ميدان ورجال وأحداث
مَيْدَانٌ وأحْداثٌ ورجال
"والله إنكِ لَخَيْر أرض الله، وأحبُّ الأرض إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْت منكِ ما خرجت"... هذه هي الكلمات التي ردَّدَها الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى مكة بعد أن خرج منها متوجِّهاً إلى يَثرب بصحبة أبي بكر الصديق عشية ليلة الهجرة. تلك الكلمات التي عبَّر بها الرسول عن مدى حبه وارتباطه بمكة المكرمة فزاد تعظيمُها وجلالُها في قلوب المسلمين. ولنا في رسول الله الأسوةُ الحسنة، كلٌ منا لديه المكانُ الذي يرتبطُ به ويهواه، كلٌ منا له عشقُه لمكان، وكلٌ منا له أسبابُه في عشق المكان، والمكان هو بُقْعةٌ من الأرض غالباً ما يرتبط بأحداثٍ جسامٍ لا تُستهان، لها من التأثيرِ ما لها في قلب العاشق إنسانٌ كان أم حيوان ... وتختلف الأحداثُ ويختلف العشاقُ وتبقى الحقيقة ... الحقيقةُ التي تفرض نفسها على الحدث وعلى المكان، ويكون البطلُ فيها هو ذلك العاشقُ الولهان، هكذا تُولَد الأوطانُ وتتماسك الأركان فتظل الذكرى عَطِرةٌ مهما توالت الأزمان.
ومكانُنا الآن هو ذلك المَيْدان الذي يضم فَلَذاتُ أكبادِ هذا الشعب الذي أصبح على خلافِ ما كان .. شعبٌ حُرٌّ أَبيٌّ بعد أن انفجر البركان، وخرج شبابُه يهتفُ في سلامٍ ولكنه قُوبل بعاصفةٍ من الرفض والاسْتِهجان من أفرادِ وضباطِ النظام الفاسد الجبان، فكان ردُّ الشبابُ الفَتيُّ والشعبُ من ورائه في انتظار أن الله هو القويُ المستعان، هتف الشبابُ لا بد من إسقاط النظام، ورحيلِ رمزُ الفسادِ والطغيان، وتطهير البلاد من زبانيةِ جَهنم وأرباب الظلم والبُهْتان، وعدم استباحة ممتلكات الشعب وأكل مال الأيتام، وتغيير الدستور وتطبيق الشرائع ونشر الأمن والأمان، هتف الشباب مسلمٌ ونصرانيٌّ لا يرومون إلا السلام، وجعلوا مسيرتَهم سلميةً خالية من الإرهاب ومن وسائل الضرب والعدوان، فكان جزاؤهم جزاء ما أصاب قومٍ عاثوا في الأرض فساداً وخالفوا الضمائر والأديان. ولكن هل يسكت الجبناء؟ أمطروهم بوابلٍ من النيران وقنابلٍ تتهاوى عليهم من كل مكان، فسالت الدماءُ وزُهِقَت الأرواح ... ولكن تعالت الأصواتُ ودوَّت الهتافاتُ ودقَّت الأجراسُ وسُمع الآذان ... الله أكبر يا شباب، فُتحت عليهم خراطيمُ المياه تمنعهم من الصلاة والدعاء للواحد الديان، فصمدوا وتحمَّلوا وأدوا صلاتَهم وتوحَّد دعاؤهم رغم أنف الجبناء، فصعد إلى السماء صافياً خالصاً لربٍ لا يغفل ولا ينام، واختار اللهُ من بينهم شهداءَ كانوا ضحيةَ الأندال وزعيمَهم الندلِ الجبان، فَعَلَت الأصواتُ وكثرت صرخاتُ الأمهات في كل مكان، لم تعبأ بما جرى وما كان، تلملم أجسادَ الأبناءِ وما بَقِيَ منها من شتات، واحتسبت كلُ أمٍ وليدَها عند الله وجهَّزت له الأكفان ... وفجأةً من دُون مُقَدِّماتٍ ولا تَحَسُّبات انسحبت القواتُ من الميدان وتركت الوطنَ في كل مكانٍ فريسةً للسطو والسرقةِ وترويعِ السكان، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وهدأ الشبابُ من الترويع والضرب.. وما كان، فهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان ؟؟
انتشر الفزعُ والهلعُ بين الناس، فلا أمنٌ ولا أمانٌ يَشْعُر به دانٍ ولا قاص، فسُرِقَت الممتلكاتُ ونُهِبت المحلاتُ وأصبح كلُّ مُقَدَّسٍ يُداس، فوضى ... خوفٌ ... فزعٌ هلع، أغثنا.. أَجِرْنا يا ربَ الناس؟؟! فجاءت البشرى من رب السماء: كنتم قوماً بلا إحساس، فأردت أن تفيقوا وتستيقظوا قبل يوم الحساب، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ وعزيمةٍ وباس، فقد جُعِلْتُم خير أمةٍ أُخْرِجت للناس، وخرج الناسُ من بيوتهم أطفالاً وغلماناً وشيوخاً يدافعون عن الأعراض والممتلكات بلا خوفٍ ولا فزعٍ يقولون لا مِسَاس.
