مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
الحفر في القلب - الكتاب الفلسطيني - طلعت سقيرق
[align=justify]أحيانا تمطر الأسئلة هكذا وكأنها عابرة أو شبه عابرة على الألسنة .. ولا ينتبه من يسأل أنّ الدمع يكاد يفور من العين وينزّ من كل الملامح.. تنظر في عين السائل ، في وجهه ، في ملامحه، فترى كل شيء طبيعيا!!.. تعذره فليس مطلوبا منه أن يعرف ماذا في داخلك من حرائق ودخان ودمار متروك دون أن تمتدّ أي يد لترفع آثار الوجع على أقل تقدير!!..
مرة سألتني واحدة من الصديقات :" لماذا تبدو الأمكنة غائمة في شعرك؟؟".. قلت بتجاهل مقصود:" يا صديقتي شعرنا الفلسطيني مليء بالأمكنة فلا تقفي عندي .. شعراء فلسطين الآخرون عوضوا عن التقصير الذي ترينه عندي .. أظن هذا كاف".. قالت:" لكنك حين تكتب عن مكان ما يشعر القارئ أن المكان يبكي ؟؟".. قلت :"ربما .. لا أدري هل المكان يبكي أم أنا".. قالت:" ولماذا تبكي أنت وما الداعي إلى ذلك؟؟.."..
قلت وكأنّ جرح القلب انفتح دفعة واحدة وأخذت كل السنوات تحفر فيه:" يا صديقتي أنا بالتحديد أكره الأمكنة .. أكره دروس الجغرافيا .. أكره كل تلك الوجوه التي تغني بفرح عن وطن ودار .. لأنني ببساطة شديدة لا أعرف أيّ مكان في وطني..لا أعرف أي تضاريس معرفة حقيقية تنمّ عن ملامسة ومعايشة .. وحين أردد النشيد الوطني أردده بدموعي وآهاتي وبكائي ودمعي .. قد يمر زمن طويل حتى أتعوّد على هذا الحس السيئ اتجاه الأمكنة .. اتركيني في أي شارع ، في أي وطن ، أو مدينة أضيع بعد خمس دقائق .. حقيقة أضيع ولا أعرف العودة إلى المكان الذي كنت فيه .. أصدقائي يتندرون عن نسياني للعناوين وضياعي وتوهاني في أصغر شارع .. قولي لي لماذا أحفظ أسماء الشوارع والأمكنة .. قبل الولادة أعدموا عندي بوصلة المكان .. سرقوا وطني .. قبل الولادة ضيعوني وضيعوا ملامحي حين أطلقوا الرصاص على ذاكرتي حتى ينتهي كل شيء .. هذا العالم الذي تفرحين بتقدمه وتطوره عالم جاهل مجنون مجرم اغتال كل شيء حتى قبل ولادتي .. أعدم كل شيء قبل أن آتي إلى هذه الدنيا .. والآن يريدون أن يضحكوا عليّ بقطعة من قطعة وطن .. يريدون أن أرقص وأغني وأدبك وأصفق للزعامات العربية والأجنبية لأنهم بعد كل هذه السنوات التي أصبح عدد الشهداء بعدد أيامها يريدون أن أحفظ تفاصيل قطعة مقصوصة من أرضنا .. يا صديقتي أنا ضد كل شيء ، حتى نفسي ، لا أريد أن أحفظ تفاصيل شيء .. إذا لم أعد إلى بيتي في حيفا فلن أحفظ شيئا.. سأبقى واقفا على رصيف الانتظار مهما طال الوقت .. يقولون مجنون .. صدقيني لن أكذّب احدهم لكن سأنتظر .. لأنني إذا تركت رصيف الانتظار وابتعدت قليلا أضيع , فانا كما قلت لك لا أحفظ تفاصيل الأمكنة .. فبالله عليك اتركي شعري والأمكنة ولا تحفري في هذا القلب أكثر فقط كفاني ما نلته من وجع حتى الآن .. هذه الأسئلة تقتلني فافهمي !!".. قالت لاهثة :" يا رجل مابك سألتك سؤالا فلماذا كل هذا الوجع والنزيف ".. نظرت إلى عينيها طويلا وقلت :" صعب أن تفهمي مهما شرحت ستبقى المسافة بيننا كبيرة فاسألي أي سؤال آخر .."..