الفرج .. في مكان ما
العطاء بُعْد ِبلا حدود ، قد يبتدئ بابتسامة مشجعة ، وكلمة شكر، وينتهي إلى مؤازرة حقيقية تُغْني وتَفْتح كوى الأمل الهاجعة !
ووقتما يتحول الفعل إلى صدق حقيقي ، وليس زيف كلام ، يكبر كل غد ،وتشعر أن لك دوراً ما ، أو كيانا مميزا ، في غمرة دورة العمر !
وقديما وصفت العرب أريحية العطاء ، وهزة الكرم ، وجُود النفس، ودعتْ إليه ..لكن يبقى كل ذلك مجرد صور لوصف نبيل ، لا يُرى إلا إنْ أظْهَرَه الفعل، وساعدتْه إرادةُ الخير! وفي كلام العامة يقال : البيض لا يُقلى بالهواء ، ودسم المرق يحتاج لحما! ومطلق الدعاء لايصح دون أخذ أسباب النُُُُُُُُصرة والتمكين !
وفي كتابه (البخلاء)،حكى الجاحظ عمرو بن بحر(ت:255هجرية)حكايات كثيرة عن (فلسفة ) البخل ، ومرض (تبرير) أخطاء الذات وسوء تصرفاتها، فدعا، بإشارة حانية،تشير من بعيد ، إلى تجاوز أنانية النفس، وتحويل كل كلام، إلى قوة عزم صدق فعل. فحكى عن أحد ولاة فارس،أنه كان يوما في مجلسه ،إذ نجم شاعر بين يديه ، فمدحه وقرَََََََََظه، فلما فرغ،قال الوالي لكاتبه :أعطه عشرة آلاف درهم .ففرح الشاعرفرحا عظيما ، فلما رأى الوالي ذلك منه ، قال لكاتبه : اجعلهاعشرين ألف درهم ! فكاد الشاعر يخرج من جلده! فقال الوالي:اجعلها أربعين ألف درهم! فكاد الفرح يقتله! ولماخرج الشاعر، قال كاتب الوالي : سبحان الله ! هذا كان يرضى منك بأربعين درهما، تأمر له بأربعين ألف درهم ؟! قال : ويلك ! وتريد أن تعطيه شيئا ؟! يا أحمق ، إنما هذا رجلٌ سرََنا بكلام، وسررناه بكلام ! فهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد ،وأن لساني أقطع من السيف ، وأنفذ من السِِِنان ، هل أفادني شيئا أرجع به إلى بيتي ؟! ألسنا نعلم أنه كذب ؟ولكنه سرنا حين كذب لنا ، فنحن أيضا نسره بالقول ، ونأمر له بالجوائز ، وإن كان كذبا، فيكون كذبٌ بكذبٍ وقول بقول! فأما أن يكون كذبٌ بصدق وقولٌ بفعل ، فهذا هو الخسرانُ المبينُ الذي سمعتَ به !
ومن طرف ثان ، تحدّث التاريخ ، عن صورة أخرى مغايرة عما نحن فيه ،فأخبرنا عن عكرمة الفياض الربعي (جابر عثرات الكرام ) والي الجزيرة زمن سليمان بن عبد الملك ، وعن خزيمة بن بشر الأسدي، (وإن كنتُ في ريب من صحة الحادثة! فعكرمة وخزيمة لم أجد ترجمة لهما ، والقصة أتت من مصدر متأخر،ذكرها شمس الدين بن أحمد المقري المتوفى عام 1041 هجرية في كتابه : (المختارمن نوادرالأخبار ) فحكى لنا أن خزيمة بن بشر، كان مشهورا بالمروءة والكرم والخير، ولما تعثرت حاله يوما، قام بمواساته إخوانه الذين كان يتفضل عليهم،لكنهم ملوا من ذلك لطول المدة ! فلزم خزيمة بيته ، واقتات بما عنده ، حتى أُسقط من يده ، ونفد ما عنده !
