مسرحية : الفضيلة والرذيلة
الراوي:أن تعيش مخدوعا أفضل بكثير من أن تعيش مخادعا .و أنت تكون مظلوما أرحم من أن تكون ظالما.تنظر من علياء ذاتك الرحبة إلى من هم دونك وتبتسم عارفا أنّ ثمّة ربيعا لا
بدّ أن يأتي إلى كرمك ليحبل بين أوراقك .وصيفا لينضج عناقيدك..
تدخل الفضيلة في ثوب أبيض فضفاض لكنه متسخ.تعصب رأسها بشال أسود.تبدو عليها علامات المرض و أمارات الوهن .تحمل مكنسة بيدها وتكنس الفضاء وهي تئن:آ...آ....آ....
يظهر شيخ مسنّ.قد أنهكت الأيام ظهره,وأنشب البياض مخالبه في لحيته. يستند غلى عكاز من خشب .يقترب من المرأة متسائلا: ما بك يا امرأة تئنين ؟ هل من علّة تعانين؟
تقول الفضيلة وهي تكنس ودون أن ترفع عيونها عن الأرض: إيه يا شيخ ..إني أعاني علّة العقوق .فهل لك شفاء لهذه القرحة؟
يلتف الشيخ حولها مستفهما : ومن عاقك ..سوى شقي مغبون .فمن من العقلاء يستطيع أن يحرم نفسه من وجه صبوح كوجهك.وعين حوراء مثل عينك .وخدّ مورد يشبه خدّك..من المجرم في حق نفسه ؟ذاك الذي حرمها من أن تتفيأ بظلال روحك و أن تسكر من خمرة صوتك.؟
تضع الفضيلة المكنسة جانبا.تحاول أن تعتدل .تسند ظهرها إلى يدها اليمنى و ترفع اليسرى لتجفف العرق المتصبب من جبينها وهي تقول :أتغازلني يا شيخ و أنت في هذا العمر؟!
الشيخ مرتبكا .يلتفت يمنة ويسرة و كأنّه يستتر من خطيئة :
- ...لكني معذور
فأنا مأخوذ بالهوى
وأميرتي غير كلّ النساء
ما أنجبت السماء
ولا ستنجب مثلها
هي في الحسن آية
وفي العشرة نور وهداية.
ثمّ يضيف وهو يتطلع إلى وجهها .كأنني وجدتها . بل أكاد أجزم أنّك هي .لولا حالك البائسة وثيابك الرثة الناعسة.ُ ثمّ بصوت أقل خفوتا :ألست أميرتي الفضيلة؟
الفضيلة : ومن يكون سيدي؟
يقفز الشيخ فرحا وهو يقول: يوريك...يوريك...وجدت سيدتي الفضيلة . ثمّ يعود إليها مستفهما:
- أخبريني يا أميرتي ...من فعل بك هذا ؟ ولماذا هجرت الدّيار؟ أتعلمين من يومها و أنا أبحث عنك .فكم افترشت الأرض من أجلك والتحفت السماء بغية لقائك .فيم
مضيت ؟و فيم أنت الآن ؟ و ما قصة العقوق؟
الفضيلة بصوت ضعيف متقطع : قصتي طويلة يا أبتي . لكن أخبرني من أنت ؟
الشيخ باِفتخار: أنا الزمن ..أنا المشجب الذي يعلق الناس عليه خيباتهم .وأشهد الله أني بريء منهم براءة الذئب من دم يوسف.
الفضيلة تسعل : اعذرني يا سيدي .فإنّ مُرّ ما لقيته أنسانيك.
تظهر الرذيلة ..ترفل في ثوب أسود حريري .تضع قبعة سوداء وتحمل مروحة من ريش طبيعي .تصغي إلى حديثهما .ثمّ تقترب منهما وهي تستفهم بصوت حنق:
هل أنهيت عملك أيتها الخادمة الكسولة ؟
تنتفض الفضيلة من مكانها .تحمل المكنسة وتعود إلى عملها وهي لا تكف عن السّعال. وقد أجابت: نعم سيدتي لم يبق إلاّ القليل.
يتدخل الزمن .يلتف حول الرذيلة . و قد بدت على وجهه علامات الغضب .فيقول بصوت خافت لا يخلو من السخط :
- أكاد أقسم أنك الرذيلة لولا أثواب الحرير التي تلبسينها وقبعة الريش التي تضعينها وهذه النظافة التي تستترين خلفها .
