[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"]
[align=justify]اختار الروائيّ المصري عبد الفتّاح صبري لروايته (الغربان لا تختفي أبداً) سارداً ممثَّلاً بشخصيّة (صبحي عثمان)، وتركه وحدَه يُقدِّم الرواية بأسلوب السرد الذّاتيّ المنتمي انتماءً عامّاً إلى الأسلوب الشِّعريّ، دون أن يقترب من خصائصه المعروفة، كالغموض والصُّور وعدم التّرابط المنطقيّ في لغة التعبير. ومن ثَمَّ كان البناء الفنيّ للرواية، بعنصريه الأساسيين: النجوى الذّاتيّة والتّداعي، وبعناصره الفرعيّة: الترميز والفضاء والحكاية والشخصية، خاضعاً لأسلوب واحد، هو أسلوب السرد الذاتي الذي وجَّه البناء الروائيّ بعناصره الأساسيّة والفرعيّة بما يُعبِّر عن ذات السارد ووجهة نظره ليس غير.
ولو دقَّقنا في الأسلوب اللّغويّ لرواية (الغربان لا تختفي أبداً) للاحظنا نجاح هذا الأسلوب الحديث، أسلوب النجوى الذاتية، في اختيار جزئيّتين لغويّتين ملائمتين للحال الروائية:
الجزئيّة اللّغويّة الأولى هي الطِّباق، سليل الأصالة في البلاغة العربية. ذلك أن المجتمع الروائيّ محكوم بذلك النقيض بين الماضي الجيِّد والحاضر السيِّىء. وقد عبَّر الطباق عن هذا النقيض المضموني باللجوء إلى طباق الألفاظ وطباق التراكيب. أما طباق الألفاظ فيوضِّحه الإكثار من استعمال الكلمة ونقيضها: الماضي والحاضر، الصباح والمساء، الأسود والأبيض، العقل والجنون، وأما طباق التراكيب فيوضِّحه إلحاح الأسلوب اللغويّ على إعلان الطباق بين الماضي والحاضر، من نحو قَوْل السارد: (الكل يجري... رتم الحياة السريعة... الحياة الجديدة... حياة الإسمنت والسيارة والإسفلت... ولكن لا إنتاج... لا الفلاح يذهب إلى الحقل البعيد... ولا الساقية عادت تدور الخ...
الجزئيّة اللغويّة الثانية هي التكرار. ذلك أنه ليس هناك شيء في مضمون الرواية غير التناقض بين الماضي والحاضر. وهو تناقضٌ عبَّر عنه الطباق في الأسلوب اللغويّ، وكان السارد راغباً، طَوَال الرواية، في أن يكرِّره ليرسِّخه في المتلقي، ويزيد من نُفرته من تناقضه، ولذلك لجأ السارد إلى أشكالٍ عدّة من التكرار في أسلوب تعبيره اللغوي، أبرزها:
أ- تكرار لفظة للإيحاء بشيء مرتبط بالتناقض بين ماضي المجتمع وحاضره. وليس هناك معيار لاختيار اللّفظة المكرَّرة غير توافرها في قرية القرينين وما يرتبط بها كلفظة (الطين) المكرَّرة في الاقتباس الآتي: (الطين الطري اللدن كان يغطي الأنحاء، وكل شيء من الطين فهو طهور، الإنسان من الطين، والتراب من الطين، والبيوت من الطين، والأشجار تنبت من الطين، القطن والحناء والباذنجان والفول والقمح والأرز والأذرة والشعير كلها نبت الطين.
لقد كرَّر السارد لفظة (الطين) ليوحي بنقاء ماضي قريبة القرينين وجماله. ولما شعر السارد بأنه رسَّخ هذا الانطباع في المتلقي ختم التكرار بالحاضر الذي افتقر إلى (الطين): (اختفت نعومة الطمي وحلّت حرشفات الإسمنت). الطباق، هنا، بين (الطين) و(الإسمنت)، ولكن الاقتباس كرَّر هنا لفظة (الطين)، وراح في مكان آخر من الرواية يُكرِّر لفظة (الإسمنت) ليلحَّ على الطرف الآخر من الطباق: (إسمنت... يطالعني الإسمنت النابت أبراجاً لسكن الأغراب وحكايات الأغراب وبنات الأغراب، الإسمنت في رأسي، في عيني، في أحشائي... إسفلت... إسمنت، وقلوب تيبست... وعيون تيبست).
قُلْ مثلَ ذلك في تكرار السارد أسماء كثيرة، من نحو: الماء والدائرة والموظَّف والحكايات والقصص. والشيء نفسه في تكرار الأفعال، من نحو: أعود، يطلب، يقول، أشعر.
وليس من المفيد الإحاطة بأمثلة الطباق والتكرار في السرد الذاتي؛ لأن أسلوب رواية (الغربان لا تختفي أبداً) أسلوب حديث لا يحفل بالتنظيم والترتيب في الاختيار والتكرار، بل تراه يُقدِّم لمحة من الحكاية الروائيّة ثم يتركها ليستعيد الماضي البهيج أو الحاضر التعس.
ذلك سردٌ حكائيٌّ وشخصيات نامية. ولو دقّقنا في أسلوب هذا السرد لاكتشفنا أمرين:
= الأمر الأوّل تلاؤم أسلوب السرد الحديث مع بناء رواية (الغربان لا تختفي أبداً) بوساطة سمتين لغويتين أساسيّتين، هما: النجوى والتكرار، وعدد من السمات اللغوية الفرعية التي تُرسِّخ التلاؤم، وتُعمِّق الإيحاء بالتناقض، وتعلن تردُّد صبحي عثمان. والجمل الاستفهامية من أبرز هذه السمات اللغوية الفرعيّة.
(أين الجميزة؟ أين المقبرة؟... أين الكُتَّاب؟ أين المدرسة؟ أين الحكشة وألعاب العصا وحرب القوم؟ أين العروسة والحصان...). لا تقوده الأسئلة إلى الاطمئنان، بل تقوده إلى تأجيج رغبته في الانتقام، وتُعمِّق إحساسه بالتناقض بين ماضي القرينين وحاضرها.
***
أخلص من ذلك كلّه إلى أن أسلوبيّة (الغربان لا تختفي أبداً) نجحت في التعبير عن مضمون الرواية باعتمادها السرد الذاتيّ المستند إلى رجبتين أساسيّتين، هما: النجوى الذاتيّة والتداعي، وإلى عناصر فنيّة فرعيّة كالطباق والتكرار وتنويع الجمل والترميز وغيرها. ولعلّ إنجازه الفنيّ هو نَقْلُه العناصر الفنيّة المساعدة، كالنجوى الذاتية والتداعي، إلى مرتبة العناصر الفنية الأساسيّة، ونَقْلُه العناصر الفنية الأساسيّة، كالحكاية والشخصيات، إلى مرتبة دنيا هامشيّة، دون أن ينصاع لإغراء الغموض الذي يُصاحب السارد الذاتيّ، عادةً، في الرواية ذات الأسلوب الحديث. أما إنجازه اللّغويّ فكامن في اعترافه غير المباشَر بأن بعض البلاغة العربيّة يمكن استعماله في النصّ الروائيّ كله، كما هي حال (الطِّباق) الذي عبَّر عن مضمون رواية (الغربان لا تختفي أبداً) على مستوى الألفاظ والتراكيب، وبقي محافظاً على هذا التعبير طَوَال النصّ الروائيّ.
***
[/align][/cell][/table1][/align]