ثلاثونَ أو تربو قليلاً مضَتْ، الثّغرُ الباسِمُ نفسُه، العينانِ الحزينَتانِ ذاتُهما، لم يتغيّرِ الكثيرُ في الحقيقة، فعَلْقمُ الحياةِ مستساغٌ، والثباتُ على وضْعٍ واحدٍ نعمةٌ؛ صعبةُ المنالِ، وتبقى طلائعُ الأملِ الذي يحلمُ بالاستقرار...ولكن هيهات!
ماتتْ جميعُ الأحلامِ في يقظةٍ لم يعقِبْها نومٌ، و وُئِدت كلماتُ الحُبِّ و السعادةِ والنّجاحِ في مهدِها، بل حتى المهدُ نفسُه، اختطفَتْه صرْخاتُ الألم، لتقايضَه ببعضِ فُتاتِ الأمان، ماحيةً بذلك كلَّ ذِكرى وكلَّ معنى من معاني تلك الكلمات..
عنيدةٌ هي الدّنيا، شديدةٌ في قسوتها، ومع ضحاياها تتجرّدُ من كلّ الأحاسيس، وكما أنّ المصائبَ لا تأتي فُرادى، فهي تأبى أن تأتي رؤوفةً، أو رحيمة.. وتتقلّبُ الضحية في مهاوي الشّقاءِ أُلعوبةً بين مخالبِ الدنيا.
و تلوحُ خيوطُ الفجر في الأُفق، تسبقُ الصباحَ الذي يمشي وراءَها مسرعاً، يحملُ بين جنْبَيه وعاءَ الشروق، ليسكبَه فوق عَتْمات الليلِ، ويتسلّلُ نورُه اللطيفُ إلى نفوسٍ عطِشتْ لشربةِ أمل، ويغمرُها بالدفءِ بعد الحرمان.
يهدأُ كلّ شيء، ويسودُ السكون، وتُغْمَض الأجفانُ مُستسلمةً إلى سحرِ العالَم الذي لطالما خفى عنها، عالمِ الاستقرار والطّمأنينة، وبتعاقُبٍ غيرِ مسبوقٍ، تتوافَدُ على القلبِ والعقل معاً، إشاراتٌ وإضاءات عن معانٍ جديدة، ومذاقاتٍ غير مألوفةِ اللّذّة، فتطيبُ النفس بالهناء، وتشفى الجروحُ ببلسمِ الفرح، وينتعش القلبُ بألوانِ الرّضا.. إيذاناً ببدء رحلةٍ طالَ انتظارُها، إنها رحلةُ السعادة.