[خالد مخلوف]

كنت أحاور صديقي
أقول : له تنقسم الذاكرة وهذا اعتقادي الخاص إلى ذاكرتين
الذاكرة الأولى هي الذاكرة الفطرية
وتلك التي نلد بها ومن خلالها نخزن الأشياء الأساسية التي
لا بد منها ولا نستطيع العبث بها أو تغييرها مثل الأساسيات
والأشياء المحيطة بك حيك الذي تسكنه المحال الأهل الأجواء
وووو.
أما الذاكرة الأخرى والتي تصنعها الأحداث والسنون والأشياء
المارة في حياتك والتجارب التي تشكل هذه الذاكرة وتغنيها
وقد نستعير من الآخرين ذاكرتهم
مثلا نحن أصحاب الخمسينيات الفلسطينيين والذين لم نلد في
الوطن استعرنا الوطن من خلال حديث أمهاتنا أو آبائنا أومن
هم أكبر منا سنا وعاشوا في الوطن
ومن خلال قصائد أو أغاني
وكل منا شكل الوطن حسبما يراه أو يحبه فأصبح الوطن فكرة
وشكلا من أشكال الحياة
ورأيي أن تقتنع بفكرة تصنعها وتتبناها وتؤمن بها فإنك أكثر تشددا
بها ودفاعا عنها
ولعلك أحيانا كصاحب فكرة اعتقدتها تكون أكثر تشبثا وحبا بالوطن
ممن ولدوا وعاشوه
وهنا لن أدخل في سجال أو لعل ما أقوله بحاجة لتعمق أكثر وشرح أوفر
وأعمق وأشمل وهذه فلسفة وباب الفلسفة لو ولجته من الصعب أن تخرج منه
أيضا ربما يحدثني شخص ما عن حدث ما يصبح هذا الحدث جزء
لايتجزءمن ذاكرتي
وكل ما رويته الآن هو مقدمة وباب للكلام عن صديقي محمد
الذي حدثني بقصص كثيرة وكان يطلب مني أن أكتبها لأنها
ورغم صغرهامهمةوتأريخ ذاكرتنا نحن أبناء الهجرة القصرية
أبناء الخمسين أو الأربعين عاما ولن أقول اللاجئون
محمد عمره 45سنة شاعر ومثقف ومتمرد على كل شيء
كنا نعمل معا في أحد مكاتب وكالة الغوث وظيفته أعلى من
وظيفتي لكننا كنا أصحاب وجع واحد وألم ووطن واحد وحدتنا
النكبات قاربت أفكارنا ومبادئنا كانت فلسطين تظللنا وهمنا الأول
والأوحد لقد أخبرتكم إن كان الوطن فكرة تؤمن بها فهو أقرب
إليك من نفسك ومن حبل الوريد فيك
يكبرني بعشر سنوات أو أكثر قليلا
ذات صباح من الصباحات الكثيرة التي كنا أعتدنا أن نجلس بها
نحتسي قهوتنا ونتبادل أطراف الحديث وغالبا ما يكون في السياسة
وكان الوقت وقت انتفاضة وكانت قد أشعل شرارها دخول ذلك الأرعن
شارون إلى المسجد الأقصى
وكان كل ما حولنا في حالة غليان و كان صباحنا بركان
خرج جميع من كان معنا وبقيت أنا ومحمد كان حديثنا يتشعب في
كل شيء الأدب الفن السياسة وكان لحديثنا تناغم آخر غير الذي
كان قبلا ويقرأ ماكتب في الوطن وأقرأ ما كتبت
وطلب مرة أخرى القهوة وأشعلنا سجائرنا نظرت إليه هادئا يجلس
خلف مكتبه ودخان سيجارته يخرج من خلال شعره الرمادي
وكأن ذاكرته تعلن اشتعالها بدء الاشتعال ودورة الكشف عن
الألم ألمه ألمي ألم أبناء الوطن الحبيب
وصار دخان سجائرنا يرسم صور حزينة ولكن رغم حزنها
فيها شيء من الفرح المشوب بالدمع
ونحن أقدر الناس على أن نصنع من حزننا فرحا وروى لي
قصة أبو جميل وأم جميل والديه
أبو جميل أب لطابور من الأولاد مثله مثل كل فلسطيني تلك الفترة
كانوا ينجبون الأولاد كي يحرروا بهم البلاد
لم يكن لديهم وقتها إلا العمل ولم تتوفر لهم وسائل التسلية
لا كتب ولا تلفزيون فلا عمل لهم إلا هذا وهكذا كانت حياتهم
عمل وفقر وجوع والكثير من الأولاد والكثير من الجنس يملون فيه
أوقات فراغهم
ونعود إلى أبو جميل يقول لي محمد كان أبي لديه عشرة أبناء
ويعمل آذن مدرسة في وكالة الغوث وإثر مشاكل اضطر أبي إلى
ترك المنزل الذي كنا نسكنه في حي الأمين ونقلنا لنعيش معه
في نفس المدرسة التي يعمل بها وقد كان بها غرفتين صغيرتين
يعيش بها من يقوم في حراسة المدرسة
أبو جميل حيفاوي بسيط كل ما يعرفه هو حيفا وكرملها وبعد
الهجرة عمل في وكالة الغوث وقد رسمت حيفا تضاريسها على
وجهه الكبير ورسمت في عينيه حنانا وحبا يشبه حنان وحب الأم
أما أم جميل رحلت عن حيفا لكن حيفا لم ترحل عنها
وظلت تسكنها تسكن كل حناياها تربينا نحن عشرة وتربي
معنا بعض الأرانب والدجاج ليعينوها على فقر الغربة
وجهها هنا وقلبها يلعب هناك حيث شواطئ حيفا الجميلة
وأحيانا ونحن في الدرس كانت تفلت إحدى دجاجاتها أو
أرانبها فتراها تركض بين أقدامنا في الفصل
فنضحك جميعا كان يزورني أصدقائي بعد أن تنتهي الدروس
فنجلس في أحد الصفوف على نفس المقاعد ونأكل ما كانت
تحضره أم جميل من طعام وهي تراقبنا عينها علينا تخاف
أن تفلت أحدى دجاجاتها من عشها
وتغسل أو ربما تعجن ووووووووووووووو
قال لي صديقي محمد
كان معي في نفس الصف ابن مدير المدرسة وكان من أحد
الطقوس المتعارف عليها أن ما يلبسه هذه السنة من ملابس
في السنة التالية يعطيه لأبي وكنت ألبسه لذا كنت حريصا أن
لا تتسخ أو تتمزق أو يقع عليها حبر أو زيت وكنت إذا رأيته
يحاول الجلوس على الأرض أمنعه حتى لو ضربته كنت أخاف
على ملابسه جدا لأنها ستصبح ملابسي وكان يضحك وأضحك معه
أي نعم أضربه لكان يوسخ ملابسي
وهكذا عاش أكثرنا في الهجرة أقسى ما يمكن من ظروف ولكن
مع إصرارنا على الحياة صنعنا أنفسنا
وصنعنا الحياة كل الأشياء مهما كانت صغيرة وكبيرة يجب أن
تكتب وتؤرخ حتى يعلم الجميع
كيف يبني
حجر من أرضنا
سقف السماء
كيف نخلق
من موتنا
ونصنع من
حزننا
نور تشع
له السماء
ضياء

