ص56].
وقيل: (الزهد عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف) ["الرسالة القشيرية" ص56].
وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (الزهد استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب) ["الرسالة القشيرية" ص56].
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: (الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد، وهذا زهد العارفين، وأعلى منه زهد المقربين فيما سوى الله تعالى من دنيا وجنة وغيرهما، إذ ليس لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إلى الله تعالى والقرب منه) ["الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديث النووية" للشيخ إبراهيم الشبرخيتي].
فالزهد تفريغ القلب من حب الدنيا وشهواتها، وامتلاؤه بحب الله ومعرفته. وعلى قدر تخلص القلب من تعلقاته بزخارف الدنيا ومشاغلها يزداد لله تعالى حباً وله توجهاً ومراقبة ومعرفة، ولهذا اعتبر العارفون الزهد وسيلة للوصول إلى الله تعالى، وشرطاً لنيل حبه ورضاه، وليس غاية مقصودة لذاتها.
مشروعية الزهد:
نفى بعضهم وجود الزهد في الإسلام نفياً قاطعاً، واعتبر الزهد بدعة دخيلة على الدين، تسربت إليه عن طريق الرهبنة النصرانية أو النسك الأعجمي، ولا شك أن موقفهم هذا تسرُّعٌ في الحكم مع جهل بحقيقة الإسلام. فلو رجع هؤلاء المنكرون إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا أنه عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الزهد صراحة، ويعتبر الزهد وسيلة لنيل محبة الله تعالى. فقد روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس قال له: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك" [رواه ابن ماجه في كتاب الزهد].
ثم إن كل مسلم حين يتصفح كتاب الله تعالى، يجد كثيراً من الآيات الكريمة تصغِّر من شأن الدنيا وتبين حقارتها وسرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وأنها دار الغرور، وفتنة الغافلين ؛ ومقصود الحق من ذلك أن يُزَهّد الناس فيها بإخراج حبها من قلوبهم حتى لا تشغلهم عما خلقوا له من معرفة الله تعالى وإقامة دينه. قال الله تعالى: {يا أيُّها الناسُ إنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌّ فلا تغُرَّنَّكُم الحياةُ الدنيا ولا يَغُرَّنَّكُم بالله الغَرورُ} [الروم: 60].
وقال أيضاً: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحيوانُ لو كانوا يعلمونَ} [العنكبوت: 64].
وقال تعالى: {المالُ والبنونَ زينَةُ الحياة الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ ربِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً} [الكهف: 46].
وهكذا سائر الآيات الكريمة التي تضرب على هذا الوَتَر وترمي إلى هذا الهدف العظيم.
وإذا استعرضنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجده كثيراً ما يوجه أصحابه إلى العزوف عن الدنيا والزهد في زخارفها، وذلك بتصغير شأنها وتحقير مفاتنها. كل ذلك كي لا تشغلهم عن المهمة العظمى التي خُلقوا من أجلها، ولا تقطعهم عن الرسالة المقدسة التي يحملونها.
فتارة يبين أن الله تعالى جعل الدنيا زينة لنا ابتلاءً واختباراً لينظر هل نتصرف فيها على نحو ما يرضيه أم لا ؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" [أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وتمام الحديث "فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"]. وتارة ينبه الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى أن الدنيا ظل زائل ومتعة عابرة، حتى لا يركنوا إليها فتقطعهم عن الله تعالى. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك [أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها" [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، وقال: حديث صحيح]. وتارة يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حقارة شأنها في نظر الحق سبحانه فيقول: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء" [رواه الترمذي في كتاب الزهد عن سهل بن سعد الساعدي. وقال: حديث حسن صحيح].
وهكذا سار الرسول عليه الصلاة والسلام هو وخلفاؤه وأصحابه الكرام على هذا المنهج الكريم، فعزفتْ نفوسهم عن الدنيا، وزهدت قلوبهم فيها.
مرت بهم فترات من الفقر والشدائد والمحن فما ازدادوا إلا صبراً وتسليماً ورضاء بحكم الله تعالى، ثم جاءتهم الدنيا صاغرة، وألقت بين أيديهم خزائنها ومقاليدها فاتخذوها سُلَّماً للآخرة ووسيلة إلى رضوان الله تعالى، دون أن تشغل قلوبهم عن الله تعالى وطاعته، أو توقعهم في الترف والبطر، أو الكبر والغرور، أو الشح والبخل. فقد خرج أبو بكر رضي الله عنه عن ماله كله في سبيل الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركتَ لأهلك ؟ قال: تركتُ الله ورسوله" [رواه أبو داود في كتاب الزكاة والترمذي في كتاب المناقب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال: حديث حسن صحيح].
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو صاحب اليد الطولى في هذا المضمار، وببذله وزهده تُضرب الأمثال.
وأما عثمان رضي الله عنه فهو الذي جهز جيش العسرة، وأنفق عليه من ماله، غير مكترث بعظم هذه النفقات بجانب رضاء الله، ولبالغ تضحيته وإيثاره وعزوفه عن الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" [رواه الترمذي في كتاب المناقب عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة].
وكتبُ السيرة طافحة بأخبار زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وزهد أصحابه الكرام رضوان الله عليهم. ويضيق المجال عن التفصيل، ونكتفي بذكر النبذ اليسيرة التالية:
عن نافع قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (والله ما شمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب، ولا شمل أبا بكر في بيته ثلاثة أثواب، غير أني كنت أرى كساهم إذا أحرموا، كان لكل واحد منهم مئزر ومشمل لعلها كلها بثمن درع أحدكم، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ورأيت أبا بكر تخلل بالعباءة، ورأيت عمر يرقع جبته برقاع من أدم وهو أمير المؤمنين، وإني لأعرف في وقتي هذا من يجيز المائة، ولو شئت لقلت ألفاً ["تاريخ عمر بن الخطاب" لابن الجوزي ص102].
وقالت حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لعمر: (يا أمير المؤمنين لو لبسْتَ ثوباً هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاماً هو ألين من طعامك، وقد وسَّع الله من الرزق وأكثر من الخير، فقال: إني سأخصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش ؟ فما زال يُذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: أما والله لئن استطعتُ لأشاركهما في مثل عيشهما الشديد لعلِّي أدرك معهما عيشهما الرخي) ["تاريخ عمر بن الخطاب" لابن الجوزي ص104].
وعن قتادة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبطأ عن الناس يوم الجمعة، قال: ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه وقال: (إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يُغسل ولم يكن لي ثوب غيره) ["تاريخ عمر بن الخطاب" ص102].
وما حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلا القدوة العملية الكاملة التي سار المؤمنون الصادقون على نهجها فكانوا مثالاً للزهد والعفة والطهر والاستقامة.
تصحيح مفهوم الزهد:
من تعريفات الزهد السالفة الذكر وبيان مشروعيته يتضح أن الزهد مرتبة قلبية ؛ إذ هو إخراج حب الدنيا من القلب، بحيث لا يلتفت الزاهد إليها بقلبه، ولا ينشغل بها عن الغاية التي خلقه الله من أجلها.
وليس معنى الزهد أن يتخلى المؤمن عن الدنيا فيفرغ يده من المال، ويترك الكسب الحلال ويكون عالة على غيره.
وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصود الحقيقي من الزهد حين قال: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغبَ منك فيها لو أنها أُبقيتْ لك" [أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال: حديث غريب].
قال العلامة المناوي رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الحديث: (فليس الزهد تجنب المال بالكلية بل تساوي وجوده وعدمه، وعدمُ تعلقه بالقلب إليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة الزاهدين، يأكل اللحم والحلوى والعسل، ويحب النساء والطيب والثياب الحسنة، فخذ من الطيبات بلا سرف ولا مخيلة، وإياك وزهد الرهبان) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي ج4/ص72].
