صديقي .. كيف الوصول إليك في زحمة العمر ؟!
وإذا وصلت إليك ، هل أستطيع الحديثَ معك ،كما كان عهدي معك قبل زمن طويل ، فأُخبرك عن أماني غرّ الأحلام ، فتتضاحك علي من القلب وأنت تقول لي : أحلامك أحلام مترف ، في فمه ملعقة ذهب ،يقول للفقراء بحماس وطرف بلاهة : كيف تتشكون ندرة الخبز وارتفاع سعره ولا تأكلون (الكروسان ) بديلا طيبا عنه ؟!
فأتقاتل معك ، وأشتمك ، ونتسابب ، ثم أخاصمك أياما ، ونعود لنتصالح ،وأنا أقول لك : يا خبيث ! في فمي ملعقة ألماس وليست ملعقةً ذهبا ! (ثم وأنا أضربك بجمع اليد )لا تخطئ يا مجذوب في الكلام ! في فمي ملعقة ألماس ! اتفقنا ! لا تنسى هذا أبدا ! فتقول لي ، وأنت تتفادى سيل لكماتي : أمرك أستاذي ! توبة ملء الأكوان ! هل هذا يرضيك؟! ( وتضع يدك على فمك على شكل مايكروفون ، وتصيح بملء الصوت ) ياعالم يا هُوْ.. ملعقة ألماس ، في فم صديقي المجنون جدا ، الأستاذ ماجد صالحاني ، صاحب الإمبراطورة ماري أنطوانيت سيتكلم !
وتعلو ضحكتنا ونحن نتعابث !
ولم أدرك، أنك كنت على الصواب ،فيما ذهبتَ إليه من خطأ ترف أحلامي، إلا حينما عضني الجوع بضراوة ، وبحثتُ بجد عن سداد رمق العيش ! ووقتها قلتُ بجسارة لم أعهدها في نفسي : المُنْعَم المتْرَف ، قد يدرك ألم الجائع الساغب،لأن الله فَرَضَ عليه الصوم،وفرض عليه الزكاة والصدقات في ماله! لكن من يمسك الجمر في يديه ، ليس كمن يستدفئ به ! والخاشع غير المتخاشع .
نعم ! ذهب اليوم مني كل المال الذي تعرفه! وبقيتُ صفراً ! خِلْواً ! يعضني الجوع والدََََََََيْن ! لكني عندما بحثت في كل الوجوه التي أعرفها ، لم أر صورتك فعزمت الوصول إليك !
خفق قلبي ، وابتلعت ريقي وأنا أدق باب مكتبك !
:- السلام عليكم ! الأستاذ مروان عبد الكريم إذا تكرمتِ !
فاتنة ، بل قاتلة بسحر عينيها الناعستين :- أهلا وسهلا .. تفضل ! تفضل !
نسيتَ سبب زيارتك ! ليت هذه الفتنة تُطيل الوقوف أكثر! وليت هذا العَبَق يبقى معششا في صدرك !:- قولي له ماجد صالحاني .. ( وأنتَ تصطنع سعلة خفيفة ) صديق قديم ! ( ثم ضحكتَ .. ببلاهة واضحة لا معنى لها ).
غاب السحر لدقائق ، ومازال عطر ساطع يزكم أنفك ، وقلبك يرتجف !
ونسيت لدقائق أنك جائع ومفلس وخمسيني العمر! وكأنك تشاهد وجها جميلا لأول مرة! وهبه جميلا حقا! أنسيت عمرك ؟! وناسك ؟! وأحفادك ؟!
بل هي الفتنة! بلى هذه هي الفتنة وسر سحر( هاروت ) وأنت جنون أهل بابل وكوكبة أهل الشرق القديم!
:- الأستاذ بانتظارك !
ولماذا لم يخرج لاستقبالي ! (قلتها في نفسك بمرارة ) ،وتنحنحتَ ، وأنتَ ترد الباب خلفك ثم وأنتَ تدخل.
:-أهلا ماجد .. من زمن هذا القمر ما بان !
وظل جالسا .. هذا القمئ !.. الصديق القديم !
ولما رأى الاستغراب في عينيك :
- لا تؤاخذني يا ماجد ! آلام الديسك لاتطاق !
(ومع فتنة الخارج هل تطاق كل آلام الدنيا جرعة واحدة )؟!
