التفكيكية
التفكيكية
يثير هذا العنوان تساؤلات عدة انطلاقاً من إمكانية وضع شجرة للأنساب تتناول بتفاصيلها التوالدات النقدية ، وسلسلة الطروحات التنظيرية التي احتضنت مسيرة النقد المعاصر ، ويمكننا وضع رأس الهرم النقدي لأنساب التفكيك على مستوى التداول النقدي وحسب ، ويتحدد هذا البناء في معطيات سوسير التي تعدّ بحق أسس تكوين منظومة التفكيك ، بمعنى آخر : كونها صاحبة (أبوة) التفكيك بلا منازع ، هذا فضلا عن جوانب أخرى تآزرت مع هذا المكون ، وتناصت معه ، فشكلت حلقة نقدية مضيئة ، أكسبت الدرس النقدي المعاصر إمكانيات مرنة مرة ، ودقيقة تحليلية مرة أخرى ، مما دفعها لاكتساب الشمولية والعالمية .
تتسم خطوة سوسير ـ الأب النقدي لدريدا ـ ( - 1913 ) في دراسة اللغة بالخطوة الجريئة، لأنَها حددت المُناخ الفكري والمنهجي للدراسات اللغوية القادمة والمتصاعدة من اللبنات الأولى التي حددها ، وقد انحصرت أبحاثه في الميادين الآتية : ( دراسة طبيعة اللغة ، واللسانيات ، وعلاقة اللغة بالتنوع الاجتماعي ) .
جاءت هذه الميادين ـ بشكل عام ـ لتعزز دراسة العلاقات الاجتماعية بالمقام الأول ، ثم اتخذت لها جوانب أخرى لتبشر بعلم يدرس العلامات والإشارات أطلق عليه سوسير :
( Semiotic ) ، فضلاً عن تقديمه خطوات لتحليل المرتكزات اللغوية والنقدية فيما بعد ، وتحديد أهمية الدراسات اللسانية في تحليل السلوك الاجتماعي ، وقد اتسمت هذه التوجهات بتحويل مسار البحث اللغوي من الوظيفة إلى العلاقة ثم إلى العلامة ( Sign ) ، بمعنى التوجه إلى اكتشاف المعطيات الخفية في الممارسات الاجتماعية .
واللغة وفقاً لتصور سوسير هي من خلق المجتمع ، ولا يستطيع أيّ فرد الاجتهاد في صنع لغة جديدة ، فضلاً عن عدّه اللغة الجانب الاجتماعي للحديث ، فهي بمثابة ( الدستور ) المُوّقَع من قبل أفراد المجتمع ، والفرد يستوعب ويمتص مفردات اللغة قبل أن يؤتى القدرة على التفكير ، ولكلَ نظام اجتماعي لغته الخاصة وطرق تفكيره المميزة .
أَسّسَ سوسير علوم اللسانيات الحديثة ، وأعاد تنظيم الدراسة المنهجية للغة ، وتناول دراسة السلوك البشري بوصفه سلسلة من الأحداث المماثلة للوقائع في العالم المادي المحسوس ، وتخضع هذه السلسلة إلى وظائف تؤديها الأحداث خلال الإطار الاجتماعي العام لغرض معرفة منازل السلوك البشري وتحليل فاعليته ، وإدراك تصوراته المختلفة ، ولم يتأت لسوسير دراسة تلك المنازل إلا عن طريق تقسيم أنماط العلاقات الاجتماعية على سلسلة من الاختلافات ، بمعنى تحليل بنية السلوك وفقاً لنسق الاختلاف ، وبهذا توصل سوسير إلى " إنَ المعنى ينشأ من الاختلافات " .