وهكذا فهم الصوفية أن الزهد مرتبة قلبية. قال عمرو بن عثمان المكي: (اعلم أن رأس الزهد وأصله في القلوب هو احتقار الدنيا واستصغارها، والنظر إليها بعين القلة، وهذا هو الأصل الذي يكون منه حقيقة الزهد)[ "طبقات الصوفية" للسلمي ص203].
وقد عبر عبد القادر الجيلاني عن مفهوم الزهد الحقيقي تعبيراً واضحاً جامعاً حين قال: (أخرج الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك، فإنها لا تضرك) ["الفتح الرباني" للشيخ عبد القادر الجيلاني].
وفي هذا المعنى قال بعض العارفين: (ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك).
ولهذا عرَّف ابن عجيبة الزهد بقوله: (هو خلو القلب من التعلق بغير الرب) ["معراج التشوف" لابن عجيبة ص7].
وقد بين الإمام الزهري رحمه الله تعالى أن من معاني الزهد الحقيقي أن تشكر الله تعالى على ما رزقك من الحلال، وأن تحبس نفسك عن طلب الحرام قانعاً بما قسم لك من الرزق، فقال حين سئل عن زهد المسلم: (هو أن لا يغلب الحلال شكره، ولا الحرام صبره) ["النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير مادة (زهد)].
وقد أوضح العلماء أن المقصود من ذم الدنيا الوارد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ليس ذماً لذاتها، وإنما هو تحذير من الانشغال القلبي بها ؛ بأن يجعلها المؤمن غاية يسعى إليها بكل إمكانياته، ناسياً غايته الأساسية، وهي الفوز برضاء الله تعالى. فنعمت الدنيا مطية المؤمن ووسيلة إلى التقرب إلى الله تعالى، وبئست الدنيا إذا كانت معبوده. وفي هذا المعنى قال العلامة المناوي رحمه الله: (فالدنيا لا تُذَمّ لذاتها فإنها مزرعة الآخرة، فمن أخذ منها مراعياً للقوانين الشرعية أعانته على آخرته، ومن ثَمَّةَ قيل: لا تركن إلى الدنيا، فإنها لا تبقى على أحد، ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج3/ص545].
طريق الوصول للزهد:
بما أن الزهد مقام قلبي رفيع المنزلة لأنه تفريغ القلب من التعلق بسوى الله تعالى، كان الوصول إليه أمراً هاماً يحتاج إلى جهود كبيرة ووسائل ناجعة، وأهمها صحبة المرشد الذي يأخذ بيد المريد، ويرسم له الطريق الصحيح، وينقله من مرحلة إلى مرحلة بحكمة ودراية، ويجنبه مزالق الأقدام.
فكم من أناس أخطؤوا الطريق فجعلوا الزهد غاية، ولبسوا المُرَقَّع من الثياب، وأكلوا الرديء من الطعام، وتركوا الكسب الحلال، وحسدوا أهل المال، وقلوبهم مفعمة بحب الدنيا، وهم يحسبون أنهم زاهدون. وما وقعوا في ذلك إلا لأنهم ساروا بأنفسهم بعيدين عن صحبة الدليل الخبير، وفي هؤلاء يقول المناوي رحمه الله تعالى: (فالزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، وقد جهل قوم فظنوا أن الزهد تجنب الحلال، فاعتزلوا الناس، فضيعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهرُّوا في وجوه الأغنياء، وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد، فأداهم ذلك إلى الطعن في كثير من الأئمة) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج3/ص73].
وكم من أناس أقبلوا على الدنيا وملذاتها فشغلت قلوبهم بحبها، وعمرت أوقاتهم بجمع حطامها وهم يزعمون أنهم تحققوا بالزهد القلبي، وأنهم فهموا الزهد على حقيقته، ولو كان لهؤلاء طبيب قلبي ناصح، يكون لهم مرآة صادقة، لَكَشَفَ لهم حقيقة وصفهم، ولأرشدهم إلى سبيل الوصول إلى حقيقة الزهد.
وينبغي الإشارة إلى أن المرشدين قد يصفون لبعض تلامذتهم نوعاً من المجاهدات بغية تفريغ قلوبهم من التعلقات الدنيوية، من باب العلاج الضروري الموقت، فيطلبون منهم أكل اليسير من الطعام، أو لبس البسيط من الثياب لإخراج حبها من قلوبهم، أو يدْعونهم للبذل السخي والعطاء الكثير بغية اقتلاع صفة الشح والتعلق بالمال من قلوبهم، وهذه الأنواع من المعالجات ضرورية ونافعة ما دامت برأي المرشد وإشرافه، فهي ليست غايةً لذاتها ؛ بل هي وسيلة مشروعة للوصول إلى الزهد القلبي الحقيقي.
وما أكلُ الرسول صلى الله عليه وسلم للأطعمة البسيطة، وربطُ الحجر على بطنه الشريف من الجوع ـ رغم أن الجبال عرضت له أن تكون ذهباً ـ إلا لبيان مشروعية هذه الأعمال.
وفي هذا قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى، وهو تربّى على يد أشياخه من العارفين: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسَنات، لأن التصوف هو صفة المعاملة مع الله تعالى، وأصله التعزُّف عن الدنيا كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري) ["طبقات الصوفية" للسلمي ص158].
وقد كان عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى يوجه تلامذته في بادىء سيرهم أن يجاهدوا أنفسهم ويروضوها على الاخشيشان والصبر والتقشف، ثم بعدها ينقلهم إلى مراتب الزهد القلبي حين يستوي عندهم الأخذ والعطاء والفقر والغنى، وتفرغ قلوبهم من سوى الله تعالى.
وقد لَفَتَ الصوفية الأذهانَ إلى أمور تساعد على التحقق بمقام الزهد منها:
1ـ العلم بأن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، والرحيل منها إلى دار البقاء، إما إلى نعيم وإما إلى عذاب، فيرى الإنسان نتيجة أعماله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر.
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {ألهاكُمُ التكاثُرُ} [التكاثر:1] قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبستَ فأبليت، أو تصدقْتَ فأمضيت" [رواه مسلم في كتاب الزهد].
وقال أبو المواهب الشاذلي رحمه الله تعالى: (عبادة المريد مع محبته للدنيا شغل قلب وتعب جوارح، فهي وإن كثرتْ قليلة عند الله تعالى).
2ـ العلم بأن وراءها داراً أعظم منها قدراً، وأجل خطراً، وهي دار البقاء، قال تعالى: {قلْ متاعُ الدنيا قليلٌ والآخرةُ خيرٌ لِمَنْ اتقى} [النساء: 77]. ولذا وجهوا أتباعهم للإعراض عن الدنيا، والتطلع إلى الحياة الآخرة، إلى الجنة ونعيمها والرغبة في الله تعالى، فساروا سيرة الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم في التضحية والإيثار ومجاهدة النفس ومغالبة الهوى دون أن تستهويهم زخارف الحياة الزائلة.
وكان شعارهم قول بعضهم:
لا تنظرنَّ إلى القصور العامرة واذكر عظامك حين تمسي ناخرة
وإذا ذكرتَ زخارف الدنيا فقل لبيكَ إنَّ العيش عيش الآخرة
3ـ العلم بأن زهد المؤمنين في الدنيا لا يمنعهم شيئاً كُتب لهم، وأن حرصهم عليها لا يجلب لهم ما لم يُقضَ لهم منها، فما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم.
الخلاصة:
وصفوة القول: الزهد مقام رفيع لأنه سبب لمحبة الله تعالى، ولذا دعا إليه الكتاب والسنة، وأشاد بفضله أئمة الدين، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد أحسن من الحلي على الناهد) ["فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج4/ص73].