وبهدوء رخيم تابع ، وهو يشعل سيجارا كوبيا :
- طبعا قهوة قليلة السكر كعادتك !( وهو يضغط على الجرس ) المشاغل يا ماجد ! ( وغمز بعينه ، واكتشفت أن عينيه خضراوتين وواسعتين ، وأنه يخفي بمهارة بوادر صلع! وتابع مع سيل المجاملات الفارغة ) ..عجبا كيف يمضي اليوم ! أعمال ومشاكل وهموم ! الله يرحم أيامنا أيام زمان ! وعلى فكرة ، سمعت بتعسرك المالي وتألمت كثيرا .. (ثم بصوت هامس تابع بشبه حماس، وأنتَ ما تزال تدقق في شعره بفضول لا معنى له! ولما أدركت أنه نمط من زراعة بدائية غير متقنة ، سررت كثيرا باكتشافك) !
- أنت سيد الرجال! كلنا في خدمتك!
(كاذب ! دائم البول على عقبيك! وأنفك ما زال يسيل باستمرار! لُكَع ابن لُكَع ! وصدئ طوال عمرك، وستبقى صدئا )!:
- شكرا ! شكرا !
:- والله أنت سيد الرجال !
:- شكرا .. أنا بخير.. الحمد لله !
:- ولَوْ يا شيخْ ! المليون دولار ، وما بعد المليون في خدمتك !
(سمعتُ عن ارتياحك المالي! قم إذن واكتب شيكا! أوافتح خزنتك! أنا اليوم في التراب)!
(أرجوك يا سيد مروان يا عبد الكريم يا صديقي القديم أبق علي! أنا بحاجة إلى وقفة شرف منك! أنا لا أطلب منك صدقة أو زكاة ! أريد قرضا حسنا ! ساعدني كما ساعدتك في بدء طريقك ،فكنت نِعْم العون لك ! همّة من أهل الخير يا أهل الخير! أيه يا نشامة! أنا ماجد صالحاني باسمي الكبير أطلب مساعدة! لقد وقعت وتعسرت ولم يسم علي أحد..أرجوك يا مروان! لا تنسى إن كل العز الذي تنعم فيه الآن سببه الله ثم أنا العبد الفقير)!
:- طوِِِِِِِِِِِِِِِِِل بالك ! أين سرحت ؟! نصف الألف مائة عند المتصوفة! وخمسمائة في عالم المال !
قل في عالم وحش المال:- أبدا .. يبدو أنني سآكل الصفعة لوحدي !
- ولا يهمك ! كلنا معك !
(لا أريد كلاما ! تحرك ! داخلي جمر يتقد، بل داخلي نشيش احتراق) !
ثم وأنت تستعد للانصراف :- هل تريد شيئا ؟!
:- أبدا ! لن أنساك أبدا .. ( وهو يضرب كتفك ) الشجرة المثمرة تتحمل أثقال الكون دائما ! سأراك قريبا إن شاء الله !
وغادرتَ المكتب ! وبصقتَ على نفسك ويومك وزمنك وعقم اختيارك!: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد أملتُ بغيرك والتجأت لغير وجهك يا ربي ! (وعضضت شفتك السفلى ) لكني لم أمت بعد ! وساعداي قويان ، وهمتي عزم قوة شباب ! (ومسحتَ عرقك ) الغد قريب لا يزال ! والخير ، لا شك ، بعد خطوة ! والصبح ينتظر خلف حجاب رقيق! .. وأبدا لن أنهار ! هل تسمعني يا مروان الزفت ؟!
واستدرت ثانية باتجاه مكتب صديقك مروان !.. أنا مجنون .. لاشك أنني مجنون ! هكذا كنتَ تقول عني ، فتلق مني يا عزيزي إعصار الجنون !
:- أوووه ! أهذا أنت ؟!
فتحتَ الباب بجفاء،وعلتِ (الفتنةََََََُ) ذهول ، وتابعتْ بارتباك:- مسيو مروان ليس هنا يا أستاذ ! لقد خرج للتو !
( الكلب علَََََََََََََََم الفتنة الكذب ! الفتنة تجيد الكذب ! الفتنة لا تتقن الكذب، وهي كذبة ، وجميلة أيضا ) ! وكعاصفة عاتية أزحتها قليلا ،ثم بخطوة جريئة اتجهت أمامها ، وصوتها يلاحقك بذعر: - سأنادي الشرطة !
لكنك كنت قد وصلتَ إلى مبتغاك.. وصديقك مازال في مقعده يدخن .
ارتبك لمرآك:- أهلا ماجد ! هل نسيت شيئا ؟!
