الزائر
الزائر
[align=justify] وضعت سعدى فنجان القهوة على الطاولة ، فأحدث رنينا لم تكن تنتبه اليه فيما مضى ، والمنزل يعج بالأطفال وصراخهم ، وبالأهل والجيران والزوار ولغطهم .أين منها تلك الأيام والسنون التي سبقتها ؟ ما أسرع عجلة الزمان ، وكم هي لذيذة وعزيزة على نفسها ذكريات تحتفظ ببعضها في ألبوم ضخم ، وبالبعض الآخر في مخيلتها ، بينما تملأ حنايا قلبها أشياء تهون عليها جحيم الوحدة رغم ما شابها من مرارة ويأس وقنوط ، بل وخيبة أمل. لكن طبيعتها التي تأبى التشاؤم والاستسلام للحزن أضفت على تلك الأشياء رونقا وسحرا... تبتسم وهي غارقة في بحار التأمل... أهذا أنت؟ أخيرا افتكرتني أيها الناكر للجميل...أهكذا تنسى الأيام والعهود ؟ تغادرني ولا تترك لي سوى ذكريات طواها الزمن . حقا ، لولاها لما أطقت هذه الوحدة الرهيبة... ما ضرك لو زرتني ، أو زارني طيفك ؟
ترشف من فنجانها بسرعة و كأنها تخشى أن ينقطع حبل أفكارها ، وتلتفت إلى المرآة في صدر البهو ثم تنهض متثاقلة . تتأمل الوجه العريض بشامته ووشمه الخفيف. لك الله. كم جلب حسنك الإطراء والبغض على حد سواء . حقا ، إن للعينين سحرا وإن لنظرتهما نفاذا وسطوة ، وللقوام اعتدال وتناسق رغم لمسات الدهر.. ورب حسن زادته السنون بهاء... آه من السنين... مضت واصطحبت معها كل ما استطاعت حمله حتى خلا البيت الذي كان لا ينقطع زواره . ولكم غص بلاطه بكل الفئات من الناس... زوار من كل الأعمار.. صبية ، شباب ، كهول شيوخ... إلا أنت... كل صارت قبلته هذا المنزل المتواضع.. فمن محتاج يمنعه التعفف من مد يده ، إلى بئيسة خانها حظها التعس فوجدت فيه الملاذ والحمى . ومن سقيم هده الداء ولم تسعفه إمكاناته ، إلى عاشق وله فاض به الشوق وطفح به الكيل فجاء يلتمس البوح بمكنونات قلبه... وسعدى هي سعدى . لا تتبرم ولا تمل. حضنها مشرع وقلبها ينتفض على إيقاع الشكوى والأنين ، والحبور و الأمل... وحين تنتبه ، تطفو أحزانها وتسبح في أشجانها ، لكنها سرعان ما تنتفض :"أنا لم أخلق لأضعف ؛ أنا هنا لأحزن وأفرح ، وأحب وآمل ، وأشقى وأرتاح..."
ترشف من جديد. لقد بردت قهوتها ، لكنها ليست أبرد من هذه الوحدة... حذار من قهوة باردة... هكذا قالت لها لمياء صديقة عمرها التي لم تعد تسمع عن أخبارها... لله ذرك يا لمياء. موسوعة في كل شيء. الطبخ.، الوقاية ، العلاج ، الحب... وكيف لا والمذياع لا يفارقها في الحل والترحال ، رغم الأطفال السبعة الذين ترعرعوا في كنفها وهي دائمة البشاشة والحركة ، حتى حفظ الجيران نشيدهم عن ظهر قاب :
فراشتي ياماما تطير كالحمامة
تطير و تدور تحط على الزهور
سجى، الليل وأطبق السكون على البيت. يبدو الزقاق طويلا إلى أن يندثر في سفح الجبل الذي لفه الضباب ورذاذ المطر... تخترق السكون ، بين الفينة والأخرى ، دمدمة الريح الشرقية...عويلها يزيد النفس وحشة... كل شيء يوحي لها بذكرى... فلليل ذكرى ، وللضباب ذكرى ، ولرذاذ المطر حكاية ، وللريح رواية... كل جاء لزيارتي ، إلا أنت . انتظرتك على أحر من الجمر.. ولو كان الأمر يخصني وحدي لهان علي , لكنك طرقت الأبواب فانفتحت لك دون عناء ، وعزفت عن بابي... ودعوت الأهل والأحباب فتوافدوا عليك مهرولين أو متمنعين..لكنك تجاهلتني وأعرضت عني..
حين انتصف الليل وغالب الكرى جفون سعدى ، نهضت متحاملة على نفسها توصد النوافذ والباب وقد سرت في جسدها قشعريرة . تثاءبت ثم... دق جرس الباب الخارجي...أيكون هو؟ أتكون أنت؟... أخيرا... أسرعت نحو الباب ثم توقفت... " لن تراني على هذه الحالة... فزيارتك أحب إلى قلبي من أي شيء... ستجد سعدى التي وله بها الرجال و غارت منها النساء ,،وأحبها الصديق كما مقتها وهابها العدو... سعدى التي هام بها الجن والإ نس... أليس ضامنها سعيد ورزقها يأتيها من بعيد و ظالمها يموت بالحديد..؟ اصبر قليلا... فقد صبرت أنا أكثر.. دعني أزف وأبد كما أشتهي...الآن مرحبا بك أيها الزائر الكريم.
فتحت الباب فاندفعت الريح إلى الداخل تخترق منامتها وتعبث بجدائل شعرها الفاحم...لا أحد... تلمح أحد الجيران يسير محاذيا الحائط . انه السي علي ، العائد لتوه من عمله بالمطعم البلدي...
- للا سعدى..؟ ماذا تفعلين في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ حذار من البرد..
- لقد...أوه... سمعت الجرس يرن و...
- لا شك أنهم أولئك الحثالة المتسكعون... ادخلي ، ولا تفتحي...الدنيا شرور.
- حسبته هو...
- أتقولين شيئا ؟
- أنا ؟ أوه ... كلا... تصبح على خير.
وتعود على أعقابها وفي نفسها ألف حسرة... فتجلس على الأريكة ونظرها لا يفارق الباب الذي تركته موربا.
يطلع النهار فتغص الدار بالزوار من جديد... وسعدى هي سعدى..دائمة الابتسام رغم الدموع المذرفة... دا ئمة الإشراق رغم القلوب المكلومة ، بهية الطلعة... رغم الرحيل...
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|