ولذلك فإن الصوفية قد تحققوا بالزهد وتدرجوا في مراتبه التي أشار إليها ابن عجيبة بقوله: (فزهد العامة: ترك ما فضل عن الحاجة في كل شيء، وزهد الخاصة: ترك ما يشغل عن التقرب إلى الله في كل حال، وزهد خاصة الخاصة ترك النظر إلى ما سوى الله في جميع الأوقات إلى أن قال: والزهد سبب السير والوصول ؛ إذ لا سير للقلب إذا تعلق بشيء سوى المحبوب) ["معراج التشوف" لابن عجيبة ص7 ـ 8].
وقد وصف الإمام النووي رحمه الله تعالى هذه الفئة فقال:
إنَّ لله عباداً فُطَنا طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
كاتب نور أدبي متألق بالنور فضي الأشعة ( عضوية فضية )
رد: التصوف الإسلامي وحلقات الذكر
سيدتى الرائعة من البهى ان تطرحين هذا الطرح العميق والذى نحن بحاجة إلى ان نناقشه لما احاطه من اقوال كثيرة ومعالطات فكرية طغت فى الآونة الأخيرة على جوهره الحقيقى حتى بات من " هب ودب" يدعى التصوف أو ينظر له وأصبحنا نواجه اليوم بما يسمى الأدب الصوفى أو التجربة الصوفية فى الدب والبعض يخلط بين هذه التجربة ةالأدب الإسلامى ومقولات كثيرة تماهت فى هذا الأمر واحاطته بالتضليل والزيف
بيد أنى كنت أتمنى ان نناقش الموضوع تاريخيا نبدأ بتاريخ ظهور الصوفية كمنهج فى العصر العباسى وأسباب الظهور ثتم نتناول المنهج التحليليى فاقتران المنتهج التاريخى مع التحليلى عند مناقشة ظاهرة ما يخلق منهجا متكاملا ويضع8 بين يدى المتلقى صورة كاملة عن هذه الظاهرة
واسمحى لى أن أشرف بمشاركتك فى هذا الأمر وعند عودتى ساتحدث عن ظهور الصوفية أو التأريخ لها
كل كل محبتى
يعد التصوف من مقومات تاريخ المغرب الروحي والديني والثقافي والاجتماعي والسياسي بل والاقتصادي، لم تقتصر آثاره على المدن بل أدمجت البوادي في الحياة الثقافية، ولم يقتصر على جماهير العامة بل صار السند العلمي والسند في الإذن الصوفي يكادان يقترنان في تراجم معاجم الأعلام، فكان التصوف من معطيات الإشعاع المغربي في اتجاه الشرق...
إن عرض مسألة التصوف على تاريخ المغرب على امتداده عبر القرون يُظهر أن هذه المسألة بعمقها الاجتماعي وامتدادها الجماهيري وفعاليتها الميدانية عرض له جانب فلسفي يتصل بتعريف ممكن وحكم مستنبط من الأدوار خلال زمن طويل. لأن تجليات الظاهرة تبدو مرتبطة بسياقات معيشة ومفاهيم فاعلة وتقبل توافقي لا يقدح لا في صرامة التمسك العقدي بالسنة ولا في التمسك الفقهي بالمذهب المالكي دون غيره. ومن جهة أخرى فإن تجليات هذه الظاهرة على مستوى جماهيري وعلى امتداد زمن طويل لا يضفي عليها النسبية الإيجابية فحسب بل يجعل متتبعها يستغني عن أي تعريف نظري قبلي أو بعدي للتصوف، إذ أن التصوف في ذلك السياق الاجتماعي هو ما تجلى على امتداد زمن طويل بألوان وأدوار وتعابير لها قوة إقناع لا يعاندها إلا الذين يسمحون لأنفسهم بأن يتوعدوا الأمة بسوء المصير.
التصوف من وجهة التاريخ الاجتماعي والثقافي
لقد نظمت جامعة أوتريخت بهولندا في أواخر أعوام التسعين ندوة حافلة تناولت أنواع المعارضة للتصوف عبر تاريخ الإسلام في مختلف الأقطار، ويتجلى منها أن تلك المعارضة استهدفت تارة أقوال أشخاص من النخبة أو سلوكات ومعتقدات للطوائف الاجتماعية الدنيا تارة أخرى. فهي إذن معارضة لا تاريخية، لأن آثار التصوف وأدواره تحققت في التاريخ كما سنرى في المثال المغربي، وهي معارضة لا فلسفية، لأنها تتحرج من التأويل، في حين أن علوم القوم علوم رمز وتأويل وإشارة. وهي معارضة لا اجتماعية، لأنها لا تعترف بحق الملأ العام الذي نسميه عادة بالجماهير، في الفيض الشعوري الذي تبدِّعه تلك المعارضة وتستنكره، وهي معارضة لا إنسانية، لأنها لا تؤمن بحق طلب الاكتمال الإنساني عن طريق الروح المكرمة في بني آدم نساءا ورجالا، وهي معارضة لا سياسية لأنها لا تؤمن بالفرد، وهي في الأخير معارضة لا ربانية لأنها تستنفد دون أن تدري كلام الوحي الذي لا ينفد.
ربما كان طرح الأسئلة المتعلقة بالتصوف من وجهة التاريخ الاجتماعي والثقافي الأسلوب التربوي الأنجع الذي يحسن أن يقدم به التصوف في مدارس البلاد الإسلامية وجامعاتها، وهو الطرح الذي يتيح نقل الحديث عن التصوف من مجال المطارحة الكلامية الفردية التي يستحضر فيها الحلاج أو الغزالي في مقابلة ابن تيمية أو ابن الجوزي مثلا، نقله إلى مجال الوقائع التاريخية الممتدة التي انخرطت فيها جماهير واسعة من الرجال والنساء. وفي هذا المستوى يجوز أن نقترح استعراضا مقتضبا للتجربة التاريخية المغربية.
يبدو أن ظهور أشخاص بالمغرب الأقصى يمكن أن تنسب أحوالهم وأقوالهم إلى التصوف، أي إلى ما يعرف بالتوحيد الخاص المبني على الاعتقاد بإمكان الوصل المعنوي والوصول السلوكي إلى إدراك مباشر لليقين الممكن في التوحيد في طور تحل ببعض الصفات الذوقية أو تلبس لبعض مقتضيات حقائق الصفات واعتبار الروحانية النبوية مرجعا لتحقيق ذلك على أكمل معانيه، كان ظهورا متأخرا بالنسبة لبلاد المشرق، بل وبالنسبة حتى لبلاد إفريقية والأندلس، وذلك على غرار تأخر الظواهر الحضارية الأخرى، ثقافية كانت أو سياسية. وقد يكون هذا التأخر، فيما يهمنا هنا، مرتبطا بتأخر الآثار الكتابية الشاهدة لا بتأخر الظاهرة نفسها.
كانت أحوال الزهد والورع غالبة على أفراد من هذه الطائفة، ممن بلغت إلينا أخبارهم من أهل القرون الإسلامية الأربعة الأولى، دون أن يرد بصدد عدد منهم ما يجعلنا نصنفهم في عداد المتصوفة بالمعنى الاصطلاحي، غير أن التميز بدأ في المغرب في القرنين الخامس والسادس الهجريين بين مجرد الزهاد وبين الذين ارتبط زهدهم بفكرة لها علاقة بسلوك مبني على هذا التوجه الذي وُصف بالتوحيد الخاص، أي تلبس وجداني أعمق بمعنى التوحيد لا مجرد الإشهاد القولي به.