[ميساء البشيتي]

اخي العزيز خالد مخلوف

مساء الخيرات

مرور للتحية فقط

لي عودة لقراءة مستفيضة ان شاء الله

[بوران شما]

الأخ العزيز خالد مخلوف
إن ما رويته عنك وعن صديقك محمد , هو صورة حقيقية لواقع كل
اللاجئين الفلسطينيين بفترة مابعد النكبة واللجوء من فلسطين الحبيبة,
أنا شخصياً وبكل صدق , تخيلتُ أهلي وأقربائي ,
أؤيد أخي خالد فكرتك : موضوع الذاكرتين , وخاصة الثانية التي نحن
جيل الخمسينيات , فعلاً قد استعرناها من آبائنا وأمهاتنا وأهلنا .
أشكرك على هذه الخاطرة , تقبل تقديري واحترامي .

[خالد مخلوف]

الأخت الفاضلة ميساء البشيتي

لك من التحيات أعطرها

مساء يعبق بالياسمين

وأنا ها هنا مرابط في إنتظار

قدومك وما ستروين به ظمأ

صفحاتي من سحر الكلام

دمتي بكل ود أيتها المبجلة

[خالد مخلوف]

السيدة بوران شما

الأخت الفاضلة

والكاتبه الرائعة

أزهرت صفحاتي

بقدومك الغالي

نعم نحن الجيل

الأول للنكبه

والذين لم يروا

الوطن لكن رسموه

ونحتوه في قلوبهم

عندما يروي أحدا منا

قصته يشعر الآخرون

أنها قصتهم لأننا

جميعا عشنا الأحداث

بتلك التراتبيه

والتشابه

وشكرا لأنك أيدتني

في نظرتي

دمتي بكل ود

أيتها الأخت