وهناك في ركنٍ من المَيْدان يَقْبَعُ مُتْحَفٌ له من السُّمُوِّ والعُلُوِّ مكانةٌ وشان، بناؤه عظيمٌ، ضرب في التاريخ من السنين عمراً قارب المائة عام، شيده المصريون بسواعدهم ليكون لهم دليلُ عظمةٍ وشاهدُ عيان، وضَمَّنُوه من تاريخهم تُحَفاً وأمجاداً وتماثيلَ ومومياواتٍ وجِفَان، وفي جنباته عَبَقُ حضارةٍ يشهدُ لها خوفو وخفرع وكلُّ فرعونٍ بنى وشيد في دابر الأزمان، نسيمُ تاريخٍ لأبطالٍ وحكامٍ حكموا بعدلٍ أو بظلمٍ تَقْشَعِرُّ له الأبدان، وهَانَ كلُّ ذلك على حفنةٍ من الأغبياء الذين استغلوا ثورةَ الشُّبان، فَسَوَّلَت لهم أنفسُهُم أمراً فلعب برؤوسهم الشيطان, جاءوا من كلِّ فَجٍّ بأمرٍ من رجالٍ كنا نَعُدُّهم من المؤتَمَنين أو الأطهار، ففضحهم الله بأفعالهم وأعمالهم، وهل يُفْضَحُ إلا من ارتكب المعاصي والآثام؟ اقتحموا المكان وقفزوا الأسوار وسرقوا الآثار وهتكوا السواترَ وقَطَّعُوا الأكفان، فهل كان يُظَنُّ أو يُعْقَل أن يفعل ذلك إنْسٌ ولا جَان؟ وَهَبَّ شبابُ الوطن بأيدٍ وعقولٍ وبطولاتٍ يشهدُ لها الثَّقَلان، تكاتفوا وتشابكوا جاعلين من صدورهم وأبدانهم دروعَ حفظٍ للمتحف والحديقة والميدان دون خوْفٍ ولا وَجَلٍ ولا تراجعٍ ولا استسلام، دافعوا واستبسلوا ونادوا جميعاً فلنحافظ على تاريخنا ومكاننا، ونَعَضُّ عليهما بالنواجذ والأسنان، وشاركهم دفاعَهُم جُنْدُ وطنٍ قِيل فيهم أنهم خَيْر جُنْدٍ على مَرِّ السنين والأعوام، فَصَدَّقوا قولَ نبيٍّ رسولٍ شهدت له الملائكةُ والسماوات والأرض أرسله ربُّ الأنام. وأين من كانوا وكانوا وكانوا ؟! حتى ظنهم الشعبُ أنهم هُمُ الشجعان، التزموا قصورَهم وحصونَهم، لم يبالوا بمن حولَهم حتى ماتوا في جلودهم من الوهم والخذلان.
وانتصرت ثورةُ الشبابِ وعَمَّت الأفراحُ في كل مكانٍ وميدان، وصارت الأمورُ والأحوالُ مبشرةً بعديدٍ من الإصلاحاتِ والرأبِ والبنيان، لا رَشْوةٌ ولا مَحْسُوبِيَّةٌ ولا ظلمٌ ولا طغيان، ولا ضابطٌ هناك يستخفُ بالمشاعر أو يَسْتَذِلُّ الضعيفَ أو يعامله بالهوان، فيا أهل الآثار المصرية والإسلامية والقبطية في كل دَرْبٍ وشارعٍ ومكان، هُبُّوا لنهضةِ وطنِكم عاقدين العزمَ على التفاني والعملِ والبحثِ والتنقيبِ أجيالٌ بعدها أجيال، ولا تستكينوا لأحدٍ عن أي ظلمٍ وبُهتان، ولكن قَوِّمُوا الظلمَ في كل صُوَرِهِ بالقلب واليد واللسان، فخائنٌ لوطنه وجيله من أراد الذلَّ لنفسه وسكت عن دَفْعِهِ أو اسْتَكَان، ويا أيها الأمينُ الذي أصبحت وزيراً بما أراد الله لك من رفعةٍ في الدرجةِ وعلوٍ في الشان اِتَّقِ اللهَ فينا وابتعد وابتعد عن المحسوبيةِ والمعارفِ والوسطاء، وبطانة السوء والجهلاء، وكُن أميناً فيما وَلَّاك اللهُ فينا وكن حريصاً على نشر العدلِ والقسطِ والخيرِ المستباح، فهناك قولٌ حكيمٌ مُنتهاه: من لم يتعظ بما رأى وتعلم مما كان فلا يلومَنَّ إلا نفسه يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنونَ ولا جَاه .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|