ثلاثة كتب
وقد جاء ذكر أزيد من أربعمائة وجه من وجوه التصوف بالمغرب في هذين القرنين في ثلاثة مصادر رئيسية سمت مترجَمِيها بالصلحاء تارة، وبالعُبَّاد تارة وبأهل التصوف تارة أخرى، هذه المصادر هي كتاب محمد بن عبد الكريم التميمي وعنوانه: "المستفاد في ذكر الصلحاء والعباد بفاس وما والاها من البلاد"، ألفه قبل عام 572هـ، وليس منه بين أيدينا سوى قطعة، لعلها النصف الثاني من الكتاب؛ وكتاب أبي يعقوب يوسف التادلي وعنوانه: "التشوف إلى رجال التصوف"، ألفه عام 617هـ ؛ وكتاب أبي يعقوب البادسي، وعنوانه: "المقصد الشريف في صلحاء الريف".
وهذه الكتب الثلاثة صنفها أصحابها على منحى "حلية الأولياء" لأبي نعيم، ولكن كل واحد من هذه المصادر آثر التركيز على ذكر المبجلين في جهة بلاده. وهكذا يبدو من خلال مادة التراجم الواردة في هذه المصادر أن ظاهرة التصوف قد شملت كل المناطق القديمة الاستقرار وأبرزها منطقة الريف في الشمال وجهات مدينة فاس وبسيط قبائل تامسنا (السهول الواقعة على المحيط الأطلسي التي بها الدار البيضاء اليوم) ودكالة وهي جنوبي الجهة السابقة وتمتد من البحر إلى مراكش، وجهات أغمات ومراكش وجهات هسكورة وهي الجبال التي بين مراكش ووارزازات، وجهات ركراكة جنوبي وادي تانسيفت ودرعة جنوبي وارزازات ووادي سوس شرقي مدينة أكادير.
كان من صوفية المغرب في هذا العهد من أخذ عن شيوخ مشارقة، ولاشك أن الرحلة للعلم أو للحج قد دعمت هذا الأخذ، مثل أخذ عبد الجليل بن ويحلان، دفين أغمات، عن أبي الفضل الجوهري بمصر، وعبد الجليل هذا من رؤوس سلسلة كبار الشيوخ، فهو شيخ عبد الله ابن واكريس الدكالي وهذا الأخير هو شيخ أبي شعيب صاحب أزمور، وهذا بدوره هو شيخ أبي يعزى إلخ، وهؤلاء الثلاثة من رؤوس السند الصوفي بالمغرب. ومنهم من أخذ عن قيروانيين بإفريقية (تونس حاليا) أو عن أندلسيين، بل إن منتسبين إلى الصلاح رحلوا إلى المغرب من بلاد إفريقية كما رحلو إليه من الأندلس.
كان من الصوفية أهل حضر وأهل بادية، والبادية بالمغرب في معظمها ولاسيما في ذلك العهد أرض استقرار وفلاحة وعمران. وكان منهم منسوبون إلى العلم الكتابي الاصطلاحي، ومنهم من لم يُعرفوا سوى بوَرع في السلوك أو بكرامات، وقليل منهم في هذا العهد منسوبون لآل البيت. كان معظمهم أفرادا بلا أتباع رسميين مميزين، ولكنهم كانوا يتعارفون فيما بينهم ويتصلون، ويُقصدون في غالب الأحيان للتبرك أو لطلب التوسط في الأغراض، فردية كانت أو جماعية. ولم تكن الطرق الصوفية قد ظهرت بعد بشكلها المعروف.
ولقد حرص المترجمون المغاربة لأهل التصوف على تخليص الكلام عنهم مما يمكن أن ينعت بـ "علم التصوف"، أي من التعابير عن الأذواق والعرفان الخاص، لكن نقل بعض كلامهم ينبئ عن إشارات إلى المعاني الاصطلاحية التي تحتاج إلى تأويل، وقلما ألف هؤلاء تآليف قائمة، فيتعذر إذا، ربطهم بمذاهب ومشارب بالرغم من تحيز بعضهم للغزالي مثلا، في بعض المواقف العملية. وكان من المنسوبين إلى التصوف عائلات قليلة توارثت المشيخة على امتداد أجيال، مثل آل أمغار الصنهاجيين في رباط تيط جنوبي مدينة أزمور.
يتعذر في الحالة الحاضرة للبحث في التصوف بالمغرب إعطاء أجوبة معمقة لمختلف الأسئلة المتعلقة بتصور دقيق للمنزع الصوفي ولاسيما ما يهم الأمور الآتية:
1- في ما يتعلق بوضع تحقيب تطور ظاهرة التصوف كنشاط اجتماعي، بشكل مقنع؛
2- بخصوص التيارات الخارجية التي أثرت فيه أو أثر فيها، سواء بالنسبة للمشرق أو الأندلس؛
3- في ما يتعلق بقضية أنواع المعارضة التي لقيها التيار الصوفي من الجهات المتسننة في المجتمع أو من جهة المتضايقين به كسلطة رمزية يخشى من تحولها إلى شريك في السلطة الفعلية؛
4- تصنيف الأوضاع التي وجدت فيها تيارات صوفية في مواجهة الجهاز السياسي أو في معاضدته، إلى غير ذلك من القضايا التي تبدو بعض ملامحها من خلال ما أنجز من الأبحاث، ولكنها غير مكتملة ولا واضحة بما فيه الكفاية.
التفاعل مع المجتمع
ففي ما يخص التحقيب يبدو العنصر الحاسم فيه هو التفاعل مع المجتمع واتخاذ شكل مؤسسي ومعانقة ملابسات التاريخ في جوانبه الأخرى، وهذا يصدق على التصوف بما غلب عليه من طابع اجتماعي في المغرب. أما من حيث المعنى الصوفي في حد ذاته فلا مجال لتحقيبه إلا على فرض أنه فكر توفيقي أو متأثر بمدارس فكرية مهما كانت طبيعتها كالإشراقية والأفلاطونية الجديدة الخ، أو على فرض أن تعبير الصوفي عن تجاربه يصير تعبيرا مُوَجِّها بل ومنتجا لتجارب أخرى، أما خارج هذين المنظورين: المؤسساتي الاجتماعي التاريخي والفكري التأثري، فالمفروض أن التصوف أينما ظهر يرتبط بتجربة الإسلام الروحية: يظهر فيها متى وأنى ظهرت، فيبقى التدوين هو الحاسم عند المؤرخين في التمييز بين مراحل من السيرورة عبر الآثار. وإذا راعينا هذا التدوين فإن القرنين الخامس والسادس الهجريين يشكلان عصر ظهور التصوف المغربي وانتشاره ونضجه وازدهاره في آن واحد، بالنظر إلى أن أعلام القدوة فيه قد عاشوا في القرن السادس على الخصوص. فعندما كتب ابن الزيات عام 617هـ كتابه في تراجم مائتين وسبعين من المنسوبين إلى التصوف في الجهات التي اهتم بها، أعطانا نماذج متنوعة لمن يمكن إدخالها في هذه الطائفة، وذكر بصددهم أنواعا من السلوك والقيم يمكن أن تستنتج منها معايير تصنيف رجال التصوف إلى ذلك العهد، ومنها تظهر أدوارهم الدينية جلية وتتعلق كلها بالعمل بالقول والفعل والتأثير والقدوة على دمج مجتمع عجمي هامشي في إطار الإسلام وحضارته وتاريخه، وهو دور بارز حتى ولو قيس بأدوار الفاعلين الآخرين كالأمراء والفقهاء والعلماء. ولكن ابن الزيات كان يرى، في أوائل ذلك القرن، أي القرن السابع، وكأن تلك الحركة دخلت في عهد أفولها بعد انصرام قرن الرواد من أمثال: أبي شعيب وأبي يعزي وابن حرزهم وأبي مدين وغيرهم. غير أن ابن الزيات أشار إلى شخص عامل مجدد لذلك النهج الصوفي كان بمدينة أسفي كان ما يزال على قيد الحياة، وهو أبو محمد صالح. ثم إن ابن الزيات لم يعلم بوجود معاصر له بجبل العلم في أقصى شمالي غرب المغرب وهو الشيخ عبد السلام بن مشيش الذي جمع، كما جمع الشيخ عبد القادر الجيلالي في الشرق، بين النسب الشريف وبين الأستاذية في التربية الروحية على المنهج الذوقي الصوفي. لم يكن ابن امشيش أول من بدأ به في المغرب مصرع أهل التصوف على أيدي المتضايقين بهم عندما قتل عام 625هـ، ولكنه كان رأس أحد التيارات الصوفية الكبرى في العالم الإسلامي، وهو تيار الشاذلية، إذ أن أبا الحسن الشاذلي، واسمه علي الغماري هو تلميذ ابن مشيش. أما التيار القادري فقد دخل مبكرا بصفة عملية إذا أقررنا بأن الشيخ أبا مدين لقي الشيخ الجيلاني بالشرق وأخذ عنه، ولكن هذا اللقاء وقد يكون نتج عنه من التأثر، إن كان هنالك تأثر، وقع قبل بروز هذا الاهتمام المتأخر بسلسلات السند الكبرى على مستوى طرق التصوف. أما ابن عربي الحاتمي، فبالرغم من تردده على المغرب بين عام 590 وعام 597هـ، فإننا لا نستطيع أن نقارنه بابن مشيش والشاذلي من حيث التأثير، لأن تأثير الحاتمي مقتصر على خاصة الخاصة من القراء إلى يومنا هذا، بينما كان تأثير "الحركيين" من الشيوخ، حتى من أمثال أبي يعزى البربري الذي لم يكن محفوظه من القرآن يتعدى قصار السور، تأثيرا فعالا سلوكيا ووجدانيا في طوائف واسعة من الأتباع المبجِّلين لسطوة الشيوخ وجاذبيتهم الروحية.