وصَدَفَ أن جماعة من وجوه أهل الرقة ، كانت عند الوالي عكرمة الفياض ، فجرى ذكر خزيمة ، وما آل إليه ! فعمد عكرمة سرا، في جنح الليل ، إلى بيت المال، وأخذ منه أربعة آلاف دينار، وضعها في كيس ، وخرج متنكرا، حتى وقف بباب خزيمة . ولما أعطاه كيس النقود ، قال خزيمة: والله لا أقبله أو تخبرني من أنت ؟! فقال عكرمة : أنا جابر عثرات الكرام !
وانصرف .
ولما رجع عكرمة إلى بيته وجد امرأته قد افتقدته حتى ارتابت فيه ! ولما رأته لطمت خدها، وقالت : يالسوءة فعلتك مع ابنة عمك! أميرالجزيرة لا يخرج في هدأة من الليل سرا دون غلمانه إلا إلى زوجة أو إلى سريِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِة !
فقال لها: علم الله أني ما خرجت لواحدة منهما !
فقالت : فأخبرني إذن فيما خرجت ؟!
قال :يابنة عمي ! إني ما خرجت في هذا الوقت ، إلا وأنا أريد ألا يعلم بي أحد !
قالت : فلا بد أن تعلمني !
قال : فاكتميني إذن !
فأقسمت ، فأخبرها القصة على وجهها ، فقالت : الآن سكن قلبي !
وأما خزيمة ، فبعد أن أخذ المال ، أصلح من شأنه ، وقضى دينه ، وتجهز قاصدا سليمان بن عبد الملك. ولما حضره ، استأذن عليه ، وحدثه عن سبب إبطائه عنه ، وأخبره بقصة زائر الليل . فقال سليمان : فهل عرفته ؟!
قال : لا والله ! كان متنكرا ! وما عرفت إلا أنه ( جابرعثرات الكرام )!
فقال سليمان : لو عرفناه لأعناه على مروءته ! وعَقَد لخزيمة على ولاية الجزيرة ، وعزل عكرمة ! فلما صار خزيمة إلى بلدته الرقة ، نزل دار الأمارة ، وطالب عكرمة بحساب بيت المال . فامتنع عكرمة من أداء وجوهه كاملة ! فضيق عليه خزيمة بالحبس والحديد ! وأقام على ذلك شهرا! ولما بلغ ذلك زوجته ، أمرت جاريتها أن تمضي الساعة إلى باب الأمير،وتخبره على لسانها : مكافأتك جابر عثرات الكرام الضيق والحبس والحديد؟! فلما سمع خزيمة قولها قال : واسوأتاه ! (عكرمة) جابر عثرات الكرام !
وأمر بدابته فأسرجت ، وركب مع وجوه أهل البلد إلى الحبس، وافتك قيدعكرمة ، ثم عزم بوضع القيود في رجليه ، وأن يناله الضر مثل ما نال عكرمة ! فأقسم عليه عكرمة ألا يفعل ! فأمر له خزيمة بالحمام ، وتولى خدمته بنفسه ، ثم سار معه إلى سليمان بن عبد الملك ، وأخبره بالقصة ،فعقد سليمان له على الجزيرة وأرمينية وما حولهما ، وقال : إن شئت عزلت خزيمة ! فقال : بل يبقى على عمله يا أمير المؤمنين !
وانصرفا جميعا ، ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته !
والقصة جميلة كقصة ، وليست حدثا تاريخيا ، وربما تكون لليافعين أكثر تأثيرا من الكبار!
وبالفعل ، فأنك قد تتفاجأ،وأنت في غمرة هموم اللقمة ،ببطاقة رب الأرباب، خالق الأكوان،يرسلها إليك، من باب لا تتوقعه،وليس في حساباتك الأرضية ! فلا تدري هل تبكي وأنت تشكره أم ترجوه وأنت قد رأيت قرب الفرج ،أم تقول ، وأنت تخرج من غرق همك: إذن كل جميل حكايات التاريخ صدق وواقع ملموس معاش،ولم تك يوما مزجاة وقت، أوإثارة حماس هاجع! فلَمْح الفرج قد يأتي من درب لم نره،أو من درب كنا نراه ولم نعره أدنى اهتمام !
فمدارالأمركله صدق اليقين،وصدق التوكل،وصدق السعي،وصدق الانتظار ، وفي كلٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ ذلك منتهى الخير!
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|