الرذيلة بلغة التكبر والاستعلاء : نعم أنا الرذيلة .ومن تكن أنت أيها الشيخ البائس؟
ثمّ تستدرك : لا تقل أنك الزمن .ذاك الأبله الذي يسعى أن يكون خادما في مملكة الفضيلة. لكن ألم يحن لك أن تعلن ولاءك لي .أما تراني قد سيطرت على العقول
وسلبت القلوب وسقت الرجال في أغلالي. الن تعترف بأنك خادمي المطيع ؟
الشيخ باِستياء: أقسم لإنّك مغرورة .أو تظنين ما أنت فيه من عزّ دائم.و من مقام خالد . ألم أعلمك عبر صرفي أنّ مقامك من مقام النّعال و ألا مطمع لك في مقام التيجان .؟
الرذيلة غاضبة جدا .تتجه نحو الفضيلة .تضرب برجلها المكنسة .تتهاوى الفضيلة على الأرض..تئن .ترميها الرذيلة بنظرات شماتة ممزوجة بالحقد .وهي تقول:
- أعلم أن هذه الماكرة قد لعبت بلب عقلك وقد نجحت في سلب قلبك .
الفضيلة تئن :آ...آ....آ....
الشيخ مدافعا عن الفضيلة: ابتعدي عنها أيّتها الرذيلة .لن أسمح لك بمساس شعرة منها . و اعلمي أنّها منذ اليوم هي في حمايتي.
الرذيلة : لا تخش عليها أيّها العجوز.إنّما هذا من أثر الغبار .امض إلى حال سبيلك واتركها .و أنت أيّتها الكسولة لا تتظاهري بالضعف . فما زال أمامك الكثير من الكنس.
الفضيلة تئن :آ...آ....
الشيخ في حيرة : أميرتي ما بك ..؟ ثمّ يلتفت إلى الجمهور مستنجدا :
- يا أيّها الناس الفضيلة تحتضر..هل من رجل رشيد فيكم ..؟
يأتي صوت الرذيلة من بعيد : ها...ها....أضحكتني أيّها الشيخ الأبله . أما ترى الناس في شغل عنك وعن ثرثرتك .
تمضي الرذيلة في طريقها . يتعلق الزمن بأسمالها راجيا إياها : أرجوك أيتها الرذيلة لم يبق لي إلاّ أنت . لا تذهبي وتتركيني وحدي مع الأميرة . فقد تموت بين يدي.
تنفض الرذيلة ثوبها و تقول : أخذت من وفتي الكثير ..أما ترى - مشيرة إلى الجمهور - أن كل الناس في انتظاري. و أنّ الرقاب تشرئب لرؤيتي؟
الفضيلة تئن وتطلب ماءً : ماءً...أريد ماءً...
الشيخ وهو يطرق الأبواب : الفضيلة تُحتضر...هل من مغيث ..؟ ماءً..ماءً...
يظهر في الطرف الأخر من الركح مجموعة من الشباب (تلاميذ) يلبسون مأزربيضاء بصحبة لفيف من الشيوخ على مركب.يصارعون أمواجا عاتية و هم يهتفون :
- وافضلتاه ...وافضلتاه ...
لبيك ...لبيك ...نحن أبناء الكتاب والسّنة قادمون لنجدتك .
الراوي : حين توصد أبواب الأرض تُفتح أبواب السّماء
وحين تشحّ يد البشر تُغدق يد الإله
لا يتفتق النور إلاّ من رحم الظلماء
و لا يولد الفجر إلاّ من أوصال السحر
الشيخ بصوت البشرى :إنّه المطر ...يا ألله...!
يجمع كفيه المبسوطتين نحو السماء وهو يقول : اشربي أيّتها الفضيلة ...اشربي يا أميرتي..
يلتف الشباب حول الفضيلة ( الأم) و كلهم خجل مما صنعوا .
الشيخ مغتبطا : أنظري يا أميرتي ..هاهم أبناؤك عادوا يعلنون ولاءهم لك وحدك.
تفتح الفضيلة عينيها تمد يديها لتحضن أبناءها . يلتف الأبناء من حولها . يساعدونها على الوقوف .ثمّ خروا كلهم سجدا بين يديها اعلانا عن ولائهم لها . و قد تقدم أصغرهم ليلفع
رأسها بوشاح أبيض ناصع. فينحني الزمن بدوره رضا عنها وعن أبنائها .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|