مراعاة الشعور السني العام
وعلى هذا الأساس، فربط التيار الصوفي المغربي بأحد كبار أوائل المؤسسين، وهو أبو القاسم الجنيد (المتوفى عام 297هـ)، هو ربط متأخر لكسب المصداقية السنية لهذا التصوف، ومن ثمة وصفه على أنه تصوف تغلب عليه الأخلاق والسنية ويتجنب "الحقائق"، إنه تصنيف لا ينطوي إلا على طلب الارتياح السهل الذي يتيحه كل تصنيف، ذلك أن ابن الزيات، وقد كتب كما ذكرنا في أوائل القرن السابع، قد صرح في مقدمة كتابه أنه جرده من هذه "الحقائق" التي سماها بـ "علم التصوف"، ويقصد بالحقائق، ثمار التحقق الوجداني باستخصار التوحيد في عبارات مجازية، ليست العبرة بمنطوقها بقدر ما يعتبر بثمارها السلوكية المستحضرة لمعاني الله في توحيده الخالص. فيفهم من كلامه أن "تلك الحقائق" كانت رائجة عند المتصوفة كما هو معتاد، ولكن إشاعتها في أوساط العامة كان موضوع اعتراض. فتكون مراعاة الشعور السني العام في المغرب واقعا متأصلا، ولكنه لا يعني البتة أن تلك المعاني المسماة ب "الحقائق" يمكن فصلها عن التجربة الصوفية ولو عند رجل لم يكن يعرف من العربية شيئا مثل أبي يعزى، وهذا المثال يدل على أن الأمر لا يتعلق بتثاقف ولا بعدوى على مستوى المخيال.
نستطيع أن نقول إن صوفية المغارب أقل تآليف في علم التصوف من صوفية المجتمع الحضري في الأندلس وعواصم المشرق وإيران، ولكن أخبار الصوفية المغاربة قد أعطت أدبا منقبيا على درجة من الغزارة، ويتضمن هذا الأدب مواقف وأعمالا وأقوالا شكلت المادة المنقبية التي كتبها المريدون، بيد أن شذرات قليلة من الآثار التي وصلت إلينا ضمن هذه المناقب كالصلاة المنسوبة للشيخ ابن مشيش أو تلك المبثوثة في ثنايا الصلوات التي جمعها الشيخ الجزولي أو حتى في أزجال بعض الشيوخ الشرقاويين، نسبة إلى الأسرة المعروفة بالصلاح بجهات الهضبة الوسطى، في القرن الثامن عشر، أو رسائل الشيخ العربي الدرقاوي أو كلام الشيخ التجاني أو الشيخ ابن عجيبة في القرن التاسع عشر إلخ. هذه الآثار، نثرية كانت أو شعرية، قد تضاهي في مضامينها أي آثار تعبير صوفي آخر في أي مكان كان من العالم.
تأسيس الطوائف أما على صعيد العمل الاجتماعي أو ما سميناه بملابسة التاريخ، فإن عهد ما بعد القرن السادس الهجري في المغرب قد تميز بكونه بداية تأسيس الطوائف وتكوين شبكة الإسناد الذي تفرعت عنه الطرق. فابن قنفذ القسنطيني الذي جال بالمغرب في منتصف القرن الثامن قد لاحظ هذا التنظيم واضحا للعيان، حيث ذكر أن جملة ما ترجع إليه تلك الطوائف ست هي:
1- الشعيبيون، أتباع أبي شعيب صاحب أزمور وهو من أهل القرن السادس؛
2- الصنهاجيون، أتباع شيوخ بني أمغار أصحاب رباط تيط جنوبي الجديدة الحالية (وهم أيضا من أتباع شيوخ عاش أعلامهم في القرنين الخامس والسادس)؛
3- الماكريون (طائفة أتباع أبي محمد صالح شيخ آسفي)؛
4- الحجاج، وغايتهم تنظيم الحج، ولهم علاقة بالشيخ السابق؛
5- الحاحيون من أصحاب أبي زكرياء الحاحي دفين تيغزا وجلهم في جبال درن المعروفة اليوم بالأطلس الكبير؛
6- الأغماتيون وهم طائفة أبي زيد الهزميري الذي كان بأغمات أيلان ومدفنه خارج باب فتوح بمدينة فاس.
والظاهر أن مشاهدات ابن قنفذ اقتصرت على جهات معينة طاف بها، وهي دكالة وعبدة وحاحة وجهة مراكش، ولم تشمل جهة سوس وكبريات المدن والريف وتادلة، إلخ. فتكون الخريطة الدينية للمؤسسات الصوفية في أي عهد، رهينة بالشهادات المدونة، ولكن القرائن تجيز لنا أن نتصور كثافتها في كل الجهات بالنظر إلى ما يبرز عن حدوث موجبات تسليط الضوء عليها.
