أجراس منتصف الليل
[align=justify]
هكذا دون مقدمات تركت الفراش وأخذت أتجول في أنحاء البيت، عند منتصف الليل تماماً، وحتى لا تظن يا ولد يا شحرور أن «أنحاء» تعني السعة والمساحة الكبيرة، أختصر فأقول إن البيت كله بطوله وعرضه وارتفاعه، مؤلف من غرفتين ليس إلا.. غرفة لاستقبال الضيوف وللكتب والأقلام وما شابه.. وغرفة للنوم والسهر والدراسة.. ولا تسأل يا شحرور كيف.. أو لماذا؟؟ فحتى أكبر المفكرين يعجز عن إيجاد الحل.. المهم يرعاك الله، أننا في البيت، أو في أنحائه، نعشق الابتسام والمرح والفرح، وهذه أشياء، ويشهد الله، تشعرك أن البيت أكبر من قصر..!!.. ولا تسأل كيف!!
المهم يا شحرور الغندور، أنني تركت الفراش دون مقدمات، وأخذت أعايش أجراس منتصف الليل، هذه الأجراس التي تدق في الرأس والقلب والشريان، فتشعرك بقشعريرة ورعب وارتخاء.. حيث تأخذ في تذكر أشياء بعيدة بعد السماء عن الأرض. وكأن الليل وظلمته يفتحان كوة من الماضي البعيد، تأخذك وتحاصرك بألف سؤال وسؤال، ولعل الممض في الأمر، أن الأسئلة، تفترض أن تكون أجوبتها في حاضرك.. وإذا نبشت في هذا الحاضر وفتشت، فلن تجد إلا المرارة والخيبات والانكسارات والجراح المفتوحة دون حد.. ولابد يا شحرور أن تصرخ بصوتك الرنان: أين الأمثلة؟؟!!..
وآخ يا شحرور من الأمثلة آخ.. أولها أن المرحوم والدي كان يضعني على ركبته، وكنت صغيراً مثل حبة الكرز، ويحكي لي عن حيفا، ويهز رأسه الله يرحمه، ويقسم أن الفلسطينيين والعرب وأولاد الحلال في الكرة الأرضية، سيعيدون فلسطين وسنرجع إلى حيفا مرفوعي الرؤوس.. وكان يسألني: هل تعاهدني يا ولد أن تأخذ كل أصدقائك إلى هناك؟؟ وكنت أنا حبة الكرز، أعاهده، وأقفز من على ركبته وآخذ في تحريك يدي اليمنى وكأنني أحمل سيفاً.. كان أبي يضحك.. وتمتلئ عيناه بالدموع.. كان يضحك ويبكي الله يرحمه.. وإذا كنت أعرف الآن لماذا كان يبكي.. فلا أستطيع معرفة السبب الذي كان يدفعه إلى الضحك.. فهل تعرف يا شحرور؟؟..
مثال آخر.. عندما كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يخطب، كنا نمسك المذياع بيد، والقلب باليد الأخرى.. كانت كل كلمة تزرع في الشريان والعمر والوجدان.. وكان الواحد منا، يطير فرحاً وأملاً وإيماناً بالمستقبل.. وكان جمال عبد الناصر يسأل ويحرك الوطن العربي من المحيط إلى الخليج بسؤال.. والآن نبحث عن الأجوبة، فتطلع لنا سحنة هذا الصهيوني أو ذاك لتفرض شروط بقائنا في جزء من جزء من أرضنا.. فهل هذا جواب يستطيع الواحد منا أن يقابل به ليس وجه ربه، بل وجه طفل واحد من أطفال الحجارة؟؟!!..
وإذا مضينا يا شحرور في طرح الأمثلة ستصير الجراح أكبر من قدرتنا على الاحتمال.. ولا داعي لأن أذكرك بالوحدة العربية، والمظاهرات، والخطابات التي كانت تقام على شرفها، إذ على ما يبدو، أصبحت من الأحلام المنقرضة.. فمن يفكر الآن بالوحدة العربية؟؟.. من يفكر الآن بالوحدة بين ضيعة وضيعة، أو بين شارع وشارع؟؟ الكل يفكرون بأشياء لا علاقة لها ببعضها.. يفكرون مثلاً بفنجان القهوة والبطيخ.. بأغنية «ذكريات» وضرب مصنع الأدوية في السودان.. ولا أدري حتى الآن ما ذنب السودان إذا كان الرئيس كلينتون «ولد أزعر» وإذا كانت البنت مونيكا مصرة على نشر ثوبها ذائع الصيت في الهواء الطلق؟؟.. ثم ما ذنبنا إذا كان كلينتون مغرماً بالجنس الأمريكي اللطيف، هل علينا نحن أن ندفع ثمن فضائحه؟؟!!..
أين كنا يا شحرور.. خير اللهم اجعله خيراً.. والله يا شحرور صار الواحد منا لا يعرف رأسه من رجليه في زمن ضيع الأهل فيه كل معنى من معاني وحدة الدم واللغة والمصير المشترك.. فلسطين جرح مفتوح.. ويسألني أبي هل تعاهدني يا ولد؟؟ آخ يا أبي آخ.. أعاهدك على ماذا وعلى أي شيء.. صحيح أن الجميع مازالوا يمدون أياديهم.. لكن ليأخذوا فقط.. صحيح أن الجميع يرفعون رؤوسهم.. لكن لأن الأعناق صارت ذات عروق جافة!!.. صحيح أن الجميع يبكون.. لكن لأن الجوع صار أقوى سلاح في هذا العصر..!! على ماذا وعلى أي شيء تريد أن أعاهدك.. أطل نومك يا أبي ولا تسأل هذا الولد الذي كبر الآن عن أي شيء.. والله ما عندي جواب ولا سؤال.. ولك أن تتصور حين يكون الواحد منا دون سؤال وجواب..!!
في ديواني «طائر الليلك المستحيل» وفي مقدمة قصيدتي «الخروج من وردة الحلم» قلت: البحر يتسول في الشوارع / الرمال تطرد الرصيف من عهدة الظل / الخيول تبيع الحمحمة وتنام / الأجوبة تخلع سراويلها / وتمشي خرساء على شاطئ الليل / الأسئلة تطلق الرصاص في الهواء.. وتنتحر».. فهل يكفي يا شحرور؟؟
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|