وبهذا تُشكل العلامة نسيجاً من الاختلافات قد تكون لا نهائية ، وبذلك تكون صلة سوسير بأبحاث ومنهجية ما بعد البنيوية صلة متينة تجعل من الطرح السوسيري أساساً للمرحلة
النقدية لما بعد البنيوية ( التفكيكية ) ، والقول أنَ سوسير يمثل مبادئ البنيوية أو أساسها ، هو قول يحتاج إلى تأمل دقيق ، لأن قراءة معطيات سوسير تكشف عن التمييز المبدئي بين البنيوية وما بعد البنيوية ، فالبنيوية تسعى إلى اكتشاف النسق المتناغم المنسق في حركة البنى داخل النص ، في حين تسعى ما بعد البنيوية إلى استبدال النسق المتناغم بالنسق المتسلط اللانهائي ، الناتج عن سلسلة من الاختلافات ، وهذا يوافق توجه سوسير الذي يمكن أن تكون معطياته منهجاً دقيقاً في تصنيف معطيات النظرية النقدية المعاصرة ـ حسب جوناثان كيلر ـ .
ومن المسائل المنهجية التي تدعم الرأي السابق هي : أنَ اللغة تمثل الجانب النسقي من اللسان الذي يُشكل بنية الكلام والكتابة والعلامة ذات الوجهين : الدال ( Signifier ) والمدلول Signified ) ) ، وقد أقام سوسير هذه اللغة بوصفها نسقاً كلياً مستقلاً عن الواقع الخارجي منطلقاً من افتراض السلوك الاعتباطي ( Arbitraire ) بين الدال والمدلول ، الأمر الذي مهدَ لدارسـي ما بعد البنيوية من تناول طرفي العلامة بطرق مختلفة ، إذ تابع نقاد ما بعد البنيوية فعالية الدال المتواصلة في تشكيل سلاسل وتيارات متقاطعة من المعنى مع دوال أخرى ، مع إهمال المتطلبات التقليدية للمدلول الداعية إلى مقابلة كل دال بمدلوله ، ولهذا ذكر ( رامان سلدن ) أنَه يمكن العثور على بدايات ما بعد البنيوية في نظرية سوسير اللغوية .
وفي رؤية مماثلة يؤكد ( ليونارد جاكسون ) أنَ سوسير الحقيقي قد اختفى تماماً خلف شخصية الفيلسوف اللغوي المثالي ، وتمت إعادة بنائه لخدمة الأغراض التي وضعها بعض البنيويين ، ويذكر أيضاً أنَ أشباح ماركس وفرويد وسوسير ترتاد النظرية الحديثة قائلة :
" لم أقصد هذا ابداً ! " .
قدَم سوسير استراتيجيات شكلية للفكر الحداثي ، إذ ركز في دراسته للغة على المشكلات التي تعدَ في صميم طرق التفكير الحديثة لا سيما طبيعة العلاقة بين اللغة والعقل ، التي تقتضي ميل الفكر الإنساني إلى تنظيم الأشياء في أنساق يمكن عن طريقها أداء المعاني ، فضلاً عن تنظيم التجربة الإنسانية وفقاً لدراسة عامة تستقصي نظم العلامات ، وإمكانياتها في تفسير الوجود .
لقد أسست أفكار سوسير نموذجاً معرفياً جديداً ، امتد تأثيرها إلى مختلف العلوم الإنسانية من أنثروبولوجيا وأدب وعلم النفس ، وأصبحت اللسانيات التي بلورها تشغل موقعاً مركزياً داخل العلوم الإنسانية ، لأنَها قدمت تصوراً جديداً حول إعادة تنظيم دراسة اللغة من خلال تفكيكها إلى مجموعة من الأجزاء التي تتكون منها ، وهذه الأجزاء هي وحدات مختلفة متباينة تشكل مجموعها خصوبة النتاج النصي .
وبهذا قدَم مشروع سوسير اللساني لمنظومة النقد المعاصرة ، مفاهيم مركزية كانت الأساس في تلمس الأحكام النقدية فيما بعد ، ويمكن تحديد معالم هذا المشروع بالمفاصل الآتية :
1. اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول .
2. الفرق بين اللغة والكـلام .
3. مفهوميَ التزامن والتعاقب .
4. الدراسة الصوتيــــة .
إنَ هذا المشروع يقوم أساساً على عملية الفصل بين الثنائيات ، فاللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية يفصلها سوسير عن الكلام بوصفه مؤسسة فردية ، وطبيعة الدليل اللغوي تفصل الصورة العيانية ( الدال ) عن الصورة الذهنية ( المدلول ) ، انطلاقاً من علاقة الاعتباط ( المفترضة ) بينهما ، ودراسة اللغة تفصل بين مفهومين لإدراكها : المفهوم التزامني ( Synchrony ) الذي يصف العلاقات المنطقية والنفسية الرابطة بين العناصر ، والمفهوم التعاقبي ( Diachronic ) الذي يدرس العلاقات الرابطة بين العناصر بشكل متعاقب في صيغ تاريخية ، إذ يحلَ كل عنصر محل العنصر الآخر من دون تأليف نظام معين .
إنَ سمات الرؤية الألسنية للغة وفقا لسوسير ـ تتحدد بدراسة العلاقـات والتعبيـر عن الأفكـار ـ وتحديد وجود الكيان اللغوي من خلال الارتباط الحاصل بين الدال والمدلول ، وبهذا تميزت اللغة عند سوسير بما يأتي ـ ينظر : علم اللغة العام ـ :
1. اللغة شيء محدد تحديداً واضحاً ضمن الكتلة غير المتجانسة لعناصر اللسان .
2. اللغة تختلف عن الكلام في أنَها شيء يمكن دراسته بصورة مستقلة .
3. اللسان غير متجانس ، أما اللغة فمتجانسة ومتشكلة من نظام من العلامات .
4. اللغة شيء ملموس ، وهي نفسية ، إلا أنَها ليست تجريدية ويمكن تحويلها إلى رموز.
5. تعد اللغة نظاماً من العلامات تعبر عن الأفكار .
6. العلامة النصية تربط بين الفكرة والصورة الصوتية أي بين الدال والمدلول ، وليس بين الشيء ومسماه .
7. العلامة النصية لها صفتان أساسيتان : ( الاعتباطية ، والطبيعة الخطية للدال ) .
8. عالجت اللغة طبيعة الثنائيات الضدية ، وحاولت كشف البنى العميقة في النص .
9. اللغة صيغة وليست مادة ، فاللغة نظام من القيم تتبادل العلاقات فيما بينها ، وأنَ تحليل اللغة هو الكشف عن نظام القيم التي تشكل وضعية اللغة(13) .
10. تمتاز اللغة بوصفها نظاماً من التقابلات والاختلافات ، فضلاً عن علاقات التماثل وعلاقات الاختلاف الكائنة في بنيتها .
وقد كان من نتائج هذه السمات عدَ القيمة عنصراً دلالياً ، لأن الدلالة ناتجة عن علاقات المدلولات ببعضها ، أي : عن قيم المدلولات ، فضلاً عن عدَ اللسان نسقاً دلائلياً ، لأنَ إنتاج الدلالات أو المعاني يرتبط بالواقع الثقافي الذي يتحكم في بناء اللسان ، ويؤدي إلى تأويل تتحكم فيه شروط ثقافية معينة ، وتتحكم فيه أيضاً مجموع عناصر النسق ـ ينظر : مدخل للسانيات سوسير ، حنون مبارك ـ .
إنَ استثمار ما بعد البنيوية لهذه النتائج حدَد لها مواقف منهجية تجاه اللغة وطبيعة الدليل الذي امتلك فاعليته من خلال سلسلة الاختلافات المتموضعة داخل النسق ، فضلاً عن توسيع الهوة بين الدال والمدلول التي بدأها سوسير من خلال مفهوم الاعتباطية .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|