الشيخ والمريد والزاوية
بيد أن ظاهرة واضحة من شهادة ابن قنفذ، بالنسبة للقرن الثامن، ظلت تصدق على القرون الموالية، وهي تتمثل في كون طريقة التصوف تقوم على وجود شيخ يصحبه مريدون يجتمعون معه حول المعنى الأساسي لتحقيق التوحيد الخالص عبر مراحل تزكية يتراوح أسلوبها بين مظاهر الجلال والجمال، ولكن قيام ذلك الشيخ بمهمته يستتبع في الغالب تكوين طائفة ومؤسسة هي الطريقة ويكون مركزها ومنطلقها بناية تسمى الزاوية. ما تلبث هذه المؤسسة أن تخضع لمقتضيات كل مؤسسة اجتماعية أي مقتضيات التعامل مع الواقع، يضاف إلى هذا ما يطرأ عادة من كون تلك المؤسسة الصوفية قد تستمر بعد الشيخ في عائلته، وبلا "وارث" روحي مقتدر على المهمة التربوية في كثير من الأحيان، فينتج عن هذا التراكم بتوالي القرون أن الخريطة الصوفية، في وقت معين، في بلد معين، تكون ذات سمات تشبه سمات الخريطة الجيولوجية المتنوعة التشكيلات: براكين نشيطة هي المؤسسات النشيطة الحية، ومخاريط على جنباتها رماد متحجر، وقمم عالية من الأعلام (الجبال) وتلال شاهدة واطئة تعود الى أقدم الأزمنة. فالأمر الأصلي في التصوف الحي يستمر في التشكيلات الفتية، و"البركة" أو التبرك مطلوب عند "الجميع"، والأدوار الاجتماعية أكثر فعالية لدى التشكيلات المستندة إلى عوامل استراتيجية وإلى تجارب تدعمها سياقات تاريخية مناسبة، بينما يتعرض كل تجديد لصعوبات من قبل أطراف مختلفة. وفي مثل هذا السياق المخضرم الذي يتساكن فيه الطارف والتالد، القديم والجديد، يتولد الالتباس المؤدي إلى مواقف سلبية مثل الموقف الذي اتخذته الحركة الوطنية في المغرب في القرن العشرين من بعض المحسوبين اجتماعيا على الانتماء إلى التصوف حدث لهم أن تورطوا لوزنهم الاجتماعي في ملابسات فهمت على أنها موالاة للاستعمار فنسب ذلك إلى الحركة الصوفية كلها، ولما كانت الفعالية تكمن في إيجاد تضاد وتقابل بين تيارين لفائدة الحركي منهما، فقد وقع التغاضي على المواقف الإيجابية لفعاليات صوفية حية قاومت التدخل الاستعماري من أواسط القرن الماضي الى الثلث الأول من القرن العشرين بينما تم إبرار السلبي الشاذ لأنه يكفل تحقيق التضاد الحركي ؛ ذلك لأن الوطنية المغربية مثل السلفية المشرقية قبلها ونقصد سلفية النهضة، احتاجت تاكتيكيا إلى أن تضع تبعات التخلف على حساب مظاهر من حياة التصوف الشعبي المتحدر.
إنقاذ الأرض والأمة
بيد أن تاريخ المغرب في مداه الطويل يشهد للصوفية بدور إنقاذ الأرض والأمة منذ تأسيس الرباطات الأولى إلى أن احتل الإيبيريون شواطئ البلاد في القرن التاسع الهجري–15م-، وقام شيوخ متصوفة أحياء فاعلون بتعبئة القوى الشعبية لتحرير الثغور وحمل إمارة قادرة على تعبئة الناس حولها إلى الحكم للقيام بدورها بعد الفراغ الخطير الذي ترتب عن ضعف الدولتين المرينية ثم الوطاسية في القرن الخامس عشر الميلادي. ومن سوء الحظ أن دولة السعديين التي رفعها الصوفية إلى الحكم في القرن العاشر الهجري قد ضعفت لأسباب داخلية وخارجية، وهبت لاحتلال الفراغ السياسي تشكيلات لها نزعة "تصوفية"، ولكنها أقرب ما تكون إلى التشكيل المرابطي القائم على وظائف اجتماعية كالتعليم والتحكيم، ومنها الزاوية الدلائية، فنسب إليها الطموح السياسي وترددت هذه التهمة في ما بعد معرة على "المتصوفة"، والواقع أن أهل الدلاء المتأخرين الذين خاضوا في أمور الإمارة ليست لهم حتى تمثيلية مؤسسي الزاوية الذين لم يدعوا شيئا غير تلمذتهم لشيوخ الزاوية الناصرية.
لقد اغتيل الشيخ الجزولي –عام 870هـ- وهو مؤسس الحركة الصوفية التي حررت المغرب من الغزو الإيبيري، اغتيل في ظروف مشابهة للظروف التي اغتيل فيها الشيخ ابن مشيش شيخ الشاذلي قبل قرنين ونصف، ولم ينتبه الناس إلى أي من الشيخين في حينه، حتى عرض ما بعث على ذلك الذكر باعتبار الشهيد رمزا لحركة تحققت في ما بعد، وهكذا اتُّخذ الجزولي رمزا لانتصار دولة السعديين لأن تلامذته أطروا الجهاد لتحرير البلاد وظهروا بمثابة "زعماء أحزاب" في حركة انبعاث اقتضتها ظرفية وطنية محفوفة بالمخاطر. ولذلك فالجزولي يستحق بالفعل أن يكون بداية مرحلة جديدة من حيث كثافة تلبس التصوف بتاريخ المغرب كفاعل حركي لا من حيث الاعتبار المذهبي الصرف. وهكذا سمي التيار السائد بعده بالشاذلية الجزولية، واعتبر الشيخ زروق دفين ليبيا من أعلام وسائطها، وإن كان قد أُثر عنه اعتبار القرن التاسع الهجري نهاية عهد "صاف" في تاريخ التصوف المغربي، فاحتاج في تأليفه إلى التذكير بقواعده التربوية التي ما كان لها أن تسلم قط في خضم المعانقة الشعبوية التي عرفتها، فلعل ما استجد من جماهيرية التصوف قد جعل رقابة الفقيه النخبوي على العوائد العفوية العاطفية تغلب على توسع الصوفي الذي يعتقد الخير في الملأ الكبير على أن يتسع فضل الله الأكبر لجنوحاته التعبيرية.
وهكذا فإن فعل التصوف في التاريخ يمكن أن تستعرض وجوهه من خلال أدوار مشهودة بشكل تزامني قامت بها التكوينات الصوفية في المغرب عبر القرون في سباق التفاعل الاجتماعي الذي اعتبرناه الأساس الممكن لأي تحقيب.
إذا تجاوزنا الجانب الروحي، أي دور التأهيل للاكتمال والحرية إزاء العالم، وهو الدور الأساس الذي هو الأصل في المنهاج الصوفي، والتفتنا الى الأدوار المحسوسة ذات الآثار التاريخية وجدنا تجلياتها تشمل جوانب كثيرة منها:
أولا- الدور الديني وتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- نشر الإسلام كعقيدة في شعوب وقبائل لم يصل إليها الفاتحون ؛
2- بث تعاليم الإسلام في أقوام ظل إسلامهم لا يتعدى مظهر الهوية والانتماء ؛
3- تنظيم مواسم دينية أرست العقيدة كالموسم الذي اشتهر في المغرب بموسم رباط شاكر، وعند هذا الرباط ينظم اليوم اللقاء العالمي للمنتسبين إلى التصوف ؛
4- تنظيم الجهاد ضد الغزو الأجنبي وتأطيره في أوقات كانت فيها الأمة في أخطار محققة تهددها من الخارج ؛
5- تنظيم السفر الى الحج عبر شبكة أمنية ولوجيستيكية، وربط المغرب بالمشرق في ظروف مخيفة جعلت حتى الفقهاء يفتون بعدم لزوم القيام بفريضة الحج.
ثانيا- الدور التعليمي والعلمي والثقافي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- نشر حفظ القرآن الكريم؛ وقد كان عدد من أوائل شيوخ التصوف من المعلمين في الكتاتيب ؛
2- بناء المدارس العلمية وتدبيرها، ولاسيما في أوساط القبائل ؛
3- إنشاء الخزائن وتعميرها بالكتب العلمية، وتشهد بهذا الإسهام مجموعات التراث المخطوط في مكتبات المغرب إلى يومنا هذا ؛
4- توفير إمكانيات التأليف واحتضان المصنفين ؛
5- نشر الثقافة العامة الشفوية عند غير القارئين، عن طريق مجالس الذكر والمذاكرة.