:- أبدا ! .. إنما نسيت أن أقول لك إن الجوع جوع النفس! ومن كان عمره جائعا ، سيبقى جائعا ولو أُتخم بكل لذيذ أطايب الطعام ! وقديما قالوا افعل الخير مع أهل الخير، وليس مع الجرابيع حديثي النعمة، وارمه في البحر! (وحاولت أن تبصق عليه فتمالكت نفسك ) ثم صفقتَ الباب بقوة وأنت خارج ، يحدوك شعور ارتياح عميق !
كان الوقت ما يزال ظهرا ، ودمشق كرة ملتهبة ، وأنت تتصبب عرقا ، واطمئنانا ، وسكينة ! والناس لَغَط وكُتَل هموم تمشي في كل درب !
وقلت بحكمة مُجًرِِِِِِِِب: قد يسخر امرؤ من نفسه أوََََََلاً حين يزعم أنه قادر أن يتصرف في دهره كيف يشاء!
( وأعجبتك الفكرة ، فتابعت وأنت تسير على غير هدي محدد)
ما نحن سوى ذرة ضعيفة في كون هائل ، تعرض لها عوارض تشبه القوة ، بتسخير القادر العليم ، خالق كل شئ ، فنزعم أننا ملكنا كل شئ !
( وهرشت رأسك الأقرب إلى المربع )
سأعتبر أن ما فات صورة ..بلى هو صورة لا روحا أبدا،وجميعه مستدرك إن شاء الله !
( ثم انثالت الأفكارعلى ذهنك ، فهززت رأسك بوقار تعهده من نفسك عندما
تفكر بعمق)لكن لايعني ذلك إن عِلْم الله بأعمال العباد وأفعالهم وماسيؤولون إليه ،هو من بابة الجبر، كما تعارفنا عليه ! فصفة عِلْم الله (مطلق الكشف)، .. كََتَب في اللوح المحفوظ أعمالنا وأفعالنا، لأنه يعلمها ! ولا تأثير لذلك في مطلق إرادتنا وجميع اختياراتنا !
( وتعرقلتَ بحمََََال ، فشتمك ، فابتسمت ) !
عِلْم الله ، عِلْم كامل ، ليس فيه إجبار، وبإرادتنا نختارالخير، فنعمله، فييسر الله لنا الطريق ! والشر نحن نختاره ،فنعمله،فنُحاسب عليه! ولسنا مقهورين بكتاب سابق خُط في الأزل !
لكن عجبا مما أقول! بل كيف تعتلج مثل هذه الأفكار في رأسي، وأنا جائع ومفلس وشبه وحيد ؟!
وسمعتَ الآذان ، فيممتَ اتجاه الجامع القريب ،وركضتَ في الشارع بقوة وحماس ومرح ، وأنتَ تقول : إذا كانت الدنيا لعبة كرة قدم ، فلن أسمح أن أكون متفرجا في المنزل ، أو مشجعا في الملعب ، كما لن أرض أن أكون في موقع الدفاع عن الفريق ، أو حارسا للمرمى،أو حَكَما! أنا لن أرض إلا أن أكون مهاجما ، بل سأبقى دائما قلب الهجوم !
ومرت سيارة طائشة ، وأنت تقطع الشارع .. وارتميت باسما على الأرض
:- يا شباب .. سيارة إسعاف !
:- لاتتجمهروا .. المسكين ما يزال يتنفس !
:- ماء من فضلكم ! من عنده ماء !
:- لا حول ولا قوة إلا بالله !
:- ابتعدوا عنه ! ابتعدوا ! سيختنق من تجمعكم !
:- يخرب دياركم ! هذا ماجد صالحاني !
:- أكيد ضربة شمس !
:- هذا يعرف ضربة الشمس ؟!
:- عنده ميزانية البلد !
:- لكني سمعت أنه أفلس ، وحُجز على أملاكه !
:- مثل هؤلاء لا يُخشى عليهم ! أكيد أمواله كلها برََه ..في دبي وسويسرا !
:- إذن يستاهل أكثر !
:- لا.. حرام ! يده لا تعرف سوى مطلق الخير للجميع!
:- هذا صحيح ! بيوت بحالها مؤونتها عليه !
:- يقال عينه زائغة ، و(مزاريبه) لبرَََََََََََََه !
:- بل هو من أولياء الله المستورين ! كلكم جهلة، ولا تعرفون حكمة الله في خلقه!
أصوات .. ووجوه .. وصخب .. وضوضاء .. وأنت ترى الجميع بعين هادئة ، وما زلت تبتسم بثقة واطمئنان غريب !