ثالثا- الدور الاجتماعي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- توفير الإيواء في زوايا التصوف لعدد من أبناء السبيل؛
2- إطعام المحتاجين الطعام، ولا سيما في أوقات نقص الغذاء وحدوث المجاعات؛
3- تأمين الطرق بالهيبة والرهبة التي عرف بها أصحاب الزوايا، وتدعيم ذلك بنشر أخبار الكرامات التي تدور حول نزول الشر بالمعتدين عامة وقطاع الطرق خاصة؛
4- التدخل بالحكمة والرغبة والرهبة لحماية جماعات المحكومين من عسف العمال الظالمين والحكام المستبدين؛
5- ضمان التوازن وتدبيره بين الطوائف في مجتمع انقسامي على شفا الحرب والمقاتلة لو اختل هذا التوازن؛
6- الإشراف على معاهدات التساكن بين جماعات متجاورة تنطوي وضعياتها على احتمال قيام مبادرات عدوانية؛
7- كسر الحواجز القبلية والإثنية ونصب جسور تواصل روحي بين الجماعات ولاسيما بين العرب والبربر، أو تليينها على الأقل؛
8- تأطير الاستقرار في المجالات الترابية الجديدة التي تغزوها الجماعات بعد فراغ ناتج عن موتان أو غيره ؛
9- تأطير الاندماج الاجتماعي للمهمشين والغرباء والطراء في أوساط علاقاتها قائمة على الأنساب والعصبيات؛
10- تيسير التواصل الإخباري عبر الشبكة الإخوانية للمنتمين إلى حركة صوفية معينة.
11- تكوين دوائر واسعة من المتعاطفين تسري فيها ثقافة السلوك تتداول فيها حكمها.
رابعا: الدور الاقتصادي ويتجلى على الخصوص في ما يلي:
1- إحياء مجالات من الأرض الموات وعمارة الأرض.
2- غرس الأشجار على نطاق واسع لمواجهة حاجات القاصدين ؛
3- استباط المياه من العيون والآبار وبناء المجاري المشتقة من الأنهار ؛
4- ضمان الأوفاق والمعاهدات المتعلقة باستغلال المراعي ولاسيما في قمم الجبال من طرف قبائل متعددة؛
5- تأطير التنظيمات الحرفية والمهنية بالمدن، حيث نجد طوائف حرفية معينة تنتمي إلى زوايا صوفية معينة؛
6- الإشراف على أمن الأسواق ورعايتها؛
7- الربط بين مناطق متكاملة في التبادل التجاري.
خامسا: الدور السياسي، ويتجلى على الخصوص في الجوانب الآتية:
1- ضمان الولاء للإمامة، وهذا المبدأ هو المشهور عن الصوفية تاريخيا، ومع ذلك توجد استثناءات مردها إلى الاستفزاز والحذر الذي يجعل الحكام يعملون على تصفية القوات السياسية الاجتماعية التي يتقون شرها على الساحة السياسية إذا عجزوا عن استعمالها الاستعمال المطلوب ؛
2- التمهيد لحكم الأشراف المنحدرين من الدوحة النبوية السعديين والعلويين، توافقا مع للصوفية من تعلق بالجناب النبوي الشريف ؛
3- التوسط بين الحاكمين والمحكومين في سياق علاقات متوترة، وذلك بأساليب "الشفاعة" ومنح فرصة الملجأ الى الحُرُم، وهو مصطلح مغربي يدل على مكان معلوم الحدود في محيط بعض الزوايا يحتمي فيه المطلوبون حتى يتبين أمر إدانتهم أو تبرئتهم، ومن مظاهر الشفاعة مراجعة الحكام في موضوع تصرفات أعوانهم.
4- استعمال الهيبة للتخفيف من تعسفات ذوي الجاه، وتقوية ذلك بأخبار الكرامات، وهو منزع كانت له فعالية تاريخية مشهود عليها.
ولقد تلاحقت أمواج التغطية الصوفية منذ عهد دولة السعديين في القرن السادس عشر الميلادي، لتنال بتأثيرها المتنوع جميع أطراف المغرب، ولا سيما على أيدي تلاميذ الجزولي وتلاميذهم وعلى أيدي شيوخ الناصريين في درعة والدرقاويين في الشمال والتجانيين الذين ظهروا في لحظة كان يتوقع أن تنتصر فيها أفكار مناهضة للتصوف ولاسيما الشعبي منه بالمغرب، بيد أن شيئا من ذلك لم يكن، إذ بالتجانية جدد أعيان الحواضر انتسابهم الصوفي، في حين تواصل نشاط أتباع الناصريين والدرقاويين في البوادي خاصة، بل إن التجانية ربطت المغرب من جديد بالآفاق الصحراوية والآفاق الإفريقية التي سبق أن اشتهر شيوخ منها أقاموا بفاس في عهود سابقة كالشيخ البرناوي.
وهكذا رأينا من خلال إلقاء نظرة عجلى على أدوار المتصوفة أن التصوف من مقومات تاريخ المغرب الروحي والديني والثقافي والاجتماعي والسياسي بل والاقتصادي، لم تقتصر آثاره على المدن بل أدمجت البوادي في الحياة الثقافية، ولم يقتصر على جماهير العامة بل صار السند العلمي والسند في الإذن الصوفي يكادان يقترنان في تراجم معاجم الأعلام، فكان التصوف من معطيات الإشعاع المغربي في اتجاه الشرق ولاسيما في صعيد مصر والبلاد التي انتشرت فيها الطريق الادريسيية التي رحل شيخها أحمد بن ادريس من المغرب. وعظم هذا الانتشار في اتجاه الجنوب، بل وفي اتجاه اوروبا في القرن العشرين. أما على الصعيد الداخلي، فما زال لتراثه حضور في النسيج الاجتماعي وفي الضمير الأخلاقي، ولما كان تقليدا مفتوحا وليس تراثا دارسا فإن تجدده من طبيعة الأمور.
سبب ثقافي وسبب جغرافي
وفي ختام هذا الحديث الذي قد نكون لامسنا من خلاله تميز التصوف المغربي بتوجهه السلوكي، نذكر أن المرحوم الأستاذ علال الفاسي، أحد كبار علماء المغرب في هذا العصر وأحد أبرز قادته السياسيين المناضلين من أجل استقلال المغرب، قد ألقى في أعوام السبعين من القرن الميلادي الماضي محاضرات بقاعة وزارة الثقافة بالرباط حول التصوف المغربي وانتهى من خلالها إلى استنتاج مفاده أن التصوف بالمغرب هو تصوف أخلاق مقابل تصوف الحقائق والإشراق الذي كان سائدا في تاريخ البلاد المشرقية، وأن النزعات الأخلاقية التي دخلت إلى المشرق مع الشاذلية وفروعها كان منبعها المغرب. إن هذا الاستنتاج يتطلب مزيدا من الفهم والتعديل. ذلك أنه لا ينبغي أن يفهم منه أن هناك تصوفا باطنيا وآخر ظاهريا، ولا أن هناك تصوفا اهتم بإنتاج حكمة في تعبير شعري أو نثري دون إيلاء أي اهتمام يذكر للسلوك، ولا ينبغي أن يفهم منه كذلك أن هذا التصوف المغربي الموسوم بالنزعة الأخلاقية كان عاريا من الذوق الروحي المعتبر موردا لما يسمى "بالحقائق" أو حقائق التوحيد، لكن اهتمامه بالسلوك وبالفعل الاجتماعي النافع المندمج له أسباب عديدة نقتصر على الإشارة العجلى إلى اثنين منها، سبب ثقافي وسبب جغرافي.
أما السبب الثقافي فهو غلبة العجمة على المغاربة في أوائل تاريخهم وأواسطه في مستوى لا تمكن مقارنته بعجمة الفرس من حيث تقليد الكتابة ومستوى اللغة الحامل للمعاني، فارتبط هنالك التعبير عن الحقائق بالعربية وهي قليلة الانتشار بين الشيوخ والمريدين المتلقين على حد سواء.
وفي هذا السياق اسمحوا لي بأن أستطرد لأذكر حكاية أوردها ابن الزيات في كتاب التشوف منسوبة إلى أحد مترجميه قال فيها ما مجمله:
إن هذا المتصوف المترجم كان يعاني من حال من الوجد لو كبته لهلك، ولو عبَّر عن معناه لهلك، لأن الناس لا يطيقون شرعا ذلك التعبير على وجه مؤداه اللغوي. فما كان من ذلك الواجد إلا أن رحل من المدينة حيث يوجد من يفهم اللغة العربية إلى الريف حيث لا يوجد إلا البربر العجم الذين لا يعرفون العربية. فأخذ ينطق بالتعابير المترجمة لحاله الصوفي دون أن يفهمه أحد، وبالتالي دون أن يواخذه عليها أحد، حتى سري عليه وتحكم في حاله بالكتمان فرجع إلى الحاضرة.
فكلما أعدت قراءة هذه الحكاية أو تذكرتها خطرت في ذهني مشكلة الحلاج، فلعل مشكلته لم تكن سوى مسألة غلبة حال امتد في انزلاقات لغوية في وسط رقيب مع انعدام شروط التجاوز مثل التي حققها الزاهد المغربي المشار إليه أعلاه.
أما السبب الجغرافي لتركيز المغاربة على السلوك دون الحقائق فيتمثل في حالة الاستثناء التي عاش فيها المغرب لعدة قرون، وهو يواجه المد العسكري المسيحي في الأندلس. وقد تولت كبر هذه المواجهة ثلاث أمبراطوريات عظمى اتخذت من التعبئة برنامجا ساعد عليه الصوفية والفقهاء على السواء، برنامجا استدعته حالة الثغر الذي لايناسبه التشغيب على العقيدة لكنه بحاجة إلى عواطف جياشة لا يمكن أن تتغذى إلا من فيض مواردها الروحية.
نفهم هذا التعليل عند ما نقرأ ما أشرنا إليه أعلاه في القول: إن ابن الزيات جرَّد عن قصد كتابه من عبارات التصوف واكتفى بإيراد نماذج سلوك عَبر النبذ المخصصة لمترجميه، يشير بذلك إلى أن رقابة الدولة الموحدية الـمعبأة لم تكن لتسمح بمثل تلك العبارة ولاسيما في بيئة حديثة عهد بالتمكن في الإسلام.
بيد أن صوفية المغرب كانت لهم إلى جانب تدبيرهم للمجال الاجتماعي وإرشاد الملإ الشعبي عبارة معنوية راقية، وهمم بالغة تُزكيها القدرة على الصمت والسيطرة على النفس وصناعة النماذج على أساس قيم خالدة كالبذل والعدل والحرص على الكسب الحلال والمواساة، ولكن أعظم هذه القيم هي الإيمان بكرامة الإنسان على أساس حسن الظن واعتقاد إمكانية الرقي إلى الولاية، دون قرنها بمكتسبات خارجية. وبهذا الصدد نذكر أن الشيخ أبا مدين المغربي، وهو من شيوخ محي الدين ابن عربي، كان يقيم بمدينة فاس مجلسا حافلا يتحدث فيه أمام نخبة العلماء والمتكلمين، وكان يحضره في بعض الأيام رجل اسمه أبو موسى الكندري، لا يعرفه أحد، كان يأتي من رابطته بالجبل المجاور، وكلما دخل المجلس سكت الشيخ أبومدين وهيمن الصمت على المجلس، فلما سئل أبو مدين عن فعله من التزام الصمت بحضور ذلك الرجل، قال: ذلك رجل أعطاه الله أكثر مما عندنا. وهذا يدل على ما قلناه في البداية من كون رصيد التصوف في تاريخ بلد مَّا، في عرف أهله، لا في عرف المؤرخين، لا يمكن أن يقاس بالآثار الأدبية المتخلفة عن المنسوبين إلى هذا المعنى.
لابد أن نتساءل عن مدى صلاحية هذه المواقف والأدوار والأفكار في عصرنا هذا. لابد من الاعتراف بأن كل المواقف والأدوار والمعتقدات والأفكار عرضة لمحك الزمن ومستجداته، والتصوف من ضمن ما يجري عليه هذا الفحص، لأن فكرته، وإن كانت مطلقة، فلها ميزة التركيز على الإنسان، ومن ثمة عاشها الإنسان وعايشته في تجليات تاريخية نسبية. ولكن الفكرة الأساسية في التصوف، وهي الإيمان بأبعاد التكريم الإلهي، يفسرها قيام التصوف على طلب الحرية للإنسان الذي يتحرر إذا تجرد من التملك، وتحلى بضمير المسئولية عن المخلوقات أناسي وأشياء، وهو النموذج.
إن الحرية السياسية التي يعمل على بنائها المجتمع الإنساني اليوم ستوفر بمؤسساتها والتزاماتها مناخا جديدا للمعتقدات بما فيها فكرة التصوف، ستحميها وتخرجها من زوايا التهميش وسطوة الإقصاء، وبذلك ستشارك مع مؤسسات الدولة فعاليات المجتمع المدني في أعمال خير يحميها ويراقبها القانون، ولكن الإيمان بالإنسان على أساس التكريم الإلهي وتجربته كما يراها المتخلص من ربقة الأشياء، سيكون هذا الإيمان مولدا لحكمة متجددة ولأخلاقية مسندة أي غير مقطوعة عن الإيمان، ولجمالية تعشقها الحواس في توافق مع الروح، بل إن هذا الإيمان سيتوافق مع قدرات أخرى يستنبطها الإنسان من نفسه تتعدى العقل ولا تناقضه، بل تفتح إمكان فهم المتناقص في تطلعنا إلى أسرار الذات.
لهذه الغاية غاية إدماج التراث الصوفي في العصر على أساس أنه طريق حي للسلوك، تأسس بالمغرب في السنة الماضية مؤتمر دولي للمنتسبين إلى التصوف، وقد قرئت في افتتاح هذا المؤتمر رسالة وجهها جلالة الملك محمد السادس تعتبر وثيقة تاريخية رسمية تبني تأسيس علاقة الدولة بهذه الفكرة ونظرها إليها واعترافها بها. وقد يتعذر تكرار مثل هذا الإدماج في دول لم تعرف في تاريخها امتزاجا روحيا كالذي عرفه المغرب مع التجربة الروحية للإسلام، لذلك لا ينتظر أن تفلح في المغرب أي فكرة مناوئة لهذه التجربة الروحية. غير أن اللقاء المذكور لن يهتم في المستقبل بجوانب تاريخ التصوف في أبعادها الأكاديمية ولا بمصطلح هذا الفن، وإنما سيتخصص في استقبال ممثلين عن الهيئات الصوفية المنظمة في العالم بقصد عرض منجزاتها في الميدان التربوي والاجتماعي في السياقات الجديدة، بما في ذلك الإسهام في التربية الأخلاقية وحسن الحكمة. ذلك لأن هناك آفاقا رحبة لإسهام روحانية التصوف في الأمن الروحي للشعوب وفي حل عقد النقص الحضاري، بل وعلى الخصوص الإسهام في إنجاح ديمقراطية تجمع بين معيار الأغلبية ومعيار الأفضلية.
المصدر: موقع وزارة الاوقاف والشؤون الدينية - المملكة المغربية
معالم من تاريخ التصوف بالمغرب : فضيلة الدكتور أحمد التوفيق
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي